تأملات فكرية وملاحظات تطبيقية حول -التنمية البشرية- و الفقر


محمد عبد الشفيع عيسى
2019 / 2 / 20 - 08:43     

مقدمات أساسية
... و أخيراً أصبح الفقر ملكاً متوّجاً، فباسمه تدبّج الدراسات والأبحاث الدولية والمحلية، و على شرفه تقام المؤتمرات وتشرب الأنخاب..! فلماذا؟
فلنبدأ من حيث يبدأون.
حول مقاييس الفقر الشائعة: إذ الفقر وفق ماهو شائع نوعان:
- فقر الدخل
- فقر القدرات، فى ضوء الندرة النسبية الشديدة للخدمات الاجتماعية الأساسية وخاصة التعليم والصحة.
هذان هما المعياران السائدان فى دراسات و تقارير "التنمية البشرية" و قد يضاف إليهما:
الفقر بالإحساس والشعور، أو التقدير الذاتى للفقراء أنفسهم.
و يمكن أن يضاف :
- فقر الشروط : شروط البيئة ، البيئة الطبيعية – الاجتماعية ، وتشمل : حالة المرافق العامة ، الخدمات الاجتماعية ، و هياكل البنية الأساسية.
ولكن لماذا اهتموا بالفقر ؟
الحق عندنا أن الحديث الراهن عن الفقر أثر من آثار هجمة التفكير الرأسمالى بالمعنى العام، في محاولة لتعقب ومحاصرة التفكير الاشتراكى، وخاصة منذ السبعينات والثمانيناتمن القرن المنصرم.
فمنظور الفقر ذاك يركز على مستوى الدخل ، دخل الأفراد، أو قدراتهم الظاهرة. و إذْ يتحدثون عن إنتاج فقر الأفراد، فإن في هذا نوع من التطبيق لما يمكن أن يسمّى (التحليل المالى لمشكلة الفقر) ، أو يركزون على حالة فقراء الدخل أو فقراء الخدمات (القدرات) دونما اهتمام بالشروط الاجتماعية لإنتاج الفقر، أو إنتاج فقر المجتمع.
وإنما ينبغي الانتقال من التحليل المالى إلى مستويين آخرين(بلغة تقييم المشروعات أيضا) :
1- مستوى التحليل الاقتصادى ويدخل هنا فقر الشروط بما فيها الشّغل وشروط العمل .
2- المستوى الأعمق ، التحليل الاجتماعى، حيث جذور الفقر ، إنتاج فقر المجتمع .
ومن هذا المنظور المركب يصبح التركيز على فقر المجتمع وليس على مجرد فقر الأفراد فى حدود ذواتهم. و لا يعنى هذا إهمال فقر الأفراد؛ فإن فقر المجتمع هو الذى يوفّر المنظور الأفضل لفهم فقر الأفراد؛ وذلك ما يغفله دعاة الفقر والتنمية البشرية .
وهنا يمكن أن يقاس فقر المجتمع اعتمادا على: أ–الهيكل الاقتصادى الاجتماعى، متمثلا فى : هيكل الأنشطة والقطاعات، و هيكل توزيع الدخل القومى. بعبارة أخرى، إن الهيكل الاقتصادى للمجتمع الفقير هو هيكل التخلف .. إنه المجتمع المتخلف اقتصادياً باختصار.
ب- علاقة المجتمع بالمجتمعات الأخرى، من حيث التبعية والخضوع مقابل الاستقلال وحفظ الهوية. فالمجتمع الفقير يرتبط فيه الهيكل الاقتصادى ارتباط تبعياً بالخارج. و من ثم يرتبط جهد القضاء على الفقر بجهد القضاء على التبعية والخضوع .

دروس من التجارب السابقة، ومربّع التنمية
أكثر مما سبق، لايكفي أن تركز التنمية على التحول الهيكلى والاستقلالية .. فقد كانت التجربة السوفيتية تفعل ذلك ولم يتحقق أثر ملموس على مستوى معيشة المجتمع يتكافأ مع الجهد المبذول والتضحية الجسورة ، ويعود ذلك إلى عدة أسباب من بينها:
مركزية التخطيط وجموده ، من ناحية أولى، و رأسمالية الدولة البيروقراطية (و ما كان يسميه البعض "الطبقة الجديدة") من ناحية ثانية. و سبب ثالث يرتبط بالسابقين : وهو اختيار نموذج تنموى قائم على مدخل التحول الهيكلى فى حد ذاته كأولوية أولى مطلقة على رفع مستوى المعيشة. و قد تَمثل مدخل التحول الهيكلى فى أسلوب التصنيع الثقيل وفى تطبيق القانون الأساسى لتكرار الإنتاج الموسع، من خلال إعطاء أولوية لقطاع صناعة الآلات على صناعة السلع الاستهلاكية، وفى داخل قطاع الآلات إعطاء أولوية للقطاع الفرعى للآلات المنتجة للآلات.
وقد اقتفت تجارب إحلال الواردات فى البلاد النامية، إلى حدّ معين، النمط السوفيتى فى التنمية (تكثيف رأس المال)؛ ولكن لأنها لم تكن تملك مقومات التطور الصناعى والتكنولوجى فقد استوردت رأس المال العينى المكثف مما زاد الطين بلة أكثر مما فى التجربة السوفيتية بالإضافة إلى التوجه بالإنتاج للطبقة الوسطى (سلع معمرة ..الخ) .. ولم يحدث،من ثم، ارتفاع منهجى فى مستوى المعيشة للغالبية الاجتماعية الشاسعة Vast Majority.
وفى المقابل، ركزت تجارب تطوير الصادرات في بلدان الشرق الآسيوي الموالية للغرب على إقامة قطاع جيْبىّ enclave (حيث ازدواجية الاقتصاد Duality) موجّه نمو الخارج دون أن تستفيد منه غالبية المجتمع، سواء من خلال مزج تطوير الصادارت بإحلال الواردات (تجربة البرازيل فى الستينات والسبعينات) أو من خلال تطوير الصادرات الخالص (الشرق الأقصى وخاصة كوريا الجنوبية فى السبعينات) فكانت ثمار النمو في الحالتين من نصيب أقلية منتفعة في المقام الأول، أو لم تصل بطريقة فعالة إلى الغالبية-حتى بداية الثمانينات .
لذلك ظهرت فى غمار "الدعوة إلى نظام اقتصادى عالمى جديد"–في السبعينات والثمانينات- دعوة مصاحبة للتركيز المباشر على إشباع الحاجات الأساسية .. وظهرت، من جهة أخرى مقابلة وربما منافسة، دعوة فى أروقة البنك الدولى وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائى، للتركيز المباشر على مهاجمة الفقر ولتحقيق التنمية البشرية .
وقد أغفل دعاة الاستراتيجيات الثلاثة البديلة (الحاجات الأساسية – مهاجمة الفقر – التنمية البشرية) ما ركز عليه دعاة التنمية بالتصنيع الثقيل و إحلال الواردات أى : التحول الهيكلى ونوع من الاستقلالية النسبية فى المجال الخارجى. وهم و إن لم يظهر البعض منهم تحيزاً ضد "التوجه التبعيّ للخارج" بشكل صريح فهم لم يتحيزوا للتوجه نحو الداخل قطعاً، و إن كانوا ،ضمنياً، أكثر ميلاً لتوجه معين نحو الخارج قد يأخذ شكل (التجارة بدلاً من المعونة) ..

و نحن نرى أن المهم هو التحول الهيكلي و النزعة الاستقلالية، مع مراعاة العدل الاجتماعى بتوزيع الدخل حسب الجهد الإنتاجي، بالمعنى الرحب الذى يضع فى اعتباره دور رأس المال الخاص فى المراحل الانتقالية، من خلال قيامه بالمشاركة فى الجهد الرامى إلى زيادة الناتج الاجتماعي. ثم أن التحول الهيكلى والاستقلالية والعدل الاجتماعي، كل ذلك لا يضمن تلقائياً رفع مستوى معينة الغالبية الاجتماعية، لذلك يجب أن نضع ضلعا رابعاً للتنمية هو:التحسين المتواصل لمستويات المعيشة للغالبية الاجتماعية، ونقصد بذلك معنى متشعبا يشمل كلّا من:
1- وسائل العيش (طرق ومستوى المأكل والمشرب والملبس). وكان يعبر دعاة "الحاجات الأساسية" عن ذلك بطريقتهم الخاصة .
2- وسائل التكسب، من خلال الاشتراك فى تملّك الأصول، سواء من خلال الملكية التعاونية ، أو من خلال الملكية الخاصة عبر ما يُطلق عليه (أسلوب الإنتاج السلعى البسيط) الزراعي والحرْفي، و عبر الملكية الرأسمالية غير المستغلة.
3- التحسن البشري، أى الترقّي فى مضمار التكوين الجسدى والعقلى للبشر –بالتعليم والصحة- و رفع "نوعية الحياة" quality of life و بمعيار"العمر المتوقع عند الميلاد.
4- "الاستمتاع الحيوى" بالمعنى الشامل ، أى قضاء وقت الفراغ من العمل بما فى ذلك الترفيه والتسلية والتثقيف الذاتى .
.. إن سياسات التنمية إذن لابّد أن تزاوج بين مهمتين :
أ – التحول الهيكلى للاقتصاد القومى ، مع توجيه الهيكل الانتاجى ليخدم رفع مستوى المعيشة ، بالتركيز على الأنشطة المحققة لوسائل العيش والتحسن البشرى و الاستمتاع الحيوي.
ب- العدالة فى توزيع الناتج الاجتماعى (السلعى والخدمى) بما يتناسب مع المشاركة فى الجهد الإنتاجى، جنبا إلى جنب مع توجيه هيكل ملكية الأصول-ملكية الثروة- بما يحقق هذه العدالة في قاعدتها الأساسية.


و إن الشرط الضرورى لذلك، وإن يكن غير كافٍ وحده ، فهو :
- الدور الإشرافى للدولة على عملية التنمية .. بما فى ذلك ضمان :
أ‌- مرونة التخطيط . ب- تشجيع رأس المال الخاص المنتج.

ويلاحظ مما سبق ما يلى :
1- أن التحول الهيكلى للاقتصاد ليس تحولاً على الأنموذج القديم القائم على استراتيجية "التصنيع الثقيل" وكفى، ولكنه قائم على رفع مستوى المعيشة للغالبية الاجتماعية، وبتعبير أدق : التحسين المتواصل لمستويات المعيشة الاجتماعية .
2- أن عدالة التوزيع ترتبط بأدوار تكاملية للقطاعات المختلفة للملكية مع دور إشرافي لجهاز الدولة كمنظمة اجتماعية للسلطة العامة .
إن التحسين المتواصل لمستويات المعيشة الاجتماعية ، مع التحول الهيكلى والعدالة الاجتماعية والنزعة الاستقلالية فى العلاقات الدولية هى إذن أضلاع مربع التنمية كما ينبغى أن تكون. و يمكن أن يمثل ذلك إطاراً مفاهيمياً للتنمية يحقق ويتجاوز ما يزعم دعاة الفقر والتنمية البشرية التوصل إليه، دون استخدام رطانتهم على كل حال.
وإذا كان دعاة التنمية البشرية ومواجهة الفقر يتحدثون عن ضرورة توفير فرص العمل وتحسين الدخل ، فإننا نذهب إلى أبعد من ذلك فنتساءل عن ضرورة تحديد مصادر الدخل والعمل ، بأن تكون من الأنشطة المنتِجة بمقتضى التحول الهيكلى . فبذلك يمكن أن يتميز المدخل التنموى عن مدخل التنمية البشرية ومواجهة الفقر .


مدخلان متكاملان لمواجهة فقر الفقراء
من أجل مواجهة مشكلة الفقر، الفقراء بالأحرى، فإنه يمكن أن نطرح مدخليْن متكامليْن، أحدهما موجه لغير القادرين على أداء الجهد الإنتاجي، او العمل المكسب، أي من هم "خارج قوة العمل" بفعل العجز لأيّ سبب، أو بفعل الشيخوخة أو لاعتبارات الاجتماعية محددة بظروفها، وهي الحالة التي يمكن أن نطلق عليها "الإملاق"، حالة الفقراء المدقعين انطلاقا من شروط حياتهم المجتمعية المحددة. والثاني موجّه لمن هم في "قوة العمل" سواء من المتعطلين أو المشتغلين، وذلك بتوفير فرص العمل اللائقة للمتعطلين، وتوفير الأجر المجزي للمشتغلين، وفي مقدمتهم الفقراء المشتغلون. وفيما يلي نقدم شكلا تصويريا للمدخليْن.


1-حل مشكلة "الإملاق"-الفقر المدقع- للمحتاجين من غير القادرين على العمل المكسب:
بالدور الاجتماعي للدولة، من خلال:


1- التحويلات النقدية والعينية المباشرة
2- حصيلة التبرع والتطوع

2-حل مشكلة الفقر
بالعدل التوزيعي


حصول الفقراء على نصيب من الناتج الاجتماعي يتكافأ مع جهدهم و بتعزيز من السلطة العامة عبر آليات متنوعة، من بينها: أسعار عادلة للمنتجات الزراعية – أجور عادلة للعمل الريفي والحضري، العمل العضلي والذهني وما هو "بين بين". و لأن الدخل هنا يأتى من من بذل الجهد، أى العمل، فلذلك لابد من توفير فرص العمل المجزية والملائمة والمنتجة .


و إن العدل التوزيعي، بمعنى تكافؤ نصيب العاملين من الناتج الاجتماعي، أي من الدخل الوطني أيّا كان تعريفه التقني، مع الجهد المبذول في توليد هذا الناتج من الدخل القومى، كما ذكرنا–هذا العدل مشتمل على سبيل التمثيل، بما يلى :
* رفع نصيب الفلاحين والعمال والموظفين والمثقفين من الدخل القومي، ويتضمن ذلك تحقيق أسعار عادلة للسلع الزراعية ، و دعم المستلزمات لصغار المزارعين من الدخل القومى .

* ربط الدخل بالعمل : بمعنى :
أ - تطبيق مبدأ (الجزاء من جنس العمل) أى ربط الأجر بالإنتاجية .
ب- تحويل العمالة الريفية و العمالة "المدنيّة" (بجهاز الدولة الإدارى) إلى عمالة منتجة ، بالقضاء على ظاهرة البطالة المقنعة .
ج- تمكين العاملين من مجاراة التضخم السعري بتمويل مباشر من الموازنة يحقق الربط المنهجي بين الأجر والسعر، بهدف الحفاظ على الكرامة الإنسانية، مع جعل الربط للمتغير الأجري والسعري مع الإنتاجية هدفا ثابتا لصانع السياسة الاقتصادية ومتخذ القرار التنموي.
د- توفير فرص العمل (للقادرين عليه) ، على أن تكون:
• مجزية : أى ذات عائد مناسب .
• ملائمة : أى متوائمة مع تخصص المشتغل وتأهيله التعليمي والمهني.
• منتجة : بمعنى توسيع نطاق الأنشطة ذات الإنتاجية الأعلى ضمن القطاعات المولدة للناتج الاجتماعي، وإن شئت فقلْ: الناتج المحلّي الإجمالي.

وفي جميع الأحوال، ينبغي أن يكون الهدف الثابت هو : محاربة الفقر ( لو كان الفقر رجلاً لقتلته) أي تصفيته، القضاء عليها نهائياً ، أو استئصال شأفته .
و إن محاربة وتصفية الفقر تتحقق بالعدل الاجتماعي بمفهومه الواسع Social Justice: عن طريق توفير "الإنصاف" Equity للمملقين خارج قوة العمل، و العدل التوزيعي Equalityللفقراء سواء منهم المشتغلون والمتعطلون. و تتطلب مهمة تصفية الفقر هذه إنجاز "التحول الهيكلى" مع مراعاة منح الأولوية للقطاعات الرئيسية الأعلى إنتاجيةً –الصناعة التحويلية والخدمات العلمية والتكنولوجية- و للقطاعات الفرعية الموجّهة لإشباع الاحتياجات الاجتماعية الأساسية.

والخلاصة هنا أن الفقر، وهو جوهر المشكلة الاجتماعية، ليس هو جوهر المشكلة الاقتصادية في حد ذاتها بالضرورة، وإنما هو مظهر فشلها ومحصلتها النهائية، فهو رهين الخلل و التشوّه في هياكل الإنتاج و توزيع الدخل والعلاقات الخارجية .

إن الفقراء ليسوا فقراء لأنهم فقراء ، أى أنهم ليسوا فقراء بما هم كذلك ، وهم ليسوا فقراء لأنهم منخفضو الدخل وقليلو فرص العمل، و إنما هم فقراء لأنهم محرومون من العدل ، العدل المرتبط بالتحول الهيكلي الصحيح و بالاستقلالية الحقيقية.

بعبارات مرادفة، الفقر هو ذلك المظهر المتصل بمستوى المعيشة مقيساً بمؤشر متشعب من وسائل العيش ووسائل الكسب ووسائل التحسن البشرى و وسائل الرفاهة أو الاستمتاع الحيوي. ولن يتحقق القضاء على الفقر إلا إذا حاربنا جذره الحقيقي أى "الظلم الاجتماعي"، بمعنى عدم التكافؤ بين الجهد والعائد ، وعدم توفير فرصة العمل. و المجتمع العادل على هذا النحو، أي المجتمع المحقق للقضاء على الفقر، هو- قبل ذلك- المجتمع القادر على محاربة وتصفية الإملاق، أى مواجهة حاجات المحتاجين غير القادرين على الكسب.


تأملات إضافية حول الفقر

فكرة "الفقر" نفسها كما تتداول فى المنظمات الدولية حالياً هي نبتة من نبتات الفكر الاقتصادي "النيوليبرالي" السائد.. إنها الفكرة القائلة بأن هناك فقراء فى المجتمع يجب العناية بهم. ولكنها لا تقول أن المجتمع ككل هو مجتمع فقير . فقد نبتت الفكرة فى العالم الصناعى المتقدم، حيث تحققت عملية القضاء على الفقر بشكل عام، ثم صعدت (دولة الرعاية الاجتماعية)-إلى حين- والمسماة بدولة الرفاهة welfare state ، لتواجه بشكل مستمر بقايا وجيوب الفقر ، التى تتسع أو تنكمش حسب اتجاهات الدورات الاقتصادية (التضخم ، الانكماش ، الانكماش التضخمى أو التضخم الركودى) ...
ورغم ضمور "دولة الرفاهة" في الغرب الرأسمالي- أوربا وأمريكا الشمالية- منذ منتصف السبعينات ، على وقع صعود "الليبراليين الجدد"، فقد بقي العديد برامج الرعاية الاجتماعية على قاعدة الإنفاق الاجتماعى الموسع ، والموجّه إلى الإعانات والدعم السلعى (الغذائى) والخدمى (خاصة الصحى) للفئات الفقيرة والمعرضة للفقر (المتعطلون – ذوو الأجور المنخفضة وخاصة من الجماعات المهمّشة– الفئات غير القادرة على الكسب بسبب العجز أو الشيخوخة.
و جرياً على سُنّة نقل مفاهيم الفكر الغربى إلى العالم المتخلف اقتصادياً والنامى ، فقد انتقلت حملة مواجهة الفقر فى بلدان هذا العالم .. وإنها لحملة مغلوطة فلسفيا، إذ توجه جهودها لجماعات بعينها تسمى بالفقراء تارة ، والمهمشين تارة أخرى ..
وجرت الدراسات الاحصائية والكمية ، وابتدعت ترسانة من الأساليب التقنية المخصصة لقياس الفقر ..إلخ ، وكان الافتراض الكامن وراءها جميعاً تحديد نطاق الفقراء، من خلال حبس مفهوم "الفقر" وراء أسوار جماعات اجتماعية بعينها تتفاوت عدداً ونوعاً حسب المجتمعات المتنوعة.
ولكن الحقيقة أن البلاد المتخلفة اقتصادياً وفي الدرجات الأولى من النمو و التنمية والنهوض الاقتصادي، تعانى من أمرين :
1- انخفاض مستوى المعيشة الاجتماعية عموماً – أو ببعض التعبيرات السائدة : (انخفاض مستوى إشباع الحاجات الأساسية ومستوى الرفاهة ونوعية الحياة) .. ويصل الاهتمام إلى فئات معينة كبيرة العدد والوزن النوعى ، وهذه هى الفئات التى تركز عليها دراسات الفقر الراهنة وتعتبرها هى الفقراء، لعدم القدرة على إشباع حاجاتها الأساسية بدء بالغذاء وانتهاء بسلّة الحاجات الأخرى ..في حين أن نسبة الذين لا يمكنهم إشباع حاجاتهم الإنسانية الأساسية فى البلاد المتقدمة نسبة ضئيلة وغير قابلة للمقارنة مع مجتمعات فى العالم المتخلف والنامى .
2- تزايد درجة عدم العدالة فى التوزيع للناتج الاجتماعي فى المجتمعات النامية و المتخلفة اقتصاديا، باكثر مما في الدول الرأسمالية المتقدمة لأسباب متعددة فى مقدمتها طبيعة الميزان الطبقى فى العالم الرأسمالى والذى يتسم بـــ :
• القوة السياسية والنقابية للطبقة العاملة .
• القوة الاجتماعية للطبقة المتوسطة ، كطبقة عريضة متماسكة ، تمثل حصة يعتد بها فى البنيان الاجتماعى .
لذلك نجد أن :
- معظم سكان المجتمعات المتخلفة اقتصادياً وعديد البلدان على الدرجات الأولى من النمو والتنمية بالذات هم من الفقراء .. أى الأغلبية الساحقة overwhelming majorities وليست مجرد الأغلبية المطلقة (50% فأكثر) أو الأغلبية النسبية (صاحبة أكبر حصة بالمقارنة مع الآخرين أيا كانت الحصة). إنها أغلبية الثلثين وأكثر، نحو 80-90% من السكان .
وفي داخل الفقراء، الذين هم غالبية المجتمع توجد مستويات متعددة:
1- قليلو الفقر
2- متوسطو الفقر
3- الأشد فقراً ..
والأشد فقراً هم الذين لا يستطيعون إشباع حاجاتهم الغذائية الدنيا ، أما متوسطو الفقر فهو الذين يشبعون بالكاد احتياجاتهم الغذائي ، وقدراً من الاحتياجات غير الغذائية ، أما قليلو الفقر فهم الذين يشبعون بالكاد احتياجاتهم الأساسية أو الإنسانية الدنيا .
وكلهم فقراء ... وفى مواجهة الفقراء هناك الأغنياء .. وهم قلة ارتفعت فوق مستوى الحاجات الضرورية وأشبعت حاجات كمالية ، بل وترفيهية تفوق طاقة المجتمع نفسه على الإنتاج .
.. مع الفقراء يوجد من يمكن تسميتهم بالمملقين أو-بالتعبير التراثيّ "المساكين" .. و يكمنون في قاع المجتمع من حيث القدرة على كسب الرزق ، كمحور رئيسى لمستوى المعيشة ..


حاشية حول الموازنة بين نهج التنمية البشرية
و نهج التنمية الشاملة

تتوزع القنوات الموجهة للتنمية البشرية و خفض حدة الفقر في عديد البلاد النامية كما يلى :
1- التحويلات النقدية المباشرة لغير القادرين: برنامج المساعدات الاجتماعية بأشكالها المختلفة، مما تشرف عليه وزارة الشئو الاجتماعية بصفة خاصة . ولكنها غير غير كافية كماً ونوعاً لمواجهة حالات (المُمْلقين) أو الفئات المهمشة .
2- برامج موجهة إلى خلق فرص العمل وكسب الدخول ، وأهمها :
أ – برامج "الصناديق الاجتماعية" الممولة في الغالب من "البنك الدولي"وت حقق هدف توفير العمل والدخول من خلال عدة برامج فرعية هى :
 المشروعات الصغيرة و الصغرى
 الأشغال العامة
 تنمية المحليات
ب- برامج "التنمية الريفية" .
ج- مشاريع على نسق (بنك الفقراء) أو "بنك جرامين" في بنجلاديش.

ولكن أنشطتها جميعاً لا تفى وفاء حقيقيا بمتطلبات مواجهة البطالة في البلدان التي تعاني من نسب البطالة المرتفعة، أو رفع الدخول .
مع ملاحظة :
1- انخفاض النصيب النسبي للدعم من الموازنات العامة لقاء زيادة نصيب التأمينات و التعويضات.
2- تزايد أنصبة التعليم العام من الموازنات العامة في العديد من الدول النامية ولكن مع استمرار الخلل فى النظام التعليمى والعملية التعليمية .
3- تزايد الإنفاق على هياكل البنية الأساسية ولكن مع تحيزها للحضر وللمدن الجديدة لخدمةالفئات ذات الموقع الأعلى على سلّم الدخول.

وإن شئت فقل إن برامج التنمية البشرية ومواجهة الفقر تقوم على ما يلى :
1- التحويلات المباشرة .
2- المشروعات الصغيرة وخاصة للشباب .
3- تحسين أحوال الخدمات فى المحليات والقرى .

.. والمهم هنا أن هذه الأساليب الثلاثة لا تنظر إلى الطبيعة الهيكلية للمشروعات الصغيرة أو أحوال الخدمات – إذ لا يهتدي اختيار المشروعات برؤية تنموية شاملة– هيكلية – معيشية .

و لا بأس عندنا من ناحية التوجه العام، أي المساعدات المباشرة ، المشروعات الصغيرة ، الخدمات العامة ، الأشغال العامة ، و لكن سياقها عندنامختلف:
ففى الصيغة الهيكلية للملكية نرى ضرورة تشجع القطاع الخاص المنتج ، بمستويات رأس المال الصغيرة والمتوسطة والكبيرة ، ولكن مع تشجيع خاص للصناعات الصغيرة والمتوسطة ، على أن تكون صناعات موجهة للتطور التكنولوجى ، صناعات مغذية ، أى مرتبطة بعلاقات التعاقد من الباطن مع المشروعات الأخرى والكبيرة ، أو يكون بعضها مستقلا مثل مشروعات البرامج الجاهزة للحاسبات.
ولا بأس من أنشطة الصناديق الاجتماعية، مع وضعها فى سياق الأفضليات المفترضة ضمن مخطط عام مرسوم تحت إشراف الدولة.
أما برامج المساعدات المباشرة فيجب أن توجه من خلال "برامج التكافل الاجتماعى" والوقف لتوجيه تبرعات ومساهمات القادرين بمختلف مستوياتهم حسب الشرائح الاجتماعية للمحتاجين.
أما الأشغال العامة وتنمية خدمات المحليات والقرى فيجب أن تضع فى اعتبارها ما يلى :
- توجيه الأشغال والهياكل الأساسية بعيداً عن منهج التركيز الحضرى الحالى ، ونهج التركيز على خدمة المجموعات الاجتماعية الضيقة عموما.
- وضع برامج لتطوير المحليات والقرى على المستوى الوطنى العام بحيث ترتبط بتطوير الأنشطة المنتجة والصناعة والخدمات المنتجة خاصة الخدمات العلمية – التكنولوجية.
وهنا نصل إلى (مربط الفرس) : أن ترتبط برامج التنمية البشرية وتخفيف حدة الفقر (ولا يقولون : استئصال شأفة الفقر كما نحبذ) بالتحول الهيكلى ، وبالتحسين المتواصل لمستويات معيشة الأغلبية الاجتماعية ، وهو ما يعنى :
أولا : خلق فرص العمل وتحسين الدخول من خلال الأنشطة عالية الإنتاجية بالمدلول الاقتصادى – الاجتماعى (لا بالمدلول المالى المباشر) – ولرفع مستويات المعيشة الاجتماعية. من خلال :
1- الأنشطة السلعية (زراعة وصناعة تحويلية-كأنشطة أساسية) ويرتبط بهما أنشطة سلعية مساندة هى الكهرباء من ناحية (أو الطاقة عموماً) والتشييد من ناحية أخرى .
ويراعى فى كل من الزراعة والصناعة اختيار الأنشطة الأعلى إنتاجية بالمدلول الاقتصادى – الاجتماعى ، أى أنشطة التنمية الريفية والصناعية القائمة على التطوير التكنولوجى وزيادة الغلّة .. للمنتجين الصغار الريفيين والحضريين ، والمتوسطين .
2- أنشطة الخدمات الإنتاجية، أى أنشطة التجارة والمال والتخزين والنقل والمواصلات ، وهنا نجد مرة أخرى أن من الضرورى اختيار الأعمال التجارية والمالية والتخزينية والاتصالية المرتبطة بأعمال الأنشطة السلعية السابقة الذكر .. وإلا ستكون أنشطة غير منتجة أو ذات طابع "ريعي" حين تركز على التكاثر المالى والعائد النقدى فقط .
3- الخدمات الاجتماعية الرئيسية : التعليم والصحة ، و أن ترتبط بخدمة الغالبية الاجتماعية (رفع مستوى معيشة الأغلبية الاجتماعية بالمفهوم المحدد الذى ذكرناه سابقاً لمستوى المعيشية والذى يشمل وسائل العيش والتكسب والتحسّن والتفتح الحيوى). أما التعليم الحالى في عددي البلدان النامية فهو متحيز للتعليم الأساسى ودون مدّه إلى التعليم الثانوى ، ومتحيز للتعليم الجامعى الذى تستفيد منه الجماعات الأعلى دخلاً، بالمعايير النسبية، ولا يستفيد منه الفقراء أو الجماعات الأدنى دخلاً.
4- أما الخدمات المصنّفة بأنها غير إنتاجية مثل الأمن والإعلام والثقافة و الإدارة الحكومية فهى تحتاج إلى نظرة تنموية أيضا .

ثانيا : توسيع وتعميق منظومة التكافل الاجتماعى للمملقين.. وبذلك لا يتوقف الأمر عند العدل التوزيعي ( حسب صيغة لتوزيع الدخل حسب المشاركة فى النشاط المنتج) ولكن يتجاوزه إلى الإطار التكافلي بمدلوله الرحيب .