يوميات نيسان 2003


كريم الزكي
2019 / 4 / 9 - 23:23     

المكان مقتربات الخط السريع بين حي العدل وحي الجامعة غرب بغداد , وسمي في وقتها بمثلث الموت
قبل الخامس من نيسان تم نصب مدفعية مقاومة طائرات في الساحة أو الغابة بين الخط السريع والدور السكنية ومن ضمنها البيت الذي أسكن فيه مع بقية البيوت العشرة في شارعنا . كان هناك كلام في المنطقة من قبل الجيران أن يقاوموا الاحتلال...! ولكن واقع الحال ترك الناس بيوتهم خوفاَ من القصف وقذائف طائرات الأباتشي ..
يوم السادس كانت الطائرات الأمريكية وتسمى صائدة الدبابات تطير محلقة فوق منطقتنا لوجود بطرية مقاومة الطائرات مقابل بيوتنا , ومدفعيتنا العتيدة كانت ترمي على الطائرات بدون فائدة لأن مدى رمي مدفع المقاوم للطائرات أقل بكثير من أرتفاع الطائرات الأمريكية , كان يسكن خلف بيتي عسكري متقاعد .... قال لي أن مدفعيتنا المقاومة للطائرات لا تشكل أي خطر على الطائرات الأمريكية كونها لاتصل الى المدى المطلوب لإصابة الطائرات فلذلك الطيارين الأمريكان كانوا يقفون محلقين بطائراتهم فوقنا ,, ويمكن يضحكون علينا , لأننا لا نصيبهم ,
يوم 6 نيسان بعد الظهر عصراً سيارة بيكب تيوتا تقف أمام بيتي ومحملة بالأسلحة وكان ركابها من مختلف الرتب العسكرية, خرجت عليهم مسرعاً من الدار واستقبلتهم وكنت أتصور أنهم سينصبون معسكراً لهم أمام بيتي , فأحدهم أسرني بعد السلام والترحاب بهم , الله يخليك أخي أرجوا مساعدتنا على التخلص من هذه الأسلحة والسيارة أن تضعها عندك في كراج البيت , لحين ما تنفرج الأمور , أو بالأحرى , لن نعود ثانية وأنت حر في كل هذه الأسلحة والسيارة , وأن تجلب لنا شفرة حلاقة كي نتخلص من الشارات الخاصة ,, لم أناقشهم في قراراتهم بالنسبة لنزع الشارة الخاصة, وبسرعة ساعدتهم في ذلك بعد جلبي لكل واحد شفرة حلاقة , أما الأسلحة والسيارة فقلت أنها سلاحكم والسيارة كذلك وهي نوع مدني, وإذا احتجتم سأعطيكم كمية من البنزين كي تصلون فيها الى بيوتكم المهم أن لا تتركوا السلاح أبداً لأنه فيه خلاصكم ويمكن أن تصلون الى بيوتكم بسلام , بعد أن فهمت منهم أن قوات الجيش العراقية في مطار أبو غريب قد تم إبادتها مع الأسف بفضل تفوق القوات الغازية بالسلاح والتكنولوجيا والأسلحة الكيميائية , وقمت بواجب الضيافة والى أن حل الظلام في المنطقة بينت لهم الطريق الذي يسلكوه خوفاً من المفاجاءات في الطريق , , وذهبوا مع سيارتهم وكل أسلحتهم عائدين الى الديار ,, كانت هذه اللحظات من أشدها وقعاً على نفسي وعلى عائلتي , حيث كنت مصراً على أن لا أغادر البيت مهما كلف الحال , في حين جميع الجيران قد تركوا بيوتهم وغادروها حفاظا على سلامتهم ,,
أنا والعائلة أتفقنا على البقاء في بيتنا , مع كل عائلتي بعد التجربة المرة في حرب 1991 التي مرت علينا في ما يسمى حرب تحرير الكويت ..
يوم 8 نيسان . بعد سيطرة الطائرات الأمريكية في سماء منطقتنا وعموم العراق , حيث كانت طائرات المحتلين بدخانها ترسم أسم المجرم بوش في سماء منطقتنا ,, وأقصد حي الجامعة غرب بغداد .
أمام بطرية مقاومة الطائرات التي أمامنا فكان جنودها يختبئون تحت ظلال أشجار الغابة أمام بيتنا , حين تقوم الطائرات الأمريكية بضربهم بصواريخها ,, وأخيرا أستدرك جنود المدفعية بأنه لا جدوى من مقاومتهم الفاشلة للطائرات فالكثير منهم ترك المكان راجعاً الى بيته ؟ مصيبة وكارثة حلت على الجيش والبلد !!!!
بعد هذه المصائب المتتالية والتي حلت فوق رؤوسنا من قذائف الأباتشي ورصاصها على بيوتنا , حيث تعرضت جميع المنازل في شارعنا بما فيها بيتي حيث نقشت واجهة البيت بالرصاص و القذائف وقسم من الدور تهدم وأحترق , ولم يبقى أحد من القوات العسكرية بقى فقط المقاومين من الفدائيين العرب وهم الجهة الوحيدة التي صمدت في المقاومة , مستغلة بيوتنا والسكان المدنيين كدرع واقي لهم , أما الجانب الأمريكي فلم يبالي كون البيوت سكنية ويسكنها مدنيين !
بعد انسحاب القوات العسكرية العراقية من المنطقة بقى فقط بعض الجنود في الشارع الرئيسي , كانوا في بيت مجاور قريب جداً من بيتي تطل واجهته على الشارع الرئيسي ومطل على الغابة ومحطة التحويل الكهربائية الرئيسية مقابل بيتنا , في ذلك اليوم حاولت الاستفهام منهم . حل الليل وقمت بمساعدتهم ببعض الطعام وكنت أعرف أنهم لم يتلقوا أي طعام في ذلك اليوم , فكانوا جداً فرحين ورحبوا بي كثيراً وهم مجموعة من الشباب بعمر الورود وقالوا لي عمنا, سنقوم بالذهاب معك كي نعرف بيتك وإذا لزم الأمر نقوم بمساعدتك لأنه نعرف أن المنطقة غادر سكانها جميعاً , فقلت لا أن جاري موجود ونحن أيضاً مسلحين , ونستطيع تأمين بيوتنا فشكراً لكم , المهم قالوا لي عمو الأمور تقريباً انتهت وعليك أن تعلم حتى القيادة لم تتصل بنا واحتمال سنترك المكان ونغادر الى بيوتنا , كانت الأمور تجري بشكل تراجيدي مذهل وكأنه ليس هناك سوى الانهيارات , وعلى كافة الصعد العسكرية والمدنية حتى الناس وعموم الشعب العراقي لم يفكروا سوى بالهروب الى المناطق الأكثر أمنا .. ,, حتى صباح اليوم التالي كان الأكثر سوداوياً في تاريخ العراق , انسحبت كل القوات العسكرية وتركت سلاحها في الشارع , أما المقاومين العرب فجرى قتلهم جميعاً بواسطة طائرات الأباتشي أو دبابات الأبرامز الأمريكية التي وصلت بسرعة واحتلت كل بغداد أبتداءاً من مطارها وكل شوارع بغداد الرئيسية...
تركنا البيت مجبرين لأنه تعرضنا للقصف وتهدم قسم من البيت فوق رؤوسنا , المهم لم يتعرض أحد من أفراد العائلة بأذى شديد فقط أحدى البنات تعرضت لجروح خفيفة حينما حاولت أن أحملها وأجعلها تتسلق الجدار الفاصل بين الجيران لأن الجيران استطاعوا فتح ممر على جيرانهم من خلف الدار وكان الممر آمناً ....
يوم 9 نيسان منظر مخيب للآمال ونهاية سوداوية مفجعة حلت بالوطن .. الشوارع مليئة بالسلاح المتروك المهان , والرجال عادوا إلى بيوتهم بسبب حرب لم يكونا طرفاً فيها ,, حاكم جزار دكتاتوري وسلطة فاشية من جهة ومن الجهة الأخرى قوات احتلال غاشمة تحتل البلد . وأصبح الشعب لا حوله ولا قوة , ولم تكن هناك أي قوة سياسية وطنية على أرض الواقع , الكل كانوا مهاجرين . أما الذين عادوا مع المحتلين من المرتزقة فهم اليوم حكام بغداد اللصوص .
وتم القضاء بشكل نهائي على التنظيمات الوطنية أيام صدام وتمزقت بسبب القمع والقتل .. أما تنظيمات السلطة فتبخرت وكأن العراق خالي من أي منظمة أو حزب سياسي يستطيع قيادة مقاومة لجيش المحتلين . وجرت ألأمور من سئ إلى أسوء ,,
من ذكريات الاحتلال
9/4/2019