حين أخفى تاكاهيرو ذاكرة الرجل المسكين - الفصول الخمسة الأولى


محمد عبد القادر الفار
2019 / 3 / 29 - 11:49     

حين أخفى تاكاهيرو ذاكرة الرجل المسكين

قصة متعددة الفصول، وسردها سيطول




الفصول الخمسة الأولى:

الحضرة الأولى
الطريق قصيرة مع تاكاهيرو
سيزيف على درج بينروز
مواء داخل صندوق شرودنجر
ملتيفاك يجيب السؤال الأخير









الحضرة الأولى

هل تتذكر أول مرة رأيت فيها وجه أمك؟

الذاكرة كما قال تاكاهيرو بدأت مبكّراً جداً، بل لعلك حملت إلى اللحظة الحالية شيئاً من ذاكرتك الجنينية، بل والجينية. الأرشفة التي توائم العالم الظاهر هي ما يجعل البدايات تبدو في طي النسيان، وهي مطوية ولكنها ليست منسية.
أنت لم تنس شيئاً ولن تنسى شيئاً، بل يمكن -بتأمّلٍ ما، وباستدعاءٍ محفّزٍ ما، ومستقبلاً بتقنيات طبيّةٍ ما- أن تستعيد كل شيء. ولكن هل ستحتمل أنت كل ذلك التدفق من المعلومات؟ ....

لو كنت محلّ تاكاهيرو- وهذا مجاز هائل- لسخرت من إجابتي السريعة له على ذلك السؤال بالتأكيد على أنني قوي وقادر على الاحتمال.

**

لقد تحطّم مركز ذاكرة رجلٍ ما إثر ضربة أصابت جمجمته، أو أن هذا ما ظنناه، وظننا أيضاً جميعاً أن ذاكرته تلاشت، ،ولكنّنا تفاجأنا، أو على الأقل بعضنا، أو ربما تفاجأت وحدي بما قيل في تلك الحضرة، وتفاجأت أكثر بما قيل وحدث بعدها.
. لم يكن بين الحضور رجل متدين واحد. كانت في الحضرة امرأة واحدة فقط، وكانت تقرأ في الثيوصوفيا. قالت لنا بثقة: ذاكرته ليست هنا الآن، ولكنها لم تتلاش. كان ذلك مدعاة سخرية الجميع، خاصة شاب وسيم بين الحضور كان مقيم جراحة أعصاب، ولكنه كان مهذباً في الحقيقة ونصحها أن لا تتمسك بالأوهام. الرجل الفاقد للذاكرة كان يستمع للجميع وكانت لغته سليمة. أصابها شيءٌ ما، ولكنها كانت حاضرة. التفت إليها وقال: أريد أن أبحث عن ذاكرتي. ولكنها حذرته أنه حين يجد ذاكرته فهو لن يتفاعل معها كالسابق، من موقع الذي يخوض الشيء، بل من موقع الشاهد على الشيء. وشبهت الأمر بالاطلاع على محتويات فلاش ميموري.

قالت المرأة بثقة: "هناك قاعدة بيانات ما، طبيعتها ليست مادية بحيث يصيبها تحول وتلف الإنتروبي. من المغري تصوّر أن لفظ “اللوح المحفوظ” ينطبق عليها. هذه القاعدة تسحب المعلومات أولاً بأول من المادة إلى شيء لا يتحول. كل شيء يتخزن."
كانت ساذجة بكل معنى الكلمة، وكان أسلوبها أمومياً يثير التعاطف. ولكن العجيب كان إحساساً قوياً جاءني بأن الكلام الذي كانت تقوله كان يُملى عليها من شخص آخر، لعله بين الحضور. وإما أن بينهما تخاطراً ما، أو أنه يتحكم في لسانها. وهنا حاولت أن أتذكر آخر مرة دخّنت فيها الماريوانا، وذعرت حين تذكرت أن ذلك مضى عليه شهر على الأقل.
سألها أحد الحضور ساخراً: ولكن إلى متى. هل سعتها غير محدودة؟

ثقة المرأة كانت مستفزة، ولهفة الرجل الفاقد لذاكرته كانت محزنة، وارتياب الطبيب كان محبطاً. فقط لا مبالاة تاكاهيرو كانت مريحة بالنسبة لي. وتاكاهيرو هو ماستر زن ، أو أنه اختار أن يبدو كذلك، كراهب بوذي تقريباً، وملامحه تخبرك حتى دون أن تصدر منه أي كلمة أو إشارة أنه متكيّف مع الإنتروبي على نحو مبهج وعجيب.

أما أنا فلم أكن مدعوّاً، بل متطفّلا. ولما كان الطرد من الحضرة ممنوعاً بقانونها، فقد كان عقابهم لي عدم النظر إلي. تاكاهيرو كان أكرم من الآخرين، فقد ساوى بيني وبين الجميع. ولعل شاعراً يابانياً قال شعرا يحمل نفس كلام الإمام علي حين قال:

إني لأفتحُ عيني حين أفتحها …….على كثيرٍ ولكن لا أرى أحداً

تاكاهيرو كان ينظر إلينا ولكن بصره يتجاوزنا. وراودني يقين عجيب وكأنه إلهام من مكان ما بأن تاكاهيرو كان يعرف مكان ذاكرة الرجل المسكين ويخفي ذلك. ولكنني بالطبع لم أقل شيئاً. فلا أملك أن أكون متطفلاً وفوق ذلك مثيراً للمشاكل.

أيام لحسن الحظ أذكرها وأقاوم أرشفتها، وسأتلو منها ما يحفظها ولو على قرص لخادم لا أعرف مكانه. نعم، إن السيرفر هو خادم، وقلّما ننتبه إلى معنى كلمة server. هذا الخادم أسدى للمعلومة معروفاً حين أتاح لها أن يُحتفظ بها ولو ميتة، إذا ما أفلتت من الدماغ الحي، أي توارت عن واجهته إلى الداخل وتأرشفت عميقاً.





الطريق قصيرة مع تاكاهيرو


انفضّت الحضرة، وتبعتُ تاكاهيرو إلى الخارج. كان يبدو على تاكاهيرو وكأنه يمشي ببطء شديد، ولكنك حين تقارن سرعة انتقاله بالآخرين الذين يبدو عليهم أنهم يمشون بسرعة، تجده يسبقهم جميعاً، لذا كانت مراقبة مشيه مربكة ومرهقة للنظر والعقل.

تبعتُه وأبطأت من مشيي كي أمشيَ بجواره، وشعرت حين أصبحت على استقامة واحدة معه أنني بدأت أمشي مثله، ببطء وسرعة، وكأنني أمشي ببطء داخل حافلة تمشي بسرعة شديدة. حاولت تناسي ذلك والاستغراق في تفاصيل يمكن أن تحول بيني وبين فقدان صوابي. نظرت إلى تاكاهيرو و شعرت بالثقة لأنه لم يكن أطولَ مني. ولكنني سرعان ما شعرت أن تاكاهيرو قرأ أفكاري، وتحديداً تلك الفكرة الساذجة الأخيرة، فشعرتُ بالحرج. ولعله قرأ حرجي أيضاً فسارع من فرط ذوقه بانتشالي منه بسؤالي بصوتٍ دافئٍ خافت: ما الذي أتى بك إلى الحضرة؟ وأشار بيده إلى الخلف دون أن ينظر إليّ، وكأنه قصد الإشارة إلى مكان الحضرة الذي خلّفناه وراءنا. نظرتُ إلى الخلف بسذاجة دون أن أفهم لماذا صدرت مني ردة الفعل هذه، وكدت أجيب سؤاله ب” أولم تعرف؟ وأنت العارف الذي يقرأ الأفكار؟”ولكنني شعرت أنني سأطيل بذلك حواراً لا ينبغي له أن يطول فقلت: أنا مهووس بالمستقبل، هارب من الماضي. وجئت للحضرة كي أرى. أريد أن أرى ما سيحدث بعد أن أموت بمدة..

ردّ بصوت مريح وكأن جوابي أعجبه: صاحبنا المصاب كان يبحث عن نفسه، ولو كانت نفسه في المستقبل لطلب نبوءةً كالتي تطلبها، لكنّ نفسه محلّها الذاكرة. هو هناك حيث ذاكرته، ودون ذاكرته شعر باختلالٍ بالآنية، لا بحريةٍ لذيذةٍ كالتي تتوهمها. أما أنت فلا تعجبك نفسك، فتهرب منها إلى ما تصفه بالمستقبل. ولكن كلّ الأزمنة زمانٌ واحد.

فسألت تاكاهيرو:

لماذا نشتاق إلى الماضي؟

فأجاب:

لأن ما تلاه أصبح معروفاً لذا هو يحمل شيئاً من الدفء والأمن وفارغ تقريباً من القلق على المستقبل.

وحين نستعيد ذكراه نركز على صور ذهنية للمكان يكون عنصر الزمن فيها ثانويا وغير راهن. ولذة استحضار الماضي هي لذة استحضار لحظاتٍ حقيقية ولكنها هذه المرة حرةٌ من الإنتروبي، وهذا أكثر شهية من التخيل. فالماضي حدث فعلاً؛ نحن على الأقل لا نملك إلا ان نصدق انه حدث، وهذا يمنحنا أملاً ضمنيا، غير مدرك ظاهريا ولكنه محسوس، بأن الوعي ضمن حقيقة ليست حبيسةَ زمنٍ محدود هو امرٌ ممكن.

الموقف عند تذكّره يحمل دائماً دفئاً لم يكن هناك حين حدوثه فعلياً، وهذا من لطف تصميم الدماغ، فهو يؤرشف كل متعلقات الإنتروبي بعيداً، أولاً بأول، ويقدّم إلى واجهة الوعي الطبقات الاكثر إيجابيةً من الحادث على الطبقات التي تحمل الغم، وهذا كي لا نخاف او نتردد في استدعاء الماضي واستحضار معلومات منه قد تفيد الحاضر والمستقبل.

استدعاء الذاكرة ليس من التأمل، فالتأمل تركيز على الحضور وامتناع عن التفكير، دون ممارسة جهد لهذا الامتناع (عملية صعبة قبل تصفية النية تماما)، ولكن استدعاء الذاكرة (والتحرر من البارانويا هنا ضروري) هو تمرينٌ يداعب العقل والنفس ويستدعي معلوماتٍ وصوراً تنعش الوعي وقد تفيد صاحبه في معيشته.

وصلنا إلى مكان يشبه المكان الذي انطلقنا منه، والتفتت يمنة ويسرة كي أتأكد إذا كان هو نفس المكان، فبحثت عن بقعة الحضرة، ولم أجدها، فاطمأننت إلى أننا تحركنا. نحن لم نعد هناك، مهما كان هنا يشبه هناك. والتفتت إلى تاكاهيرو لأواصل حديثي، لكنه لم يكن هنا!



سيزيف على درج بينروز

كنت في انتظار صدفة تتيح لي أن أتطفل على حضرة جديدة. لم تتكرر الصدفة وعدمتُ الحيلة للعثور على غيرها؛ فحضرة من ذلك النوع تحديداً دعواتها لن تكون عامة، ولا بد ان أهل تلك الحضرة التي انسللتُ إليها قد أحكموا إغلاق الثغرة التي أتاحت لي العبور إليهم في المرة السابقة. لمت نفسي لأنني أضعت تلك الفرصة ولم أبرز أمامهم مواهب او تميزاً يجعلهم يهتمون بضمي إليهم. ولكنني واسيت نفسي بالقول أن الانضمام إليهم ما كان ليكفيه تميز أو مواهب كالتي بحوزتي؛ فقد اكتشفت مؤخراً أنني عادي، وأن كل اعتقادي بأنني مميز مرده ذكريات دافئة من طفولتي المبكرة كان خلالها كل من يقابلني من الكبار يصفني بالشاطر والذكي، كما هو الحال مع اي طفل آخر.

لكن ما شعرت انني ضيعته بالفعل كان تاكاهيرو.

إذا كان تاكاهيرو قد أخفى فعلاً ذاكرة ذلك الرجل، فلا بد أن لديه المزيد من المفاجآت. هو لا يمكن ان يكون مجرد حكيم علمته الايام. لا بد انه تواجد هناك لغاية ما، وأظنها إخفاء ذاكرة الرجل، والتأكد من انه لن يجدها. لو كان محل ذاكرة الرجل هو دماغه لتصرف تاكاهيرو على نحو آخر؛ هو لم يقترب من الرجل أصلاً، بل وقف عند مسافة بدت لي مقصودة بعينها، كانت تحت ثريا السقف وكانت الروبة التي تحيط بالبلاطة التي يقف عليها أفتح من روبة باقي البلاط. ومن مكانه كانت يداه مثبتتين في وضعية “مودرا” يصعب علي تذكرها تماما، ولكنها كانت تشير إلى الرجل تقريبا. كان غريبا جدا بالنسبة لي انه بدا شخصا ثانويا في الحضرة لباقي الحضور. أيعقل أنني الوحيد الذي كان بوسعه رؤيته؟

لم يسأله احد عن تلك المودرا. لم ينظر إليه احد. هي حضرة علمانية على كل حال فيها روحانية بها شيء من الحداثة، فالطبيب الشاب كان يرتدي ربطة عنق. والبخور المستخدم بدا غير تقليدي، يشبه رائحة الشموع التي تحبها النساء. لهذا ربما بدا لهم مشعوذا لا يستحق الاهتمام.
ربما كان تاكاهيروا هناك قبل مجيئنا، والحضرة هي التي حدثت حيث هو ولم يمش هو إليها. ولعل الرجل المسكين هو الذي وقف في مرمى مودرا تاكاهيرو. لا أدري ولكن ذاكرة الرجل مفتاحها في جيب تاكاهيرو ولا شك. وهذا غير مهم، المهم هو المفاتيح الأخرى التي قد تكون في جيب ذلك المشعوذ، او العارف.

تاكاهيرو أيضا لم يكن ينظر إلينا. كان نظره يتجاوزنا جميعا وكأننا شفافون. لا أدري كيف عرفت ذلك ولكن نظرته البعيدة كانت واضحة بالنسبة لي. هو ولا شك كان يرانا رغم ذلك، فحديثه معي في طريق العودة لم يكن حلماً ولا تهيؤات.

قررت أن أجري بحثاً سريعا عن المودرات لعل ذلك يقودني إلى تاكاهيرو. وما ان بدأت البحث حتى سمعت طرقا على غرفتي. مغترب مثلي يقيم على سطح بناية شاهقة كهذه لا يتوقع متطفلين عادة في ثلث الليل الأخير.

خفق قلبي بشدة وتوجهت إلى الباب على امل ان لا يطرق ثانية. وبالفعل لم يطرق ثانية ولكن المقبض تحرك وفتح الزائر الجريء الباب.

تفاجأت بالرجل المسكين أمامي. لم يكن مسكيناً هذه المرة. كان حليقا انيقا زكي الرائحة له هيبة كبيرة. قال بصوت خافت: أعتذر لاقتحامي بيتك في هذا الوقت ولكن الامر لا يحتمل. انا من الشرطة ونحن مضطرون لاستخدام سطح هذه العمارة تحديدا لساعة من الوقت. وعليك ان تتدبر امرك خلالها. فلا يمكنك البقاء خلال عملنا. انزل إلى الشارع وسيعتني زملائي بك. وربت على كتفي ووقف جانبا كي يتيح لي الخروج.
أطعته وانا مذهول.

لقد كان هو.

ما الامر وكيف عادت إليه ذاكرته. ماذا حدث وهل كنت متوهما بشأن تاكاهيرو؟ وما هذه المصادفة؟

كنت في انتظار صدفة، وجاءت.. ولكن ما يأتي وانت في انتظاره قد لا يكون صدفة. سرت في جسمي برودة كبيرة وانا انزل سلالم الطوارئ لتلك العمارة الشاهقة، وقررت أن أنتظر مرور الساعة قبل ان احكم على أي شيء.

وأثناء نزولي توقفت لأتأكد ما إذا كنت أصعد أم أنزل، فقد خيل إلي أنني أصعد، وهذا سيعود بي إلى حيث لا ينبغي لي أن أكون بحسب الرجل المسكين. لست متأكداً مما يحدث. أصبحت أراقب أقدامي وأحاول التأكد. مخيلتي ضاقت، لا أشعر انني قادر على استيعاب اتجاه حركتي. ومن الأفضل أن أتوقف الآن كي لا يحدث ما لا تحمد عقباه. سأنتظر في منطقة درج الطوارئ. هي باردة لكنها آمنة ولا شك..


قعدت على الدرجة وضممت نفسي وأغضمت عيني محاولاً أن أهدئ نفسي.

وفجأة شعرت بثقل شديد في رأسي وبحالة انسحاب مفاجئ وسريع تجتاح كياني، وتدفقت إلى وعيي وقلبي مشاعر غريبة بالعودة إلى مكان ما، وشعرت وكأن هناك ما يسحبني ويرفعني إلى سطح بحر عميق لم أكن أدرك أنني جاثم في قعره ويقذف بي إلى برٍ كنت فيه من قبل، وها أنا أعود إليه.


<4>
مواء داخل صندوق شرودنجر


رأيت الحضرة تتكرر أمامي، الكل كان هناك سوى تاكاهيرو. الرجل المسكين كان متكئاً وسط المجموعة. اكتشفت أن عددهم كان سبعة، دون تاكاهيرو، ودون الرجل المسكين. لم أهتم سابقاً بالطفل سوى أنني افترضت أنه جاء مع أحدهم وشعرت أن ذلك سخيف، ولكنني هذه المرة عرفت أنه جاء وحده. لقد كان الطفل، وبخلافي، مدعواً. المرأة الروحانية كانت قصيرة وممتلئة وجميلة وساذجة. طبيب الأعصاب كان طويلاً جداً. الطفل كان في العاشرة تقريباً، وكان حسن الوجه وضئيل البنية. كان هشاً كالبسكويت، ولكن كانت له عينيان متلألئتان كبيرتان تأسران القلب. كان هناك رجل قوي البنية كث الشارب يقف إلى جانب الطبيب طوال الوقت ويومئ برأسه موافقاً على كل ما يقول، ولكن بدا لي وكأن الطبيب يخافه. الطفل كان يحوم حول المرأة الروحانية، وكانت تحدثه وتبتسم له ابتسامات عريضة بسذاجة، أما هو فكان يحملق عينيه الكبيرتين بفضول وبراءة ويهمس لها بأشياء كانت تضحكها. كان هناك رجل أنيق ناعم يرتدي النظارات ويقف وراء الرجل المسكين وكأنه موكل به. وكان هناك رجلان جالسين، كانا جالسين بخلاف سائر الحضور، وكل واحد منهما كان يجلس في جهة مقابلة للآخر، وكانا ينظران إلى كل شيء سوى بعضهما البعض وكأنها لا يريان بعضهما، أو ربما يتجنبان بعضهما. وبالطبع لم يكونا ينظران إلي أيضاً. وكان بحوزة كل منهما دفتر يسجل عليه ما يحدث.ولم يكن أي منهما يسند ظهره بل كانا يميلان إلى الأمام ويظهران اهتماماً بكل ما يحدث. كان التناظر في المشهد هائلاً ومهيباً، ويوحي لك (وربما يوهمك) بأن ثمة معنىً.


أما تاكاهيرو فكان يبدو مثل السيلويت هذه المرة، كان ظلاً أكثر مما هو جسد، وكنت على وشك أن أقرأ المودرا التي كان يشير بها تجاه الرجل المسكين، ولكن ما ان بدأت أركز فيها حتى بدأ كل شيء حولي يتلاشى. لقد أدركت أنني في حلم ويبدو أنني لست هنا.

شعرت بماء ينسكب على وجهي ففتحت عينيّ لأجد نفسي على حمالة إسعاف خارج المبنى. كان الرجل المسكين واقفاً أمامي وبيده وعاء خزفي أبيض، ومن حوله وقف ثلاثة أشخاصٍ آخرين. سرعان ما اقترب مني وسألني باهتمام: أأنت بخير؟ وأومأت برأسي موافقاً وأخذت ألتفت في كل اتجاه لأستوعب ما حدث. فقال لي: وجدناك بعد نصف ساعة من نزولك مغشياً عليك قرب الطابق الأرضي في سلالم الطوارئ، واستغرق إيقاظك حوالي نصف ساعة أخرى. نحن نعتذر لإزعاجك وإرباكك. الوقت لا يزال فجراً. إذا كانت تشعر أنك جيد يمكن أن تعود إلى حجرتك وتستأنف نومك. لقد أكملنا عملنا، وشقتك كما هي لم يتغير عليها شيء. أم أنك تريد أن نصطحبك إلى طبيب أو مستشفى؟

أكدت له أنني بخير وأن ما حدث كان جراء إجهاد لا أكثر وأنني قادر الآن على العودة بنفسي إلى شقتي على السطح.

غادرت المجموعة سريعاً في سيارة خاصة لم يتسن لي أن أتأكد ما إذا كانت سيارة شرطة فعلاً. وكنت على أية حال أشعر بتعب شديد، فسارعت استقلال المصعد إلى شقتي ووجدت المفتاح في الباب، فدخلت واستلقيت على السرير. كان الرجل المسكين على حق. كل شيء كان على حاله ولم يعبث أحد بممتلكاتي، وكان أثر رائحة عطر الرجل المسكين الثمين لا يزال موجوداً في المكان.


لم يتقبل عقلي أن ما يحدث مصادفة، وشعرت وكأن ما حدث كان الحلقة الأولى، وأن ذاكرة الرجل المسكين لا بد أنها أخطر مما ظننت، وأدركت أن تاكاهيرو هو بالتأكيد رجل غير عادي. أما حلم الحضرة، فلم يتقبل عقلي أيضاً أن يكون مجرد حلم. لقد كان شيئاً حياً جلياً حتى بعد أن أدركت أنني أحلم.

لم يكن بوسعي سوى أن أواصل الانتظار، ولكنني هذه المرة أعلم جيداً أنني لا أنتظر صدفة ما، بل أنتظر الخطوة القادمة التي سيتخذها تاكاهيرو.


<5>
ملتيفاك يجيب السؤال الأخير

لم يحدث أي شيء جديد لفترة، وفوق هذا بدأت متطلبات الحياة تجرفني بعيداً عن لغز تاكاهيرو والرجل المسكين والحضرة، وراودني إحساس عميق بأن كلّ ما جرى كان عارضاً وليس بالضرورة أن يكون له مغزىً أو معنىً ما. لم أعد أنتظر تاكاهيرو.

كل شيء عاد لرتابته، وشعرت بارتياح رتيب أنا أيضاً، فلعلّ قلبي كان يخفي تحت كل ذلك الفضول شيئاً من الخوف من المجهول، فارتاح حين بدا له أنه لن يحدث شيء غير عادي. لكنّ أحلامي في المقابل لم تعد رتيبة. أصبحت أرى منامات لا علاقة لها بذاكرتي أو بمحتوى عقلي من المعلومات. وجوه لا أعرفها تقوم بأفعال عادية، ولكن لا أفهم لماذا يتم استدعاؤها لأحلامي من قبل ذاكرتي أو عقلي الباطن في حين أنها لا تعني لي شيئاً ولا علاقة لها بأحداث يومي أو بذكرياتي أو بهواجسي. فعلى سبيل المثال كنت أرى امرأةً تطرز ثوباً أخضر، وقد يستغرق الحلم وقتاً طويلاً أو لعلي كنت أشعر أنه طويل. والأغرب هو أنّ الاحلام أصبحت تتكرر وتتغير، فأرى في الليلة التالية المرأة نفسها تطرز ثوباً أصفر، وهي مرتدية للثوب الأخضر الذي طرزته في الليلة السابقة. ثم بدأ التكرار يتخذ أنماطاً، فأرى امرأةً تطرز لليلتين، وأرى أسداً نائماً في الليلة الثالثة، ثم تعود المرأة في الليلة الرابعة والخامسة ويعود الأسد في السادسة. ما كان يميز الأحلام شدة وضوحها، وإدراكي خلالها أنها أحلام، وعادة ما كان هذا الإدراك يأتي في اللحظات الأخيرة من الحلم، حيث كنت أحاول التمسك بالحلم كي يتسنى لي أن أقوم بما أشاء في عالم الأحلام الحر، ولكن الحلم كان يفلت مني وتتلاشى صورة الأسد أو المرأة، وأصحو، ثم أذهب إلى عملي، ويعود زوار الليل في الاحلام.

وذات ليلة، ظهر لي تاكاهيرو مثل السليويت خلال الحلم، وكانت يداه تتخذان وضع المودرا نفسها، وقال بهدوء:

أنا المرأة، وأنا الأسد، وأنا الذي أنتظرك

أصابني ذعر شديد عند سماعي لهذه الكلمات وأفقت ورأسي ثقيل جداً وكأنني قادم من مكان بعيد. فتحت عينيّ وكانت الساعة حوالي الثالثة فجراً، فأشعلت الإنارة في كل أنحاء الشقة، وفتحت التلفاز ورفعت صوته وذهبت لإعداد القهوة، لم أهتم بالمحطة التي أدرت التلفاز عليها، وسمعت أثناء إعدادي القهوة صوت أم كلثوم آتياً من التلفاز “ أنا في انتظارك مليت“. حاولت أن أهدئ من روعي، فمهما شعرت بالحماس لفكرة أن أغنية أم كلثوم رسالة موجهة، سيكون أمراً لا عقلانياً أن أنجرف وراء وهم كهذا، بل وسيكون شيئا نرجسياً وطفولياً وتوهماً لكوني مميزا ومهما. ولما كانت القابلية لإصابتي بالشيزوفرانيا بالأساس واردة في شخصيتي وتركيبتي النفسية والجينية، كان عليّ أن أحذر.

.أطفأت التلفاز وقلت بصوت مرتفع: حماسي لم ينته ولكن صبري هو الذي ينفد. أنا أريد أن أعرف. ولكنّني لا أريد أن أُذلّ كي أعرف. لماذا عليّ أن أعاني؟

.رفعت الستارة لأستقبل أشعة الفجر وأشعر بشيء من الطمأنينة فوقع بصري على لوحة إعلانية ل شامبو لوريال وعليها كتب صلوجان الشركة Because you’re worth it، أي لأنك تستحق ذلك (تستحق بالمعنى الإيجابي).

ما الذي سألته؟ لماذا عليّ أن أعاني؟؟؟ لا يمكن أن يكون هذا الجواب البسيط هو جواب أكثر الأسئلة تعقيدا بالنسبة لي في الوجود؟ أيعقل ذلك؟

لقد عاد تاكاهيرو بعد هذه الليلة مجدداً إلى واجهة تفكيري، وبقوة غير مسبوقة.

بل لعله أفصح لي عن أوّل أسراره:

"المعاناة نعمة"

نعم

نون عين ميم

معنى المعاناة نعمة، نعم.

ولكن، أين تراه ينتظرني، وما المطلوب مني؟؟