حول الوضع المصري ، ما العمل؟!


أحمد محمد منتصر
2019 / 3 / 5 - 07:55     

" الشعب لن يثور ! الشعب يحب حياة الكُرباج!! "

واحدة من الجُمل الإفتتاحية التي تعقب وصف حالة الصمت واللامُبالاةالسائدة ، وبالفعل نحن نعيش حالة من الصمت اللامُبالي للجماهير الذي يدل علي إستلابها ومدي السيطرة عليها ، والحقيقة ان تشخيص اللامُبالاة هذا يمثل مشكلة فقط لمن هم "في السُلطة" او "الثوريون" الذين يريدون الإستيلاء علي السُلطة ، لماذا ؟!
لإن الفريقين السابق ذكرهما ، يبني كل منهما تصوراتهم وخططهم بناءًا علي مبالاة/لامبالاة الجماهير ؛

فالسُلطة تتخذ قوانينها وإجراءاتها وتشريعاتها ، وبناء علي صمت ولامبالاة الجماهير ، تشرع السلطة في تمرير المزيد مما كانت تخضعه للظروف ، وسياسة رفع الدعم خير شاهد علي ذلك ، الخطة التي كان محدد لها خمس سنوات ، شرعت الحكومة بتنفيذها في ثلاثة فقط وفي وقت مكثف فائق للتوقعات -بحسب تصريح مندوبة صندوق النقد كريستين لاغارد- ، كل هذا كان بناءًا علي رد الفعل اللامبالي من الجماهير.

وفي الجهة المقابلة ، الثوريون ، يرون تمرير سياسة تلو الأخري ، قمع تلو آخر ، وإهمال وإعدامات و جور ما بعده جور من السلطة ، ثم ينظروا للجماهير؟! يجدوها لا مُبالية! ولكنّ ؛

تلك اللامُبالاة الصامتة هي "سلاح الجماهير المطلق" بحسب تصريح احد الفلاسفة الذين يأسوا من الجماهير والتغيير "بودريار" ، بل ويزيد قولًا :
" الجمهور رغم القيام بعمليات مسح له حتي الموت ، إلا انه لا يقول هل الحقيقة مع اليسار أم مع اليمين؟! ولا يقول هل يفضّل الثورة أم القمع؟! الجمهور يستخدم صمته اللامُبالي كقدرة علي التحمّل وكقدرة أخري علي تدمير كل أشكال السلطة "

والحقيقة ان الشعب لن يثور فعلًا إلا بنُضج الوضع والحالة ، والوضع الثوري يُنشيء حالة ثورية ، والوضع الثوري لكي ينشأ يلزمه نضج للظروف الموضوعية -أزمة شاملة تجتاح المحكومين من بؤس وتردّي معيشي وتصيب الحاكمين بعجز وشلل عن ممارسة الحكم- ، ونُضج الظروف الذاتية - تحلّي جيل ما بقدرة وعي إضطهاد حقيقي يفرز من خلالها قيادة إنتفاضة- ، وهذان عاملان رئيسيان لإنتفاض الشعب.

ففي فترة ما كان الخطاب الشعبي العام -الترند/الحالة - عبارة عن نقاش حول السياسة ، انتخابات مجلس الشعب ، الدستور ، انتخابات الرئاسة ، محاسبة نظام مبارك ... الخ ، وتلك كانت فترة من 2011 حتي ما قبل السيسي 2013 ، الفترة التي اتسمت بالمدّ الجماهيري الذي ان لم يتم التعبير عنه علي مستوي الفعل والحراك ، فكان التعبير علي سبيل الخطاب والتداول الايدولوجي ، وتلك الفترة بالرغم من قصرها إلا انها كانت معبّرة عن نضج الظروف الموضوعية والذاتية وقتذاك التي أنتجت حالة ثورية عامة ، وتلك الفترة سبقها فترة إنحطاط وركود ورجعية عاصرت وجود مبارك وتراكمت علي مدار ثلاثين عامًا ، ثلاثون عامًا انتجت وضع ثوري تم مراكمته علي كافة الأصعدة السياسية والإجتماعية والإقتصادية ، ذلك الوضع بدوره أنتج حالته الثورية التي تم التعبير عنها في 2011 ، والآن مصر ما بعد السيسي تعيش فترة إنحطاط لا يضاهيها احد فيها ، بتحوّل الخطاب الشعبي العام لكرة القدم وخناقات رجال الإعلام وطبعا لا ننسي ترند "فخر العرب" وتناول السقطات والفلتات التافهة والساذجة من جسم فلانة ولبس فلان وكلام علان ، وكل هذا ان دلّ علي شيء فإنه يدل علي إنعكاس حالة الردة والإنحطاط التي خُلقت من الجو العام للحكومة ، حكومة الثورة المضادة التي همّشت المواطن بسياسات الإفقار والتجويع ، وهمّشت السياسي بعزله وفصله عضويًا عن باقي السياسيين بالقمع والإعتقال والإعدام ، وفصله عضويًا عن الشعب بالإلهاء والتأثير الإيدولوجي العام.

وفي نفس الآن يشرع الظرف الحالي المصري في إنتاج التدهور الموضوعي ، وهذا التدهور ستجده يغير المزاج الجماهيري ، فمن سنتين أو ثلاثة كان محظور النقاش السياسي في المواصلات والشارع ، الآن تستطيع سبّ الحكومة بكل بساطة وسيشاركك الناس ، لكنّ هل هذا يدل علي نضج الظرف الموضوعي أم فقط تغيّره ؟!
طبعا فقط تغيّره ، وبإستمرار النهج الحكومي في تنفيذ أجندة سياسات الإفقار والتهميش والتجويع ، سيُتاح أمام المعارضين الثوريين -الذين حتي الآن لا توجد معالم واضحة وشكل جبهوي سياسي لهم وهم التعبير الحقيقي عن نضج الظروف الذاتية- ان يعملوا علي تحويل الوضع الثوري لحالة ثورية ، بربط الكوارث الكبري الناتجة من سياسات الدولة - حوادث القطار/القمع السياسي والإخفاء القسري والإعدام/قتل الجنود/قتل المسيحيين/رفع الدعم وغلاء الأسعار/دستور بقاء السيسي .... إلخ - بربط الوضع والظرف الموضوعي لإنتاج حالة.

ما العمل؟!

دومًا كان الرهان علي إنتفاضة الشعوب هو واحد من أقسي وأشدّ الرهانات ، لإننا كأفراد محدودين بمفهوم "الزمن" ، والزمن كمفهوم يفرق كثيرًا عن مفهوم "الزمان" ، كأفراد متوسط الأعمار الزمنية المُعاشة من 60-70 عام ، إلا إن 25 عام من ظروف إقتصادية وإجتماعية ما ، لا تزن سوي ساعة في مفهوم الزمان بالنسبة للتاريخ ، وبالتالي أقسي التغييرات الإجتماعية والسياسية الجذرية ، بالنسبة ل25 عام تاريخيا هو معيار صغير جدًا ، إلا ان الإنتفاضة أبعد ما يكون عن الرهان والحظ التاريخي ، ونُضج الظروف الموضوعية والذاتية ، هما الكفيلان للإنتصار ، لذلك سأتطرق لخمس نقاط لشرح هذا الرهان وتحديد آلياته ونطاق تأثيره :

أولًا :
حين انقض الفريق السيسي علي المشهد السياسي في يوليو 2013 ، وفي ظل الزخم الجماهيري الذي كان ما زال يرتكز للشارع ، وفي ظل ذاكرة دستور2012 الذي كان من ضمن النقاط الكبري الذي يرتكز عليها هو مواجهة التوريث -توريث مبارك- ، فلم يكن متاحا للسيسي وللقوات المسلحة انذاك العبث بدستور 2014 ، وفقط بالنسبة لهم كان الأهم هو تثبيت شرعيتهم ووجودهم خوفًا من زخم الشارع.
الآن نحن ب2019 ، اكتسب السيسي شرعية للوجود ، شرعية دولية ، وأخري داخلية تستمد وجودها من السيطرة البوليسية والإعلامية والإيدولوجية ، وعلي اثره تم تهميش العمل السياسي الذي كان له أكبر النزوع في سنوات الثورة 2011-2013 ، كل هذا أفسح المجال لشرعية جديدة ، هي شرعية الدولة المنتصرة ، التي نقلت شعارها من "شرعية الوجود" ل"شرعية البقاء".

ثانيًا :
تهميش العمل السياسي في مصر تم بمنهجية عالية ، بدءًا بغلق ميادين التظاهر لشهور لموجة إعتقالات واسعة طالت اليمين من الإخوان المسلمين لليسار الراديكالي من الشيوعيين والإشتراكيين وفصل الطلبة بالجامعات وتتبعهم إلكترونيًا وقتلهم أيضًا -مثلما حدث في جامعة الإسكندرية بالمجمع النظري وكليةالهندسة في 2014- والحكم بالمؤبد وتتالي الإعدامات والتوقيفات والإشتباهات المستمرة والمطاردات المنزلية وقمع الأهالي ، كل هذا وأكثر كان حصيلة دولة عبدالفتاح السيسي ، ولن يكسر هذا سوي "المخاطرة السياسية" ، وتلك المخاطرة ينتهجها السياسيون التقليديون فقط بدعوة الجماهير في بيانات إلكترونية بالتصويت ب "لا" ، وأنا أقول ان من يرغب العودة لفتح طريق مزاولة للعمل السياسي لابُد ان يراعي انه في ظرف موضوعي لا يكفل السياسة ، و ان لو هناك دعوة حقيقية تصلُح لتكون منبر لدعايا سياسية جديدة ، فلتكن تلك الدعوة ملصوقة بالإضراب العام والإنتفاض.

ثالثًا:
الإضراب العام هو مرحلة تكتيكية لقطع الطريق علي السيسي ، لتمرير دستوره ، فالهدف الحقيقي هو قطع الطريق علي الوصول لتصويت برعاية وإشراف دولة بوليسية ، ولن يحدث ذلك إلا بضرورة الإنتفاض ، وضرورة الإضراب العام وإعلان العصيان المدني في المصانع والجامعات ومحطات السكك الحديدية وبالشوارع العامة ، وأن تُعلن في وجه النظام الجمهوري الذي يقوده عبدالفتاح السيسي أننا لن تُرضينا ضمانات الديمقراطية الساذجة ، فماذا تنتظروا من ديكتاتور عسكري اقتنص الحكم علي ظهر الدبابات وعميل لصندوق النقد الدولي وراعٍ لسياسات الإفقار والتهميش ونصير للبرجوازية ومُسهّل للمسثمرين ورجال الأعمال ومُعسّر للمواطنين ولجموع الطبقات العاملة والغير عاملة ، تنتظرون ان ينزل لإرادة الشعب!

رابعًا :
تخيل معي المزاج الجماهيري ، حين تخيّرها بين التصويت ب"لا" ، والمقاطعة؟!
ستختار المقاطعة بالطبع ، لإنها تعي المشهد تماما ، ان حدوث استفتاء يعني تمرير وجود وبقاء السيسي.
ان الجماهير علي أتم التهيؤ والإستعداد لتلقّي ورقة أو خطبة أو هتاف ضد الحكومة والسيسي ، الجماهير في حالة سخط يومي ، تستطيعون رؤية ذلك علي المقاهي وبالمواصلات وفي طوابير الإنتظار ، الجماهير تنتظر من يقودها لا من يدعوها للتصويت.

خامسًا والأهم :
من اليوم إلي إقرار الإستفتاء ، مازال أمام الثوريين والسياسيين متسع من الوقت ليبدءوا من كيف نحرّض ضد السيسي؟! كيف نقطع الطريق علي السيسي؟! وليس البدء من كيف سندعو الجماهير للتصويت ب"لا".
لتكن الدعوة للتصويت هي الدعوة الأخيرة ، التي نكون قد وصلنا لها بعد تكثيف للعمل وللتحريض وللمخاطرة والشجاعة الذاتية لقيادة الجماهير صوب معترك حقيقي.
ان السيسي ونظامه يدعونا لإستفتاء ، ولن يدعو العدو خصمه لشيء إلا لإحداث مصيبة به ، اننا نري الطريقة التي تتعامل بها الدولة الآن ، تعذيب وتعسيف للمعتقلين ، ومنع زيارات ذويهم ، وتغريبهم ، وإعدامهم ، هذا علي مستوي العمل السياسي ، وقتل عشرات بل مئات من المجنّدين واستخدام المسيحيين في السياسة والتدليس عليهم وقتلهم والتضحية بهم ، ووقوع ملايين من الطبقات المعدمة بل والمتوسطة ضحايا لسياسات صندوق النقد الإفقارية ، وبيع للقطاع العام وتشريد أكثر للعمالة ، وإحتكار الدواء والفنّ والصحافة والعمل العام لصالح الدولة ، وفوق كل هذا ، تمرير لدستور يعطي السيسي صلاحيات الإله في الأرض ، في البقاء الأبدي والإستحواذ علي القضاء والتشريع ، وصون الديمقراطية برعاية القوات المسلحة!

لابد من التواصل الواسع بين جبهات سياسية تضع " الوقوف في وجه نظام السيسي الجمهوري " كبند أوّلي لن يتم تحقيقه سوي بالإنتفاض ، أكرر الوقوف في وجه السيسي لن يحدث سوي بالدعوة بالإنتفاض.

بالنهاية ، الثورة السودانية الذين يتكتّمون عنها ، داخليًا وإقليميًا ، تقطع شوطًا كبيرًا صوب انتصارها ، فبالرغم من التعتيم الكامل وقمع قوات البشير وشُحّ التضامن الإقليمي ، إلا ان الثورة السودانية تمرّ ؛

الثورة السودانية تمرّ لإجبار البشير ونظامه علي الرضوخ والإنحناء أمام الهياج الشعبي ، فالبشير كان علي وشك تمرير دستوره الجديد ، إلا ان هبّة الشعب عطّلت كل شيء ، هبّة الشعب يا سادة عطّلت كل شيء ، بل وأصبحت السيادة الشعبية الآن تطالب بإسقاط البشير.

الثورة السودانية تمرّ لتفتح آفاقًا في وهران الجزائر ، ليخرج الجزائريون يطالبون بدفن هذا البوتفليقة ونظامه.

الثورة السودانية تمرّ لترسم لنا ، نحن المصريين أملًا جديدًا للخلاص من الديكتاتور العسكري عبدالفتاح السيسي الذي يريد البقاء بتمريره دستوره الخاص ، الثورة السودانية تخبرنا ألا طريق سوي الإنتفاض ، الثورة السودانية تخبرنا ان الفعل السياسي الأنجع هو قطع الطريق والإنتفاض.