رزان، الدور والقضية والرمز


ياسين الحاج صالح
2019 / 4 / 11 - 21:17     

ليست رزان زيتونة فريدة عصرها، لكنها قريبة من أن تكون كذلك. المرأة الشابة الشقراء، الخجولة، التي كانت تخرجت لتوها من كلية الحقوق في جامعة دمشق، كانت تُظهِر يوماً بعد آخر خلال عشر سنوات من العمل العام شجاعة وصلابة معدن استثنائية، وقدرة مميزة على تنشيط من هم حولها.

الدور
لم تأت رزان إلى العمل العام من صفوف المنظمات السياسية المعارضة، ولم تمر بمرحلة تنشئة إيديولوجية يسارية، تقليدية أو غير تقليدية. ورغم أنها منذ تخرجها من الجامعة عاشت في بيئة ناشطين ومعتقلين سياسيين يساريين وغير يساريين سابقين، وأرادت دوماً أن تتعلم منهم، وتعلمت، لكنها شقت دربها باستقلال وندية، وعاشت زمنها لا زمنهم. كان ذلك موسم "ربيع دمشق" الوجيز وما بعده، موسم انفراجة عابرة تلاها تضييق موصول على أي أشكال مشتقلة من العمل العام. رزان التي كانت ضمن فريق محامي الدفاع عن معتقلي "ربيع دمشق"، وطردت من "محكمة أمن الدولة" عام 2002، صارت خلال سنوات قليلة ناشطة حقوقية معروفة وكاتبة مرهفة الإحساس. ككاتبة، كان أسلوبها رائقاً دوماً، يخلو من الحشو، ومن التهويم والتجريد، ومن النرجسية، ومن مخادعة القارئ أو ترهيبه. وما كان يُفعِم نصوصها من حس إنساني من جهة، ومن غنى بالتفاصيل من جهة ثانية، كان يعطي الانطباع بتمرسٍ لا يتحقق إلا لمن تعيش حياتها حياتين، متكرسة في العمق لقضية هي عملها، ولعمل هو قضيتها. لحياة هي القضية والعمل.
شخص رزان هو دورها، ودورها هو شخصها. ليست امرأة قاسية صلبة. كانت تخشى الاعتقال كثيراً، لكنها وقت جاء عناصر المخابرات إلى مكتب قريب من الجامعة شاركت في العمل فيه لبعض الوقت لم تسمح لهم بدخوله رغم خوفها. ووراء العزم الذي لا يَكلُّ كان هناك قلب دافئ. كانت المرأة الناحلة مثل أمٍ لفارس مراد الذي كان في عمر أبيها، وبكته بكاء مراً وقت مات عام 2009 وهو دون الستين، قضى نصفها معتقلاً. تدربت على رقص التانغو والفلامنغو، ربما في جهد منها لضبط فوران داخلي نشط، ولكن كذلك في تطلع إلى الحرية وإغناء الحياة. ولم تكن رزان بحال امرأة متجهمة تنافس الذكور على التأثير. كانت تتغزل بممثلين تحبهم، ريتشارد غير مثلاً، وكان وائل يرمقها بغيرة مصطنعة، ويأمر: تضبضبي! خلال شهور اعتقاله بعد الثورة، كانت رزان المتوارية تغازل المعتقل الغائب بكلمة بسيطة فخورة: بطلي!
ثوَّرت رزان فكرة حقوق الإنسان في سورية. الفكرة التي كانت ولدت في تسعينات القرن العشرين على هوامش بيئات يسارية معارضة، تعرضت لهزيمة سياسية على يد النظام وهزيمة إيديولوجية بسقوط "المعسكر الاشتراكي". كانت فكرة حقوق الإنسان خط تراجع غريزي إن جاز التعبير، يستأنف "حداثة" تعثرت للتو تعبيراتها التنظيمية والإيديولوجية الموروثة، ويدافع عن "حقوق" سياسية ومدنية لـ"أنسان" كان المئات منه لا يزالون في السجن وقتها. بحكم ملابسات الميلاد هذه، كانت دعوة حقوق الإنسان مشدودة إلى بيئات من الطبقة الوسطى المتعلمة، وإلى عالم المعتقلين السابقين والناشطين السياسيين الذي كان يزداد ضيقاً. رزان كسرت هذه القوقعة، ونقلت فكرة الحقوق إلى... الشعب. دافعت عن حق العدالة للجميع، بمن فيهم المعتقلين السلفيين الذين كانت ضحيتهم في النهاية. كانت تزور أسر معتقلين سلفيين فقيرة في العتيبة ومناطق الغوطة الشرقية، وتكتب تحقيقات عنهم، أذكر منها ما نشر عام 2007 في موقع "الأوان" الذي عملنا فيه معاً لأقل من من عام. لم ترتكب رزان خطأ في دفاعها عن حق السلفيين بالعدالة، بل ضربت مثلاً أخلاقياً رفيعاً، يضع السلفيين الذين اختطفوها مع زوجها وائل حمادة ومع سميرة الخليل وناظم حمادي في موقع أخلاقي أدنى بما لا يقاس من موقعها. ولكانت رزان دافعت عن حق الأسديين في العدالة لو حصل أن تعرضوا لتمييز فادح، مقارب لهذا الذي يفرضونه على عموم السوريين منذ نحو نصف قرن. رزان وشركاؤها عملوا على أن يصير من حولهم بشراً أفضل، السلفيون عملوا مثل النظام على أن يصير كل من حولهم أسوأ. المعركة ليست منتهية بحال، والمثال الذي ضربته رزان لن يضيع ولن ينسى. بالعكس، هو ركيزة صلبة لاستئناف الصراع التحرري بقدر أكبر من الوضوح والجذرية.

القضية
منذ اختطافها مع زوجها وائل، ومع سميرة وناظم، انتهى دور رزان المباشر وصارت هي وشريكتها وشريكيها اسماً لقضية. يحصل أن تسمى هذه القضية رزان ورفاقها، وهو ما أجده مسلكاً كسولاً في أحسن الأحوال، كيدياً وقليل العقل في بعض الأحوال، وغير لائق في كل حال، بخاصة حين يرد على لسان أو في نصوص مناضلين ديمقراطيين. رزان اختطفت مع ثلاثة شركاء هم امراة أخرى ورجلان، ولهم أسماء معروفة منذ ما قبل الخطف، وذكرهم واجب في كل مرة تذكر فيها رزان والقضية. هناك من لا يذكرون الأربعة، لا رزان ولا سميرة ولا وائل ولا ناظم، وهؤلاء صنفان: إسلاميون وسلفيون من جماعة علوش وما شابه وموالون لهم، أو أسديون من النظام وجماعته. يحصل أن يذكر بعض من هؤلاء الأخيرين خطف الأربعة من باب الطعن في قضية الثورة، إقامة ضرب من الاستمرارية الطبيعية بين الثورة السورية وجيش الإسلام. قضية الأسديين ومن والاهم هي بالضبط جعل مثال رزان وسميرة ووائل وناظم غير مرئي، أو (وهذا هو الشي نفسه) إلحاق جميعنا بالإسلاميين. وهذا ما يجمعهم بالمناسبة بالإسلاميين بالذات. ميل الأخيرين الطبيعي هو مطابقة الثورة بأنفسهم.
اختطاف رزان وسميرة ووائل وناظم كان أكبر ضربة أخلاقية وسياسية وجهت للثورة السورية على يد غير النظام وغير داعش. والخط مستقيم بين خطف الأربعة في ليلة 9 ديسمبر 2013 وبين الأوضاع الحالية في دوما بالذات، وهي تتراوح بين استخدام جيش الإسلام، المؤقت حتماً، كشرطة محلية أو تهجير كثير من منتسبيه مع عائلاتهم، أو تسليم المدينة لمذبحة واسعة.
منذ ما قبل اختطاف سميرة ورزان ووائل وناظم وإلى اليوم كانت الغوطة الشرقية، ومنها دوما، محاصرة، أي أن التشكيل المذكور كان مسجوناً، ومع ذلك عمل كسجان خسيس، ولا يزال كذلك بينما هو يوشك أن يخسر قاعدة ملكه.
كقضية، يظهر خطف رزان، وسميرة ووائل وناظم، تعقد كفاحنا وتعدد جبهاته. إذا كان الثورة السورية قد تحطمت فلأن القوى الإسلامية فتحت جبهة للاستيلاء على الثورة بينما لا تزال للنظام وحلفائه اليد العليا في مواجهتها. ليس أن الإسلاميين بطشوا بطيف الثورة بعد إسقاط النظام على ما حصل في إيران بعد ثورتها، بل بطشوا بجمهور الثورة التي قدموا هم متأخرين إلى صفوفها، بينما كان هذا الجمهور لا يزال يواجه النظام ويتعرض لبطشه.
رزان هي رمز هذه القضية، أكثر حتى من سميرة شريكتها. هذا لأنها من جيل أصغر، ولأن دورها في الثورة كبير ولا يقارن بدور غيرها، ولأنها كانت معروفة وصارت معروفة أكثر بعد الثورة، ونالت جوائز دولية مستحقة على نشاطها الحقوقي والتوثيقي. لسميرة رمزية فريدة من وجهين آخرين. فالمعتقلة السياسية السابقة رمز لاستمرار صراعنا خلال جيلين، وهي رمز لصفته العابرة للطوائف، وهذا فوق فيض حسها الإنساني، على ما يظهر في صفحات كتابها: يوميات الحصار في دوما 2013.
لكن كقضية، لا وجه لفصل رزان عن سميرة، أو لفصلهما معا عن شريكيهما وائل وناظم. خُطِف الأربعة معاً، ومعنى تغييبهم واحد، ومصيرهم واحد.

الرمز
مع ذلك، بين الأربعة لرزان رمزية خاصة. هي أصغر الأربعة سناً، وكانت في السادسة والثلاثين وقت خطفها. وهي معروفة قبل الخطف سورياً وعالمياً كما أشرت للتو، وهي التي كانت تدير عمل مركز توثيق الانتهاكات، وقبله لجان التنسيق المحلية، وهي التي تحوز مؤهلات قيادية فذة منها قراءة سياسية بصيرة لما يجري في الواقع، وهي التي تتميز بتكرس للعمل نادر المثال. رزان هي أيضاً من تعرضت لتهديد بالموت من قبل شبيح لجيش الإسلام سبق الخطف بأسابيع، وهي من كانت تعبر عن نفسها في نصوص مكتوبة مؤثرة، أو في ظهورات تلفزيونية تتكلم فيها بانكليزية واضحة.
قضت رزان سبعة شهور ونصف في دوما قبل جريمة الخطف، وخلال عملها هناك أصدرت العديد من التقارير من مركز توثيق الانتهاكات. لهذه التقارير ميزات خاصة: موثوقيتها، غناها بالتفاصيل، صفتها الميدانية، ثم ما أعطاه غياب رزان من صدقية أخلاقية وحقوقية لتلك التقارير بمفعول راجع.
وبفعل قوة المثال الذي جسدته رزان حظيت سيرتها وعملها باهتمام واسع يتجاوز سورية، شهدت بنفسي بعض وقائعه، وهذه واحدة منها. قبل نحو عامين في اسطنبول، جازفت بأن أظهر غير مهذب حين سألت زائرة فرنسية كانت تقابلني من أجل الكلام عن رزان عن عمرها. قالت إنها من مواليد 1976 أو 1978 لم أعد اذكر، أي أكبر عمراً من رزان بعام أو أصغر بعام. بدا واضحاً لي أن جوستين أوغييه، وهذا اسم السيدة، متماهية بالشخصية التي تكتب عنها، ولهذا سألت. أوغييه التي نشرت قبل عام كتاباً عن رزان استندت فيه، بين أشياء أخرى كثيرة، إلى شهادتي، وضعت لعملها عنواناً مناسباً: الشغف أو الحماس، ذلك اللهيب الداخلي الذي يُفعِم أفعالنا بالروح. وهي تقول في الكتاب إنها تؤلف كتاباً عن السورية رزان زيتنونة لأنها أردت أن تكون مثلها، ولم تكن. أؤمن بأن هذا ليس مجاملة بحال. رزان جمعت بين القول والفعل، بين المبدأ والالتزام العملي به، وهي تدفع منذ أربع سنوات ونحو أربعة أشهر (حتى وقت كتابة هذه الكلمات) ضريبة مبادئها. الثورة السورية كسرت القوقعة الأسدية الخانقة، وأتاحت أن يرى العالم سوريات وسوريين كثيرين ولسوريات وسوريين كثيرين ان يرووا قصتهم ويشاركن ويشاركون في التفكير والنقاش حول مستقبل العالم، ويمثلون أدواراً تشتد حاجة الناس في كل مكان إلى مثلها.
المرأة، الكاتبة، المناضلة، المغيبة، رزان زيتونة، هي أبرز هؤلاء.
ختاماً، إن كان من شخص واحد تتمثل في الثورة السورية في منابعها الأخلاقية، وفي تعقد مساراتها وتعدد جبهات كفاحها، فهو رزان زيتونة. وإن كان هناك من تتمثل فيهم مأساوية مآلات الجولة الحالية من كفاح السوريين فهو رزان مع شريكتها سميرة وشريكيهما وائل وناظم. وإن كان من قضية تمثل مصير الثورة السورية فهي بلا شك خطف رزان وسميرة ووائل وناظم وتغييبهم. وإن كان من رمز لهذه الجولة من الكفاح السوري يلهم كفاح أجيال السوريين القادم وشركائهم في العالم، فهذا الرمز هو رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي.