في مفهوم التواصل .. او اشكال التفاعل بين مكونات المادة والطبيعة


حميد باجو
2019 / 4 / 9 - 18:31     

في مفهوم التواصل .. او اشكال التفاعل بين مكونات المادة والطبيعة

يرجع الفضل في اثارة الانتباه لاول مرة، الى ظاهرة التواصل للكندي كلود شانون،  بوضعه أول نموذج نظري عن فعل التواصل، ومن تم تحويل هذا الموضوع، إلى مجال تخصص علمي مستقل بذاته.
غير أنه إذا كانت النماذج التي طورها جل الباحثين في هذا الموضوع، هي لا تخرج على العموم، عن التواصل بين انسان وانسان، أو بين الإنسان والآلة، أو بين آلة وأخرى، نريد نحن هنا أن نعمم ذلك الى كل مكونات الطبيعة، فيزيقية كانت أو حية أو من طبيعة ثقافية.. ذلك أنه إذا كان الأصل في كل عملية تواصلية هو كيفية تنقل وحدة أو وحدات (بالفتحة فوق الحاء) معلوماتية، "البايت" Bit، فإن الكثير من مكونات الكون بمستوياتها المختلفة تشترك في مثل هذه العملية.
إذ أن كل عملية تواصلية كيفما كانت، يمكن تشريحها كالتالي:
مضمون الرسالة أو المعنى – فاعل مرسل- وسيط أو حامل فيزيقي- بيئة محيطة- مرسل إليه أو متلقي.
أن الأمر يبدأ حين يتلقى طرف ما، نسميه الراصد، لمعلومة معينة أو مجموعة من "البايتات" من محيطه. ومن تم يكون السؤال إن كانت له حاجة بها أم لا، وكيف سيتفاعل معها، هل يتجاهلها، أو يخزنها في ذاكرته لوقت لاحق، أو يعيد إرسالها إلى غيره بمضمونها كاملا أو بعد تحويرها... ألخ 
  إذا كان الراصد مثلا كائنا حيا، يكون حافزه عموما للبحث عن المعلومة هي الحاجة إلى الموارد الخارجية من تغذية وطاقة..  وهي الحاجة التي كانت وراء تطوير وسائل الرصد العضوية عند مختلف الكائنات الحية، أي حواس الشم واللمس والسمع والبصر والذوق. حيث تخصصت كل واحدة منها في رصد معلومات من طبيعة معينة:
العين لرصد انعكاسات الأشعة الضوئية أو الفوتونات، والشم والذوق  لرصد بعض الجزيئات الكيمائية، واللمس لتحسس الموجات الحرارية والأشكال الخارجية للأجسام ..
بعد ذلك تأتي عملية معالجة تلك المعلومات. وهو ما كان وراء  تطور الدماغ عند هذه الكائنات التي تتمثل وظيفته في  رصد هذه الأخيرة وترجمة ما يرد من إشارات  إلى لغة داخلية مفهومة،  بعد مقارنتها مع ما هو مخزن مسبقا في الذاكرة، وكذلك تخزينها. وأخيرا تأتي مرحلة الادراك واتخاذ القرار أو رد الفعل المناسب  اتجاه  هذه المعلومات. وهذه المهمة الأخيرة هي ما افترضت أيضا تطور أعضاء خاصة لارسال المعلومة إلى الآخرين، كالصوت واللغة والحركات الميمية للوجه أو الجسد...
غير أنه إذا كان  هذا النموذج للتواصل هو من أرقى وأعقد ما  وصل إليه التطور ، فإن هناك مراحل سابقة أو نماذج أدنى تعقيدا شهدها الكون في مساره التطوري، هي ما سنفصله بحسب أنواع أنماط التواصل التالية.
• نمط التواصل الفيزيقي العشوائي

في البدء كانت المادة الفيزيقية التي انبثقت عن الانفجار العظيم قبل 14 مليار سنة،  وهي التي دخلت منذ البداية في تفاعل وتواصل فيما بينها، بحسب ما توضحه نظرية القوى الأربع في الفيزياء.
ولذلك فلا يمكن تصور الكون بدون هذين الفاعلين المؤسسين: المادة الفيزيقية من جهة والوظيفة التفاعلية أو التواصلية من جهة ثانية، ومنهما انبثقت كل طبقات المادة وأشكال التفاعل أو التواصل فيما بينها التي نعرفها.
التواصل أولا بين الحزم الطاقية الأولى الصادرة عن الانفجار العظيم لتنبثق عنها جسيمات الكواركات، ثم من التواصل فيما بين هذه الأخيرة لتنبثق المكونات الذرية الثلاث: البروتون والإلكترون والنيوترون. ومن التفاعل بينها أي عبر تبادل الإيونات والشحنات السالبة أو الموجبة، تكونت الذرات بكل أنواعها، ثم بعمليات تركيبية معقدة تكونت الجزيئيات الكيماوية المختلفة.
ما يميز هذا النوع من التواصل أنه يتم عشوائيا بدون أي تخطيط، أو  أن الالتقاء بين هذه الكتل الطاقية أو الجسيمات الذرية  فيما بينها إنما يحدث بالصدفة فقط.

• نمط التواصل الفيزيقي شبه المنظم
في المرحلة الثانية،  ظهر نوع معين من الجزيئات لها القدرة أو القابلية على التراكب فيما بينها في شكل سلسلة منظمة من النسخ المتماثلة، هي ما أعطت جزيئات البلورات cristaux  والبوليمرات polymères ، ومن هذه الأخيرة تطورت جزيئات البروتين.
أي أن ما ميز هذه الأخيرة،  كونها تتراكب فيما بينها بناء على "معلومة" معينة تتبادلها مع محيطها تحدد نوعية الذرات الجديدة التي يمكن أن تنضم إليها والطريقة المحددة التي تترابط بها معها. كأن نفترض مثلا، في حالة ندف الثلج، أن لا تجتمع فيما بينها إلا الذرات أو الجزيئات سداسية الأضلع مثلا، دون غيرها...
فالعنصر الجديد في تكون هذا النوع من الجزيئات، وخاصة البروتينات، هو تبادل "المعلومة" مع المحيط الخارجي لفرض اختيار ذرات بعينها دون غيرها وطريقة محددة لتراكبها. أو أن التواصل بين عناصر المادة انتقل من حالة " التواصل العشوائي" إلى حالة "التواصل  شبه المنظم" عبر تبادل معلومات معينة.
• نمط التواصل التخزيني المنظم
في هذه الحالة، إن الإشارات ورغم وجود المحفز الأولي، لا يتم بعثها بشكل آني أو في رد فعل سلبي، ولكن الجزيء المعنيmolécule ، تكون له القدرة على إحداث فاصل زمني بين لحظة توفر المعلومة ولحظة إطلاقها، أي القيام بتخزين تلك المعلومة لوهلة زمنية معينة، إلى حين توفر شروط خارجية مناسبة مثلا.
ففي مرحلة من مراحل تطور جزيء البروتين المكون من سلسلة من البوليميرات، يصبح قادرا على انتظار توفر حافز خارجي معين قبل أن يقوم بإطلاق إشارة هي عبارة عن جزيء يماثله، هذا الأخير الذي يعاود الإندماج مع مكونات كيمائية من المحيط الخارجي لانتاج نسخة تطابق الجزيء الأصلي. ذلك ما يقوم به جزيء الأدن  ADN    ونموذج رسالته المتمثلة في جزيء الأرن  ARN  .
فالجديد إذن في هذا النمط التواصلي هو عنصر التخزين stockage ، والفصل الزمني بين لحظة التوفر على المعلومة ولحظة إطلاقها. غير أنه لكي يتمكن هذا الجزيء من تخزين معلومته وحفظها لمدة معينة من التأثيرات الخارجية، وجب عليه ابتكار غشاء يحمي به مكوناته الداخلية، وكان ذلك هو بداية ظهور الخلية الحية، القادرة من جهة على حفظ استقلاليتها نسبيا عن مؤثرات العالم الخارجي، ومن جهة أخرى إعادة إنتاج  نفسها في نسخ مماثلة لها. فبذرة النبات مثلا، وهي تحمل شيفرتها الجينية الخاصة، تحيط نفسها بقشرة صلبة تحميها من عديد من مؤثرات الخارج، وتمنع أي تواصل أو تفاعل مع هذا الأخير إلى  حين توفر شروط معينة من الحرارة والرطوبة.
فالاهتداء إلى آلية تخزين المعلومة من جهة وابتكار الغشاء الواقي كانت هي البداية الحقيقية لإنطلاق ما نسميه بالحياة.

• نمط التواصل الخلوي الداخلي
كانت الخلية الأولى  أو ما يعرف eucaryote، جد بسيطة في تركيبها، من نواة فقط أي جزيء ،  وغشاء يلفها، وربما بعض الإكسسوارات الأخرى القليلة. ولأنه يعتقد أنها أول ما ظهرت، كانت وسط محيط خارجي عبارة عن "حساء أولي" من صهارات ناتجة عن النشاط البركاني الكثيف آنذاك على سطح الأرض، فهي قد استمدت مواردها الطاقية والغذائية من ذلك الحساء مباشرة وبدون حاجة "لإعادة  تصنيع" لتلك الموارد.
لكن مع مرور الوقت حدث تحول في مناخ الأرض في شكل تراجع تدريجي في كثافة النشاط البركاني وانخفاض درجات الحرارة، وما نتج عنه من تحول  للغازات البخارية  إلى مياه سائلة ملأت البحار والمحيطات. وذلك ما دفع ربما إلى تكيف بعض الخلايا البدائية مع هذا المناخ الجديد، عبر اهتدائها إلى استخراج ما تحتاج إليه بالاستعانة بأشعة الشمس وفصل ذرات الهيدروجين الموجودة في الماء وإطلاق ذرات الأكسجين في الهواء ليتكون الغلاف الجوي الحالي. هذه الآلية في استغلال الطاقة الشمسية هي ما سيعرف بعملية التمثيل الضوئي، والتي سمحت بظهور الخلايا النباتية  وتمكينها من استيطان  كل المحيطات قبل أن تنتقل إلى استيطان اليابسة.
ولأن حظوظ الخلايا الأولى أصبحت تتضاءل أكثر فأكثر مع تراجع النشاط البركاني، فإنه يعتقد أن واحدة من هذه الأخيرة قد اهتدت إلى "بلع" خلية نباتية أو ضمها إليها لتستفيد من تقنيتها في تدبير الطاقة عن طريق التمثيل الضوئي، وأن بقاياها هو ما يتمثل في "عضي"  organicule الكونديرات أحد مكونات الخلية الراهنة. وكان ذلك بداية لظهور طبقة جديدة من الخلايا هي ما يعرف ،  procaryoteوالتي توجد في أساس تطور كل الكائنات الحالية.
وبطبيعة الحال كان على هذا النوع الجديد من الخلية المعقدة أن تحدث آليات خاصة للتنسيق والربط أو تنظيم التواصل بين "عضياتها" من نواة بروتينية وكوندرتات صانعة الطاقة إضافة إلى مكونات أخرى.
• نمط التواصل الإيجابي الأحادي الاتجاه
في هذا النمط يكون للمرسل قصد من إطلاق إشارته، الهدف منها بالنسبة للخلية  الحية الأولى هو البحث عن موارد طاقية وغذائية في محيطها. غير أن المتلقي قد لا يكون معروفا أو محددا مسبقا كمن يلقي رسالة في البحر. وبالتالي فإن وصول الرسالة يبقى من المصادفة فقط، ولا فرق هنا بين أن يكون هذا المتلقي أو الذي تفاعل مع المؤثرات الكيمائية الحاملة لرسالة الخلية، كائنا حيا آخر، أومجرد مكون فيزيقي آخر من الذرات والجزيئات الموجودة في المحيط. وهذا هو النمط التواصلي الذي تنهجه على العموم الخلايا الأحادية من قبيل البكتيريا مثلا.
•نمط التواصل الإيجابي التعددي ذي المركز الواحد
مع تطور التعقيد، أخذت بعض الخلايا البدائية حين تنقسم على نفسها للتكاثر، عوض أن تقطع الصلة نهائيا فيما بينها، تفضل البقاء متماسكة بعضها مع بعض لضمان التعاون. وذلك ما يعني ظهور كائن حي متعدد الخلايا، أو ذي بنية جسمية  تمثل وحدة أو نظاما متكاملا من الخلايا ومن جلد مشترك يحميها. ولكي يكون لذلك فائدة فهو يعني أن توزع هذه الخلايا التخصصات فيما بينها، وتتجمع في شكل أنسجة أو أعضاء أو أجهزة عضوية ، لكل منها وظيفة محددة في إطار الهدف العام الذي يحكم الكائن ككل ألا وهو ضمان البقاء والاستمرارية. وبطبيعة الحال أن يطور هذا الكائن آليات خاصة للتواصل، أي للتنسيق وتبادل المعلومات بين مختلف الخلايا والأعضاء وتنظيم وظائفها، ذلك ما سيعطي ما يعرف بالجهاز العصبي اللازم لكل كائن متعدد الخلايا، والمكون من القنوات العصبية التي تنقل الإشارات الكيمائية والكهربائية داخليا، ومن عضو مركزي في النخاع الشوكي أو الدماغ  لتخزين ومعالجة المعلومات.
وقد وظفت بعض الأنظمة الاجتماعية المتطورة أيضا هذا النمط من التواصل لضمان الفعالية، كأنظمة النمل مثلا أو النحل أو حتى نظام الجيش.
•نمط التواصل التفاعلي  أو متعدد الفاعلين
إذا كانت عملية التناسل قد تمثلت في البداية عبر الإنقسام الكامل للخلية على نفسها لإعطاء نسخة جديدة عنها، كما عند الكائنات ذوات الخلية الواحدة، فإن تطور التخصص الوظيفي عند الكائن المتعدد  الخلايا قد أدى إلى بروز جهاز خاص، الجهاز التناسلي  الذي تكلف بنسخ وإعادة إنتاج  أجنة أو نماذج عن الكائن الأصلي لضمان الاستمرار.
غير أنه لاحقا ولزيادة  إمكانات الاستفادة من الفرص التي يتيحها سواء التعاضد بين المكونات أو التخصص الوظيفي والرفع من القدرة على التكيف مع تحولات المحيط، اهتدى الكائن الحي إلى الفصل داخل الجهاز التناسلي ما بين الجزء الأنثوي والجزء الذكوري، ومن تم تفرع الكائن الأصلي إلى كائنين جسديين مستقلين بعضهما عن بعض: ذكر وأنثى، لكنهما مرتبطان بضرورة الاستمرار في التواصل بينهما عن طريق التلاقح الجنسي لضمان استمرارية النوع.
غير أن هذا يعني، أنه لكي يبقى التواصل ممكنا فيما بينهما رغم تباعدهما الجسدي، كان لا بد من ابتداع آلية خاصة للتواصل ونقل الإشارات فيما بينهما. وهذه الآلية هي ما تمثل في استخدام بعض الجزيئات الكيمائية تحمل تركيبات معينة هي ما نعرفه بالرائحة، أو نوع من الفيريمون الذي لا زال النمل يستخدمه للتواصل فيما بينه.  وهو ليس غير عبارة عن  شيفرة كيمائية  أو لغة خاصة لا يعرفها أو يستطيع تأويلها وقراءتها إلا الكائنين الجنسيين من نفس النوع.
فالرائحة التي تطلقها أنثى الحيوان من فصيلة معينة،  في الهواء أو الماء المحيط بها، قد لا تعني أي شيء بالنسبة لباقي المخلوقات المجاورة او لا تستطيع قراءتها، باستثناء الذكر وحده من نفس الفصيلة، الذي يفهم مضمون الرسالة حين تصله، ويستطيع تأويلها بأنها تعني دعوة للتلاقح الجنسي.
ومع المدة لم تبق الرائحة وحدها هي الوسيط في نقل الرسائل ما بين الكائنين من نفس الفصيلة، بل أن هناك من استفاد من ذبذبات الهواء ليطلق عبرها تغريداته الصوتية الخاصة، ومن استفاد من أشعة الضوء ومن الألوان الموجودة في الطبيعة  ليبتكر الريش الملون كما عند الطيور، أو يبدع في إتقان رقصات خاصة كما عند أجناس متعددة من الحيوان.
أي أن الجديد في هذا النمط التواصلي هو وجود تبادل للمعلومات بين كائنين مستقلين، لكل واحد قصد مسبق من بعث الرسالة، بحيث ينتظر من الطرف الآخر أن يستجيب له ويتفاعل معه إيجابيا لغرض متقاسم فيما بينهما.

• نمط التواصل "المشفر"
لا شك أن تأكيد فعالية آلية التواصل الجديدة المتمثلة في تشفير الرسائل المتبادلة بين الذكر والأنثى، قد دفع إلى توسيع دائرة استعمالها على أفراد آخرين من نفس الفصيلة  من غير هذين الأخيرين، وربما يكون المجال الآخر الذي استعملت فيه هو العلاقة بين الحيوان الأم وصغيرها. فقد أصبح أول ما ينطبع في دماغ الحيوان من معلومات مباشرة بعد ولادته، هي رائحة الأم التي تكون بالنسبة إليه هي المفتاح للتواصل مع المحيط الخارجي والضامن له للتزود بالغذاء وبالحماية من الأخطار الخارجية. ونفس الشيء يحدث عند الأم بحيث تحرص على تسجيل رائحة وليدها من الوهلة الأولى حتى تبقى قادرة على تمييزه من بين المخلوقات الأخرى المحيطة بها، وبالتالي الاستمرار في إطعامه وحمايته إلى أن يشتد عوده ويستقل بنفسه. أي أن ما يتأسس بين الأم ورضيعها في هذه الحالة هي لغة خاصة  للتواصل بينهما لا يعرف شيفرتها غيرهما.
وكما حدث في التواصل بين الذكر والأنثى من حيث الاستفادة من خاصيات طبيعية لتنويع أشكال الحوامل للرسائل، كذلك تطور الأمر بين الأم وصغيرها، عبر الاستفادة مثلا من ذبذبات الهواء لتبادل رسائلهما صوتيا، بعد تفاهمهما على شيفرة صوتية محددة أو نوتة لا يفهم مضمونها غيرهما. فصوت العواء مثلا الصادر عن صغير الذئاب، حين يصل إلى أذن طائر بالجوار قد لا يعني لهذا الأخير أي شيء أو هو مجرد ضجيج لا معنى له، لكن نفس الصوت حين يصل إلى الذئبة الأم يصبح حاملا لمعنى، أو أن الأم  لها مفتاح خاص لقراءة مضمون ذلك الصوت، بحيث تفهم منه أنه طلب مستعجل للغذاء أو الحماية من لدن صغيرها.
ومن التواصل المشفر بين الذكر والأنثى، إلى التواصل بين الأم وصغيرها، تكون قد انبثقت مجموعة من الرموز الرائحية أو الصوتية أو الحركية .. متفق عليها، أو "لغة" مشتركة  بين عدة أفراد من فصيلة حيوانية معينة قد تضم بالإضافة إلى الأطراف أعلاه، أفراد أوسع كالأشقاء والأعمام مثلا.  وستكون هذه اللغة المشتركة هي الأساس في تكون الجماعة الحيوانية التي تعيش حياة اجتماعية، كما تميزت بذلك بالخصوص فصيلات حيوانات الثدييات.
أي أن الأصل في وجود نظام اجتماعي عند الحيوان، هو وجود لغة مشتركة يستطيع مختلف أفراد الجماعة فك شفرتها وتأويلها لتبادل الرسائل فيما بينهم وبالتالي تدبير حياتهم الاجتماعية بشكل مشترك.  بحيث إذا افترضنا مثلا أن رضيعا من فصيلة ما تم عزله مباشرة بعد ولادته وإبعاده عن جماعته، فهو إن تمت محاولة إرجاعه لاحقا إليها، بالتأكيد أنه سيصعب عليه الاندماج مرة أخرى إن لم يكن مستحيلا، وذلك لسبب بسيط أنه لا يفهم لغة الجماعة وليس له أية إمكانية للتواصل معها.
ما يتميز به إذن هذا النمط التواصلي هو السماح بتوظيف عدة وسائط في نفس الوقت، إذ بالإضافة إلى واسطة الرائحة الموروثة عن النمط السابق، صار ممكنا استعمال الأصوات والألوان والحركات. وهذا يعني إمكانية نقل كميات أكبر ومتنوعة من المعلومات. فلم يعد مجال التواصل التفاعلي  مقتصرا فقط على مجال التلاقح الجنسي، ولكن صار في إمكان فرد الحيوانات الاجتماعية أن يعبر عن حالات متعددة يوجد عليها، إذ بالإضافة إلى الرغبة الجنسية، أصبح ممكنا له أن يعبر عن مشاعر مختلفة كما في حالات الخوف أو الاستعطاف أو الغضب ... وأن يتعامل مع متلقين متعددين في نفس الوقت، وبالتالي ينوع في مضامين رسائله ، كأن يطلق نبرات صوتية من طبقة معينة في اتجاه أمه طلبا للطعام، أو يخفض ذيله ورأسه في وجه فرد من الجماعة أقوى منه تعبيرا منه على الاستسلام ومحاولة تجنب الأذى، أو يكشر عن أنيابه في اتجاه فرد آخر تعبيرا منه عن الغضب والعدوانية ,,, ألخ. أي أن مجال التواصل أصبح أكثر تعقيدا، لا من ناحية عدد المرسل إليهم ولا من ناحية مضامين الرسائل أو الوسائط المستعملة.
ولأن كل هذا التعقيد يفترض القدرة على تداول كميات أكبر من المعلومات، فقد نتج عن ذلك حدوث تطور نوعي في دماغ الحيوانات الاجتماعية التي انخرطت في هذا النمط التواصلي، خاصة الثدييات، بحيث بالإضافة إلى الدماغ البدائي، أو ما يعرف بالدماغ الزواحفي الذي كان يقف عند مستوى تدبير العلاقات الجنسية أو الغرائز عموما، عرف الدماغ تطورا مثيرا عند الحيوانات الاجتماعية بظهور الطبقة الداخلية من القشرة الدماغية ، أو الدماغ المشاعري المتخصص في معالجة المعلومات  المرتبطة بالعلاقات الاجتماعية أو ما نعبر عنه بالمشاعر. وهذا تطلب بدوره تطورا كبير في دور الحواس خاصة السمع والبصر واللمس، بعدما كان الشم مثلا هو النافذة الرئيسية على العالم الخارجي عند الكائنات البدائية.
غير أن الفرق الكبير بين طريقة معالجة المعلومات الغريزية في مرحلة الدماغ البدائي، ومعالجتها في مرحلة الدماغ المشاعري، أن القدرات الغريزية مثل الرائحة المرتبطة بالرغبة الجنسية مثلا، قد تم تثبيتها جينيا في الدماغ وتنتقل مباشرة إلى الخلف عبر الوراثة، بينما لا تنتقل القدرات المشاعرية  جينيا، وأن كل ما يرثه صغير الثدييات عن أمه في هذا المجال، هي فقط مؤهلات للتعلم  تتمثل في  توفره على حجم أكبر من النورونات يمكن أن يستفاد منها من الناحية المبدئية لهذا الغرض، وذلك فقط إذا ما توفرت التنشئة الاجتماعية المناسبة. فصغير الثدييات وعلى عكس أقرانه من صغار الحيوانات ما قبل الاجتماعية، كالزواحف مثلا، لا يصبح مؤهلا لأن يخوض حياته في الطبيعة  بشكل عادي، إلا إذا استفاد من عناية مطولة من أمه ومحيطه الاجتماعي، حتى يتلقن عدد من المؤهلات اللازمة لذلك. ومن بين أدوات التلقين يمثل اللعب دورا حاسما في التدرب وتعليم الصغار لعديد من المهارات التي تخول لهم كسب موقعا وسط جماعتهم.

• نمط التواصل "اللغوي" أو انبثاق الثقافة
إذا كان النمط "التشفيري" السابق للتواصل، القائم على نقل الرسائل المتعلقة بالمشاعر بين أفراد الجماعة الحيوانية، قد اهتدى إلى توظيف وسائط متعددة لهذا الغرض، من أصوات وحركات وتعبيرات جسدية مختلفة، بما سمح بتداول كميات أكبر من المعلومات، فقد نتج عن ذلك تحول بيولوجي في بنية الدماغ بما يوفر مجالا أوسع لتخزين ومعالجة هذه الأخيرة.
غير أنه في وجود هذه القدرات، أن ازدادت الكميات المتداولة من المعلومات إلى حد أصبحت الوسائط المستعملة أعلاه، عاجزة عن مجاراتها، مما حتم مرة أخرى إبداع آلية أو واسطة أكثر نجاعة من كل ما سبقها، هي واسطة "اللغة المنطوقة".
إن ذلك يشبه ما وقع في عصرنا حين التحول في وسائط التواصل من تقنية النقل التناظري analogique  المحدودة إلى التقنية الرقمية numérique  الأكثر سعة.
فاللغة المنطوقة باعتبارها مجموعة من الرنات المتحكم فيها عن طريق المخارج الصوتية، هي ليست في الأخير أكثر من "شيفرات"  في شكل ذبذبات هوائية، يقوم المرسل بترجمة ما يريد نقله إليها بحسب موازين صوتية متعارف عليها بين أفراد الجماعة، بحيث حين تصل إلى أذن المتلقي، يكون هذا الأخير قادرا على إعادة حل تلك الشيفرة واستخراج المعنى الذي أراد المرسل إبلاغه.
وبطبيعة الحال أن استعمال الذبذبات الهوائية أو الأصوات  في إيصال الرسائل ليس جديدا في عالم الحيوان، كما يظهر ذلك مثلا في براعة الطيور في تنويع تغاريدها، غير أن الجديد عند البشر هو القدرة على تجزيء تلك الرنات إلى وحدات صوتية أولية هي ما أعطى الفونيمات     phonèmes  أو الحروف الهجائية المعروفة، ومن التركيب بين هذه الأخيرة تنتج الكلمات.
ولتقدير ما توفر للبشري  من إمكانيات جديدة لنقل المزيد من المعلومات، يمكن مقارنة ذلك بما يحدث للصبي في بداية تعلمه التهجية والنطق، باعتبار أن هناك تشابها شديدا أو تناظرا  بين الحالتين. فالصبي وبعد جهد جهيد من محاولة التواصل مع محيطه عبر واسطة البكاء أو الصراخ أولا، ثم عبر حركات اليدين وتعبيرات الوجه ثانيا، وهو ما يشابه طرق التواصل عند الحيوانات، يهتدي إلى التلفظ في الأخير ببعض الحروف أو المقاطع عبر التحكم في مخارجه الصوتية. غير أن هذه المقاطع تكون بسيطة في البداية ومحدودة قبل أن تتطور لاحقا وتخضع لتعقيد أكثر فأكثر مع زيادة سنه.
تلك كانت هي الحالة التي مر منها البشري الأول أيضا، حيث اقتصر في نطقه على مقاطع قليلة وبسيطة، للتعبير عن ظواهر معينة أو إبلاغ رسائل بشأنها إلى محيطه. و لذلك نحن نفترض أن  لا يكون "قاموسه اللغوي"، قد تجاوز في البداية بضعة ألفاظ، تماما كما عند الصبي الحديث العهد بالنطق  الذي يكتفي ببضعة ألفاظ مثل: ماما، بابا، فوفو، ديدي، ...
ولنفترض أن لفظة "ديدي" هي للتعبير عن شعور الألم، والتي جاءت كبديل عن واسطة صوت الأنين أو الصراخ، إنها لفظة وإن كانت تبدو بسيطة، فإنه لكي يتوصل البشري الأول إلى استعمالها، أن ذلك اقتضى منه جهدا كبيرا سواء على مستوى التدرب على النطق بها، أي القدرة على التحكم في عضلات الحنجرة ومكونات الفم، أو بالخصوص التوصل إلى رسم صورة عنها في الذهن، أو "شيفرة" تختزل وترجم كل التجارب وكل خبراته مع الألم التي مر منها، حتى تصبح هذه اللفظة مثل "خوارزمية" أو مكثفا لعدد هائل من المعلومات التي يختزنها دماغه ذات الإرتباط بالألم. فلفظة ديدي هي تعبير عن جرح في اليد أو خدش في القدم أو مغص في المعدة أو صداع  في الرأس .... وهي أول معنى مجرد يتم التعبير عنه باللغة المنطوقة، أو إحدى اللبنات الأولى التي ستتكون منها اللغة ومنها كل الصرح الثقافي الذي سيميز الجماعات البشرية.
ذلك بالضبط ما نسميه "الميمة"، أو حزمة المعلومات المعبر عنها لغويا.
فإذا افترضنا أن يكون البشري الأول قد اكتفى في مرحلة من تطوره - وهي هنا قد تمتد على آلاف السنين بالمقارنة مع بضع أسابيع التي يقضيها الصبي في نفس الحالة-  على بضع عشرات فقط من مثل لفظة ديدي، فهو بالمقارنة مع المرحلة الحيوانية السابقة، يكون قد قطع بذلك مسافة ضوئية في تطوره، وذلك من جهة لأن كل لفظة من تلك الألفاظ القليلة هي تحمل في طياتها كما هائلا من المعلومات، بحيث إذا رمزنا مثلا إلى كل وحدة معلوماتية برمز "البايت" bit، فإن اللفظة الواحدة المنطوقة ستساوي المئات من البايت، وبالتالي قد تساوي تلك البضعة عشر من الألفاظ المتداولة داخل الجماعة مئات الالاف من البايت.
وبطبيعة الحال أنه كأي ظاهرة وجدت في الطبيعة، سيخضع هذا الموجود الجديد: اللفظة المنطوقة الحاملة لمعنى، أو باختصار "الميمة"، إلى نفس آليات التعقيد المعروفة: الأفقي والوظيفي والسلمي أو العمودي.
على المستوى الأول، أن يترتب عن ثبوت نجاعة الألفاظ الأولى في نقل الرسائل بين أفراد الجماعة البشرية، التشجيع على توسيع نطاق استعمالها، بتعميم إطلاق وبابتكار ألفاظ جديدة للدلالة على باقي الظواهر والموجودات المحيطة بالجماعة، أو ما نسميه إغناء القاموس اللغوي لهذه الأخيرة. وسيتم ذلك عبر التنويع في تركيبات الحروف أو استعمال أكثر من حرف واحد في تشكيل الألفاظ والكلمات، وهو ما سيفتح مجالا لا حدود له من التنويعات لن تحده سوى قدرة أفراد الجماعة على حفظه وتذكره . فإذا افترضنا أن عدد الفونات أو التهجيات التي يسمح بها الجهاز الصوتي عند البشر قد تقارب الثلاثين عموما، كما يظهر ذلك في عدد الحروف المستعملة في مختلف لغات العالم، ثم افترضنا أن تشكيل أي لفظة قد يتطلب ما بين حرف واحد وعدة حروف، فلنا أن نتصور كم عدد الكلمات التي يمكن الحصول عليها افتراضيا من ذلك.
على المستوى الثاني، يفترض أن إيصال الرسائل أوجب ضرورة الربط  بين لفظين أو أكثر، ذلك ما دعا إلى إحداث نوع من الألفاظ لا تحمل معاني في ذاتها، ولكن دورها هو فقط في القيام بهذه الوظيفة الربطية، ذلك ما ستقوم به حروف الجر مثلا، بل وبالخصوص الألفاظ التي تقوم بالربط بين الفاعل والمفعول والتي هي ليست سوى الأفعال. وأخيرا الألفاظ أو ملاحق الألفاظ التي تضاف على هذه الأخيرة للتمييز بين الأزمنة المتعددة للفعل: ماضي وحاضر ومستقبل... أو سياقاتها الخاصة: إخبارية، شرطية أو أمرية ... وكذلك للتمييز بين عدد وجنس الفاعلين أو المفعولين بهم.
أي أنه مع تقدم استعمال اللغة، كان لابد من تطوير الألفاظ في اتجاه التخصص بحسب وظائف مختلفة: أسماء، أفعال، حروف الجر وملحقات لفظية أخرى.
وكخلاصة لهذا التعريف الذي أوردناه لأنماط التواصل المختلفة، يمكن النظر إلى التغييرات التي تطرأ على عملية التواصل، أنها المؤشر أو الحافز على حدوث أهم القفزات في مسار تطور البشرية أو الطبيعة والكون عموما.
فعملية التواصل تتكون كما ذكرنا في البداية، من سلسلة من المكونات أو الحلقات المتتابعة،  تبدأ:
- بالعلاقة بين الراصد أو المتلقي للمعلومة ومحيطه المباشر،
- ثم العلاقة بين الراصد والمعلومة المتلقاة، أو مكون التخزين والمعالجة،
-ثم مكون تشفير المعلومات، أو نوع اللغة التي تترجم إليها، أصوات حيوانية مثلا، لغة هجائية بشرية، لغة مورس،  لغة رقمية ...
-ثم مكون الواسطة  media   التي سترسل عبرها المعلومة، كالرسالة الصوتية أو المكتوبة أو المرقمنة...
- ثم مكون الحامل للرسالة  support، عبر ذبذبات هوائية، لوح طيني، ورق مكتوب، خط هاتفي ...
- وأخيرا مكون أو عملية تلقي الرسالة ..        
ولذلك أن أي تحول يطرأ في إحدى هذه الحلقات، إنما يترجم بقفزة نوعية في مسار التطور. فابتكار عملية التخزين مثلا، كان وراء ظهور الخلية الحية والحياة عموما. والتحول إلى تشفير المعلومات عبر الحروف الهجائية، هو ما كان وراء ظهور الثقافة أو المجتمع البشري..  ثم أن التحول إلى اعتماد الكتابة كواسطة، ما أتاح قيام الحضارة البشرية.  كما أتاح ابتكار الطباعة على مستوى الحامل للرسالة، قيام النهضة الصناعية الحديثة.. وأخيرا أن اعتماد الرقمنة كان هو الحافز للدخول إلى العصر التكنولوحي الحديث..
وعلى ضوء هذا، يمكن التوقع أن تكون قفزة التطور اللاحقة التي ستعرفها البشرية، هو حين سيحدث تحول على واحد من المكونات أعلاه.   والمرجح في اعتقادنا أن يهم الأمر في المرة المقبلة، العلاقة المباشرة بين المتلقي والمعلومة، أو كيف سيحل المشكل الأساسي الذي صار يطرح الآن في عملية التواصل:  في عجز الدماغ البشري على الإحاطة ومعالجة كل هذا التراكم الهائل من المعلومات التي توفرها شبكة الانترنيت، أن الوسائط الطبيعية المتوفرة لحد الآن للدماغ، من عين للقراءة وأذن للسماع واصابع للرقن... أصبحت متجاوزة وغير قادرة على الإيفاء بالغرض.
ولهذا  من المتوقع أن يحل المشكل قريبا، عبر ابداع  تقنيات للربط المباشر بين الدماغ والحاسوب بدون الحاجة لواسطة الاعضاء الجسمية اعلاه، غير ان يعاد قبله  تنظيم تلك الكتل الضخمة من المعلومات المتوفرة، بحسب تصنيفات جديدة يسهل التعامل معها، هي الخوارزميات، وما سينتج عنه ما نسميه اليوم الذكاء الاصطناعي، لتنتقل البشرية بعده إلى مرحلة أخرى نوعية في تطورها، او تنتقل ربما من عهد جنس الهومو سابيان، الى عهد جنس اخر، لا زالت لم تتضح بعد كل ملامحه.

حميد باجو     المغرب