هويات الارهاب المتعددة


خالد صبيح
2019 / 3 / 20 - 23:25     

من بين ردود الفعل على حادث نيوزيلندا الارهابي هناك من اعتبر ان ماحدث هو بضاعة المسلمين وردت اليهم، اي ان المسلم وفق هذا المنطق مذنب سواء كان قاتلا او قتيلا، وكانما المسلم هو من اخترع الارهاب. وفي أبسط توصيف لهذا (الرأي) انه لايريد الفهم ويكتفي بإصدار الأحكام، وأحكامه عادة جاهزة ومسبقة الصنع في ذهنه لأنه ينطلق من مفاهيم مقولبة وغير عقلانية حولها الى مسلمات بكثرة تكرارها، هذا عدا انه يندرج في سياق موقف ايدلوجي لمشروع سياسي له ملامح واهداف بينة وصريحة مرتبط بالصراعات الاقليمية والدولية.

سوف يأخذ هذا الموقف شكلا اقل حدة عند اصحاب العلاقة الخطية التي تجد روابط شكلية ومباشرة بين الاشياء، والتي يندرج ضمنها رأي أن ماحصل هو رد فعل لما قام به المسلمون من إرهاب. وهنا نحن أمام رأي تبسيطي يتجاوز ارث عريض وتجارب تاريخية متعددة مورس فيها ومن خلالها الارهاب والعنف حول العالم قبل أن يكون الارهاب (اسلاميا صافيا) كما هو في هذه الذهنية والمنطق الذي يتبعها.

مفهوم ان لكل واقعة عوامل عديدة تصنعها، منها مايشكل اسبابا حقيقية، وتلك تكون عادة كامنة وغير مرئية، وهناك أيضا بواعث ودوافع تحرك فاعليها، وهذه هي الابرز على السطح، لهذا يتصور البعض أن دوافع تصرف ما وبواعثه هي أسبابه الفاعلة.

وأسباب العنصرية، التي انتجت حادثة نيوزيلندا، أبعد في جوهرها ومسار تطورها من مستوى رد الفعل على وجود الأجانب في بلدان الغرب وممارساتهم غير المناسبة للقيم والنظم الاجتماعية هناك بسبب عجزهم عن الاندماج، او بسبب الارهاب الاسلامي الذي هو بدوره، من زاوية معينة، يندرج في نفس السياق المنتج للارهاب العالمي، أي أنه ظاهرة عالمية تتعلق بأوضاع تاريخية نحياها الآن وهنا وليس نتاج ماض ونصوص يعاد احياءهما.

عدا هذا فان العنصرية تلجأ لتغليف موقفها وسلوكها بنزعة كراهية للمختلف والغريب لدوافع ليست عرقية وثقافية فقط، كما تحاول ان تدعي وتضلل، وانما لأجل التعبئة السياسية والدعاية الايدلوجية، فهي ايضا منخرطة بالصراع السياسي والايدلوجي في مجتمعاتها.

لقد وجد العنصريون فيما مضى، وسيجدون، مثلما هم الآن، أسبابا وضحايا يمارسون عليهم عنصريتهم، مثلما فعلت النازية باليهود على سببل المثال. فمن أجل تبرير القمع الملازم للنزعة الاقصائية للعنصرية، يجب ايجاد أقلية وتحميلها كل الجرائم، وهذا واحد من التبريرات الاساسية للعنصرية. وتاريخيا نسبت النازية لليهود كل شرور الكون لقمع المجتمع بأكمله، لكنها، ولتجعل مبرراتها مقبولة، أخذت، مثلما يفعل العنصريون اليوم، خصالا وممارسات بعضها حقيقي عند اليهود، كما هو الأمر في أيامنا حينما يتعكز العنصريون وكارهو الاجانب على وقائع وحالات فعلية في أوضاع المهاجرين و سياسة الهجرة، لكنهما، نازيو الثلاثينيات وعنصريو اليوم، يجردان الخصال والممارسات من أسبابها الحقيقية والآنية ويعممانها ويطلقانها ويسبغان عليها، قسرا، طابعا جوهراتيا، بمعنى يجعلانها، صفة خاصة بهذا الشعب أو تلك المجموعة تبقى لصيقة به وبها طالما هما موجودان، في كل مكان وأي زمان، ولا يمكن أن تتأثران بالتاريخ ولا بالمكان ومتغيرات البيئة والزمن.

الاينظر العنصريون واليمين الليبرالي اليوم، في خطابهم السياسي والايدلوجي، بهذه الطريقة الى العرب والمسلمين والسود واللاتينيين وغيرهم من غير البيض؟

لكن، ولتتبع الحجج والدعاوى العنصرية الى مدياتها القصوى، سنفترض، في سيناريو خيالي، غير قابل للتحقق فعليا، أن جميع المهاجرين سيعودون الى أوطانهم الأم، وسوف تغيب عن المشهد شمّاعة الارهاب الاسلامي؟ هل ستنظف حينها مجتمعات الغرب في نظر العنصريين واليمين الفاشي ويتحقق النقاء الثقافي والعرقي فيها؟ وهل سيكف العنصريون والفاشيون عن ممارسة العنف والكراهية والاقصاء ازاء المختلفين ؟ بالتاكيد لا، وذلك لانهم جوهريا لايقبلون بالاختلاف، وهم سيعثرون على من يمارسون عليه عنصريتهم واقصاءه في مجتمعاهم (النظيفة) من المهاجرين، فهناك الغجر والسود واليهود وجماعات اخرى عديدة تشكل كيانات راسخة وعضوية في المجتمعات الغربية، سيجعلهم وضعهم المختلف اهدافا مستقبلية و (آنية)، في كثير من الحالات، لممارسة القمع ضدهم. لكن هل سينجح العنصريون في تحقيق أحلامهم وخرافاتهم؟ أشك في ذلك، فمنطقهم وأهدافهم غير قابلين للحياة، فالبداهات العلمية والعقلية تخبرنا، وببساطة شديدة، أنه لايوجد شيء اسمه عرق نقي، أو ثقافة صافية (بديل العرق في المفهوم العنصري الجديد)، واختلاط البشر والثقافات ظاهرة طبيعية وضرورية للمجتمعات لأنه ظاهرة صحية، فالتعدد يُغني ويطور، وتجارب التاريخ أثببت في مواضع عدة هذا الامر. وحتى في عالم الحيوانات، اثبتت دراسات علمية ان تلك التي تعيش حياة جماعية تتصف بذكاء اكبر من التي تحيا منفردة.

ولابد من الاشارة الى ان التاريخ قد سجل لنا شواهد معروفة للطابع الشمولي لعنف العنصرية الذي يعمم على الجميع، فقد قتلت النازية الألمانية، بدوافع عنصرية، اليهود والغجر، لكنها صفّت أيضا اليساريين والاشتراكيين وكل من اختلف فكريا وسياسيا معها، وهؤلاء كانوا المانا و (آريون أنقياء) بل انها صفّت المختلين والمرضى والمعوقين لأنهم غير أصحاء ويلوثون العرق (كذا).

ألا تكفي هذه الحقائق لأقناع قصيري النظر ممن يقبلون ارهاب العنصرية وفاشيتها ويبررونهما بحجة أنها ردة فعل على ارهاب آخر، في أن دوافع العنصريين لممارسة الارهاب ليست مقترنة بوجود مسلمين على أرض الغرب، وأن كلا الارهابين، الأبيض والإسلامي، هما نتاج تاريخي لمرحلتنا ويتشابهان،إن لم يكن يتساويان تماما، في منطقهما وأهدافهما وأساليبهما، فكلاهما يستهدف الابرياء، بقسوة ووحشية، وباستهدافهما هذا ما يكفي لإدراك بشاعتهما وخطورتهما المشتركة.