الحقيقة هي الهدف من الحوار !!


رمضان عيسى
2019 / 4 / 6 - 02:35     

= كتب أحدهم منشوراً مليئاً بالاتهامات لمن يختلف عنه بالمعتقد ، أو من لا يعترف بقداسة الموروثات .... فكان لي هذا التوضيح :
اذا اختلف اثنان حول فكرة ، فهناك معياراً للحقيقة لا يعترف بالعواطف ، ولا بالمصالح الطبقية، ولا باللون ولا بالجنس ولا بالجغرافيا ..
ومقياس الحقيقة الذي لا يختلف عليه اثنان هو : أن لكل شيء سبب معقول ....
والمعقولية تفرز الحدث الواقعي ذات الاحتمالية الأقوى، والذي يمتلك الركائز التي تجعله قريبا الى الواقع ، وفي نفس الوقت تبعده عن الخيال المغلف بالعواطف المزاجية ، ويُبعده أكثر عن الخرافة ..
والكل يوافق على أن تضمين أي حوار كلمات وتهم لا توصلنا الى توافق حول الحقائق ...
وأيضا ، لا يجب الرد العواطفي السريع ، فالردود العقلانية تأتي بعد تفحص وروية ، وغربلة وتشغيل ميزان الامكان والاحتمال والواقع ...!!
- ان الثقافة الأوسع هي المناخ الجيد لأي حوار بناء يهدف للوصول الى الحقيقة ... كما الانحياز للحقيقة هي أقصر الطرق للوصول الى التوافق ..
إن الحقيقة ليست خيالية ، بل إن قلة المعلومات عن الحدث أو الموضوع تجعلنا نُصاب بالدهشة التي تجعلنا نضعه في مصاف المعجزات .. والحياة الحاضرة لا تعترف بالمعاجز، بل تضع كل شيء للعلم، العلم واقعي بينما التسطيح في طرح المعلومات يلقينا في خندق الخيال الخرافي، والعلم يمسح الخياليات كما الشمس تُذيب الثلوج ...
والحوارات تنطلق في أغلب الأحيان لأن أحدهم يشعر أن الآخر قد طرح فكرة تمس فكرة كان ، ولا زال يعتقد أنها مقدسة ، وهي الحقيقة الكاملة ... فيحدث عنده ما يشبه الصدمة .... كيف ، ماذا تقول ؟
ويبدأ في كيل الاتهامات المشحونة بالسخرية، وربما بالتهديدات المرعبة ...ووو
ولكنه لا يعلم أن من طرح الفكرة - التي يرى أنها خاطئة - هو انسان مثله، ولديه عقل مفكر ، ولديه معرفة وثقافة ... وكان يصدق مثله هذه الأفكار، وكان يعتقد بأن من يعارضه يعتبر خارجاً من الملة ، وربما يستحق القتل ...
= ولكن ومع التوسع المعرفي وتكديس التجارب ، فقد تعرّف على مقاييس واقعية للأفكار ، وتراكمت لديه المعلومات الأقرب الى الحقائق، فحدث لديه تغيير في تقييم الأحداث وربطها بالتسلسل السببي التاريخي ... فحدث لديه عملية احلال العلم ...واحلال العلم يُلغي الكثير من الخياليات الغير معقولة ..
ولتعلم أن الخرافة هي الحدث الذي لا يستند الى مُسوغات ، أسانيد معقولة ، واقعية ..!!
فإذا اتفقنا على معيار للحقيقة ، لا يكون مرتبطاً بالعاطفة ، ولا بالأكثرية ، ولا بالمصلحة الشخصية ... وانما بأن لكل شيء تواتر ، تسلسل سببي واقعي ... وأن لكل شيء تاريخ ، فالأشياء تبدأ من البسيط الى المعقد ، ومن الفردي الى التشعب ...
انظر كيف تفرعت العلوم وتخصصت بعد أن كانت الفلسفة هي أم العلوم ، فقد استقل العلم وتفرع الى الطب والبيولوجيا والجيولوجيا والهندسة والكيمياء والفيزياء ... الخ ..
ولكل علم من هذه تاريخ مرتبط بالوجود البشري على هذه الأرض، وتطور أكثر مع دخول البشرية لمرحلة الأنسنة، أي مرحلة امتلاك الانسان للغة، وأصبحت لديه الامكانية لنقل التجارب والمعارف، وتسجيلها بطريقة أو بأخرى.
وهناك مُسلمة مهمة يجب أن يتعرف عليها المتحاوران، بقدر ما يكون الانسان قليل في معلوماته حول موضوع معين ، بقدر ما يضعه في خانة المُسلمات ، أو المقدسات لديه، بينما قد يكون عند غيره في خانة أخرى ولا يُعتبر من المقدسات ... والسبب، وضوح الفكرة والحقائق عند شخص، وجزئية الأفكار وغياب الوضوح عند الآخر ...
- الاختلاف يأتي من الاعتقاد بقداسة الموروثات والمُسلمات الشعبية ، أو هو من الفرق ، التفاوت في المعرفة ، والوصول لحقائق مُختلفة ، وبالتالي اختلاف الموقف .. واختلاف الانتماء ....
ان التنوع البحثي وغزارة المعلومات وكيفية التعامل معها وفهمها في سياقها التاريخي ، واستبعاد المقاصد العاطفية عنها يجعلنا نتعرف على أُصول نشأتها، والعوامل التي أدت الى وصولها لنا بهذا الشكل، أو ذاك ...
وبمعرفة الأًصل تنتهي الدهشة، أو كما قال نيتشة :" بمعرفة الأصل تزداد تفاهة الأصل " ... أي "بمعرفة الأصل تُبعد القداسة " .
أن فكرة معرفة الأصل للأشياء والأصل للأفكار والأصل للموروثات ووضوحها تبعد عنها غلاف السرية ، وبتمزيق غلاف السرية يبعد غلواء القداسة، وتمزق غلاف الاعجازية, وقيود الموروث، وبزوال القداسة يبعد الخوف، وابعاد الخوف يطلق التفكير والتساؤل، وانطلاق التفكير، يصبح اٍنتاجه أكثر غزارة في جميع مجالات الحياة الفكرية والاٍجتماعية والانتاجية .
وبالمعرفة نحصل على المعلومات اليقينية ، المعرفة الحقيقية عن الكون والحياة ، والانسان ، والمعرفة تمنحنا الثقة في المعلومة ، وتمنحنا الدافعية للذود عن الحقيقة مهما كان عدد المعارضين لنا ...
يؤكد سقراط بأن الحقيقة ليست هي ما نعرفه وما تمّ تلقينه لنا بالعرف والتقليد وإنما ما يجب على كلّ إنسان معرفته بنفسه . وما يجب معرفته من حقيقة تستدعي التفكير أي التساؤل والبحث عنها وراء المظاهر . تلك المظاهر ليست خاطئة بالضرورة، كما يقول "كانط " في مستهل كتابه (( نقد العقل الخاص )) من جهة و لكن صحيحة تماما.
والعجيب حينما تصطدم مع أحد أصحاب الآراء المستوحاة من الموروثات التي ارتدت ثوب القداسة سرعان ما يظهر عليهم الغضب والتسرع في اطلاق الأحكام الشائنة الممجوجة اجتماعياً ونفسياً ..
وتجد أنه مشحون بثقة أنه يمتلك الحقائق المطلقة انطلاقاً من أنه ختم القرآن ، فعرف كل شيء ، ووصل الى أنه لم يبق بعد ذلك ما يقال ، وذلك حسب الآية " ما فرطنا في الكتاب من شيء". وبالتالي، فهو الآن يعرف كل جواب، ويستطيع أن يجيب على كل سؤال .
ومن يكون بهذه المواصفات تغلب عليه العواطف وتتحكم في منطقه المسلمات ، وتضمحل من أجندته التساؤلات، فيسقط في الانتقائية والعموميات الزئبقية البعيدة عن الاثبات المنطقي، ويلجأ الى السخرية من الاثباتات والبراهين العلمية والتقليل من فعاليتها وارتباطاتها الواقعية . وكثيرا ما يبدأ في حشد عدد من القضايا تحت مسمى الاعجاز العلمي في القرآن عازلاً إياها ومتصوراً أنها خالية من ملئ الفراغات القصصي التي تُغلف بها قصص الكتب المقدسة التي استوردت قصصها من بعضها، فالتوراة هي أُم المسيحية وجدة الاسلام ، فقد اعتمد القرآن معظم قصص الأقوام الغابرة وما ملكوا من معارف بشيء من التصرف، دون تحديد تاريخ زمني لأي من الأحداث أو أقوال الشخصيات التي تم ذكرها في القصص، وأضاف بعض الأحداث ذات الخصوصية في شبه الجزيرة العربية .
ورغم تأخر الاسلام لأكثر من نصف قرن عن الدعوة المسيحية إلا أنه لم يأتِ بأي معلومة عن شعوب أُوروبا أو شرق آسيا، أو شعوب أفريقيا أو استراليا أو الأمريكتين .. فالقرآن لم يخرج في تصوره عن العالم عن محيط شبه الجزيرة العربية وجيرانها ...
وأخيرا أجد نفسي أمام هذا المثل الانجليزي الرائع الذي يقول :
" لا تتعارك مع الخنزير في الوحل، فأنت تتسخ وهو يستمتع !! " .
ففي حالة الاصطدام مع أحد عباد النصوص ، والمسلمات الشعبوية ، لا تتركه يفرض عليك مُسلماته، فهو يعتبر نفسه أفحمك بسخافاته، ويستمتع بأنه يدافع عنها، وهو بهذا يكسب ثواب وحسنات!!
ولما لم يجد تجاوب ، يبدأ في التخويف من ترهات ما بعد الموت ، وأهوال كمية ونوعية العقابات التي تنتظرك ، بينما هو سيزداد رصيده من الجائزة بعد الموت !!