ماركس - انجلز وتهمة الاستشراق


نايف سلوم
2019 / 4 / 11 - 14:20     

تظهر بين الحين والآخر وبشكل نشط اتهامات لمؤسسي الاشتراكية الشيوعية (ماركس- انجلز) بالسقوط في مستنقع الاستشراق الأوربي، بالتالي وصمهما بسقطات ميتافيزيقية جامدة ، وبالعنصرية الأوربية. والاستشراق الأوربي المتهم هنا هو فكر بعض المستشرقين من خدمة الاستعمار الرأسمالي الأوربي الذي يتبنى بشكل كامل أسطورة الطبائع الثابتة للأمم والشعوب، حيث تتمايز الشعوب حسب وجهة نظر هذا الاستشراق- بدرجة تفوقها وكمالها ورقيها و "مدنيتها" ، ويظهر لدينا حسب هذا الفكر العنصري شعوب قابلة للاستبداد وهي شعوب الشرق في آىسيا ، وأخرى ديمقراطية هي شعوب غرب اوربا . والطريف ان تهمة الشرق "المطبوع بالعبودية" أمتدت لتشمل شرق اوربا وروسيا. أي شملت جميع الشعوب الفلاحية. هكذا يظهرلدينا شعوب غربية أوربية مطبوعة على التقدم وأخرى شرقية مطبوعة على التأخر والتخلف: "بإمكاننا أن نسمي هذه القناعة (العنصرية) بميتافيزيقا الاستشراق لأنها تفسر الفوارق بين ثقافة وأخرى ، وبين شعب وآخر بردها إلى طبائع ثابتة، وليس إلى سيرورة تاريخية متبدلة " (1)
ومعروف عن ماركس وانجلز نفورهما الثقافي من الميتافيزيقا الجامدة الأبدية التقسيم، خاصة وأنهما قادة الفكر الديالكتيكي والتاريخي الذي يقوّض كل فكرة عن الطبائع والطبيعة الثابتة ، وعن الفوارق المطلقة الأبدية. يلاحظ ذلك من خلال تعليقهما على البيان الشيوعي بعد مرور ربع قرن بالقول: لقد شاخ هذا البرنامج اليوم في بعض نقاطه بتأثير التقدم الضخم الذي أنجزته الصناعة الكبرى خلال الخمس والعشرين سنة الأخيرة ، والتقدم الذي أنجزته الطبقة العاملة من حيث تنظيمها في حزب، وأيضاً بتأثير التجارب العملية لثورة نوفمبر"..؛ ثورة البروليتاريا الباريسية 1848 التي أطاحت بالملكية الدستورية عملياً وبسلطة البورجوازية فكرياً فقط . ثم التجارب العملية الأكثر أهمية التي تركتها "كمونة باريس" حيث أمسكت البروليتاريا بين يديها لأول مرة ولمدة شهرين بالسلطة السياسية "(2)
لكن ما لدافع وراء هكذا افتراءات من وقت لآخر من قبل كتبة و مرتزقة الدوائر الثقافية الإمبريالية لتشويه سمعة مؤسسي الاشتراكية الشيوعية في البلدان المتخلفة؟
لاشك ان الأمر مرتبط بشكل جوهري في محاولة من دوائر الثقافة الإمبريالية ومن أصيب بعدواها من الكتبة ومرتزقة الفكر من العرب الذين يعيشون في أوربا خاصة فرنسا ، لطرد ماركس وانجلز من العالم العربي خصوصاً، ومن ثقافة البلدان المتخلفة عموماً. خاصة بعد مطاردة أوربا لشبح الشيوعية في القرن التاسع عشر، حيث كتب ماركس في مقدمة البيان معلقاً على ذلك: ": إن شبحاً يسكن أوربا - هو شبح الشيوعية. كل قوى أوربا القديمة دخلت في تحالف مقدس لرُقْية هذا الشبح؛ بوب وسيزار ومترنيخ وغيزو، والراديكاليون الفرنسيون وجواسيس - البوليس الجرمان (3)
وهاهم الكتبة ومرتزقة الفكر الإمبريالي وكلاب دوائر الثقافية الإمبريالية الأميركية يكملون مطاردة شبح الشيوعية في البلدان المتخلفة والعالم العربي.
فبعد طرد ماركس من أوروبا ومسحه عن خارطة الأنفس الأوربية ، انتقلت عملية المسح إلى العالم الثالث أو البلدان المتخلفة ، في محاولة لتنفير مثقفي هذه البلدان من مؤسسي الاشتراكية الشيوعية بتهمة الاستشراق والعنصرية تجاه شعوب الشرق ومنه العربي. لقد مُسح رأس ماركس من النفوس الأوربية بحجة بطلان نبوءته المزعومة بأن الثورة الاشتراكية سوف تنتصر اولاً في البلدان المتقدمة في أوربا الغربية. وهذه النبوءة المزعومة يبطلها ماركس نفسه في كتابه "الصراعات الطبقية في فرنسا 1848 ". وجاء الدور لاتهام ماركس وانجلز بالهرطقة العنصرية لتسويد صورتهما أمام الشعوب الفقيرة والمهمشة ، ومسحهما من ثقافة بلدان العالم الثالث التي تكافح من أجل التحرر الاجتماعي والسياسي.
نقرأ في "أطياف ماركس": "لقد عرّف فاليري في (كتابه) "سياسة النفس" الإنسان والسياسة" . فالإنسان "هو محاولة لإبداع ما أجرؤ أن اسميه نفس النفس(نسخ النفس)، وأما السياسة فهي دائماً تستلزم فكرة ما عن الإنسان" وأن فاليري ليستشهد بنفسه في هذه اللحظة . وإذ ذاك يعيد الصفحة عن "هاملت الأوربي"، أي تلك التي جئنا على ذكرها . وأننا لنجد بشكل يدعو إلى الفضول أنه حذف مع اليقين التائه لمن يسير في نومه ولكنه لا يخطئ ، جملة؛ جملة واحدة من غير أن يشير إلى ما حذف بأي نقطة من نقاط الوقوف: إنها الجملة التي كانت تُسمّي ماركس ، والتي مفادها(لقد كان هذا الذي ابتدع كانط الذي ابتدع هيغل الذي ابتدع ماركس الذي ابتدع..) لقد اختفى اسم ماركس . فأين مضى؟ .. إذاً يجب ان يكون اسم المختفي قد كُتِب في مكان آخر" (4)
لقد غاب اسم ماركس من سياسة النفس الأوربية وظهر في مكان آخر. وما من شك في أن هذا المكان هو العالم الآخر للرأسمالية ، عالم أطراف النظام الرأسمالي الإمبريالي، أو ما يسمى بالبلدان المتخلفة . إن الفقر والتهميش والظلم القومي يجتذب "راس ماركس" كما تجتذب الزهور رأس عاملات النحل.
إن من يأخذ على انجلز سقطاته الاستشراقية في رسالته إلى برنشتاين حول "ثورة عرابي" هو واهم . ولكي نجلي الأمر نأخذ مقدمة الرسالة نموذجاً، يقول انجلز: "يلوح لي أنك في القضية المصرية تبالغ في أهمية ما يسمى الحزب الوطني. إننا نعرف الشيء القليل عن عرابي . لكني مستعد الآن أن اراهن بعشرة ضد واحد على أنه باشا عادي لا يريد أن يقبل بجمع الضرائب لحساب المتموّلين ، لأنه يفضل أن يضع الضرائب في كيس نقوده الخاص على الطريقة الشرقية القديمة . تلك هي من جديد القصة الأبدية للبلدان الفلاحية . فمن إيرلندا حتى روسيا ، ومن آسيا الوسطى حتى مصر، لايوجد الفلاح في البلد الفلاحي إلا كي يستثمر فقط"(5)
انجلز يتحدث عن القصة الأبدية للبلدان الفلاحية، وليس عن قصة الشرق الأبدية ، وهذه القصة؛ قصة استغلال عرق الفلاحين شملت عنده روسيا وآسيا الوسطى ومصر و إيرلندا في أوربا. ومغزى كلامه أن عرابي من صغار الأعيان وهو باشا، بالتالي لا يعوّل عليه في تحرير الفلاحين المصريين وتوزيع الأرض عليهم . خاصة وأن التمردات الفلاحية في مصر بدأت منذ سنة 1820 بفعل أعمال السخرة وقسوة الضرائب الخراجية من اقطاعات الالتزام. "فـفي أواخر حكم إسماعيل تبلورت حركة الاعيان المطالبة بالمشاركة بالسلطة في شكل حركة سياسية ذات جناحين: احدهما مدني، وهؤلاء عبّروا عن انفسهم داخل مجلس شورى النواب الذي انشأه إسماعيل سنة 1866 في محاولة منه الاستعانة بالأعيان في مواجهة الضغط السياسي من جانب إنجلترا وفرنسا.. ومن ناحية أخرى يبدو أن إسماعيل كان يريد الاعتماد على هذه الطبقة ليوازن بها نفوذ الأتراك والشراكسة.. أما الجناح الآخر لحركة الأعيان فيمثله مجموعة الضباط المصريين الذين قادوا التحرك في الجيش ضد كبار الضباط الأتراك والشراكسة . وهؤلاء ينحدرون من أصول فلاحية بوجه عام (كولاك) تنتمي إلى الشريحة الصغرى من الأعيان من أمثال أحمد عرابي ابن أحد مشايخ قرية هرية رزنة بالشرقية .. وهم مجموعة الضباط التي أتيحت لهم الفرصة لدخول الجيش في عهد سعيد ، الذي جنّد أبناء عُمد ومشايخ القرى والأعيان في الجيش وسمح لهم بالترقي حتى وصل بعضهم إلى رتبة قائم مقام الذي كان أول مصري يصل إليها هو احمد عرابي " (6)
ويضيف: "لقد كان تنظيم كبار الملاك لأنفسهم بالتضامن مع عناصر البورجوازية التجارية التي اصبح بعض افرادها من كبار الملّاك هو قطاع يمثله حسن موسى العقاد في حزب سياسي هو الحزب الوطني الذي اتخذ من حلوان مركزاً له" (7) وهذا الحزب الوطني هو الذي أثار ريبة وشك انجلز في قدرته على تحرير الفلاحين أو تجذير حركتهم الاحتجاجية.
مراجع
(1) د. صادق جلال العظم: الاستشراق والاستشراق معكوساً – دار الحداثة
(2) بيان الحزب الشيوعي: ترجمه عن الألمانية : العفيف الأخضر، دار ابن خلدون
راجع أيضاً: مقالتنا تحت عنوان : "حواشي بيان الحزب الشيوعي" ، الحوار المتمدن
(3) بيان الحزب الشيوعي ص 33 عن مختارات ماركس- أنجلز بالإنكليزية في مجلدين
(4) جاك ديريدا: أطياف ماركس ص 27 ترجمة منذر عياشي
(5) رسالة من انجلز إلى أدوارد برنشتاين ، لندن 9 آب 1882 من كتاب ماركس- انجلز "في الاستعمار" ص 358
(6) د. علي بركات: تطور الملكية الزراعية في مصر 1813-1914 وأثره على الحركة السياسية ص 382
(7) د. علي بركات، مرجع سابق، ص 400