الوحي


الطيب عبد السلام
2019 / 2 / 16 - 05:29     

ما هو الوحي

يقول تعالى في الآية الثانية من سورة يوسف "إنا انزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون"، هذه الآية تشير إشارة ذكية إلى ان النص القرآني يتحرك في فضاء العلاقة التي يقيمها العربي مع نفسه و محيطه، هذه العلاقة المتضحة و المواربة في آن، العلاقة التي يخلقها الفهم، العلاقة المسكونة بالحضور الفاني و الغياب الخالد الدائم، الغياب الساكن في الذاكرة، في حضور الماضي و تلاشيه.
فهو نص عربي يتحرك نحو الحياة و نفسه من إستدارات العربي في الصحراء، و في تأمل وجهه على الماء، فاللغة هي التصور الذي نقيم فيه، و ادراكنا لذاتنا، و هي الإستجابة لذلك الوعي.
و اللغة مقالة قبل أن تقال و مسموعة قبل أن تنطق، هي المصباح الذي نبصر به رويدا رويدا اثاث الغرفة المظلمة.
و لعلي هنا ساستعيد حوار قديما جديدا بين المعتزلة و الأشاعرة، بيد أن مدخلي سيكون مسألة الوحي، و ماهية ذلك الوحي،أخذا في إعتباري كلا الأمرين، القداسة من جهة و التاريخية من جهة، محققا ما قاله درويش في نصه "هناك ما يكفي من اللاوعي كي تتحرر الاشياء من تاريخها، و هناك ما يكفي من التاريخ كي تتحرر الاشياء من معراجها،".
بألاحرى المفارق في اليومي و اليومي في المفارق، الحميمية الموزعة في أجندة اليومي، الزيتونة اللا شرقية و اللا غربية و يكاد زيتها يضئ و لم تمسسه نار، الغار الحجري المضئ بمتأمل يكلم الله و يسمع منه.
فهل الوحي كلام الله تماما.. أم أنه كلام البشر تماما.. ام أنه الزيتونة اللا شرقية و لا غربية، أم أنه اللقاء الثر بين اللفظ و معناه، بين التصور و الحقيقة،و سكر الدرويش بالله و مفارقته ذاته و غيابه في شهوده هو لما يحس انه هو، و دمعة منشد في إنشاده، و لذة حاضر بمشاهدة غيابه.
هو الوحي، هو الزيتونة تلك، اللقاء الممتلئ و السداد الواثق من إصابة الرمية مرماها.
و هو المنفلت دوما من أن يصير ما صاره، ذلك و أن البحر لو صار مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي، بل قال كيف صرت: فقلت كالرمل و الموج بينهما اللقاء المستمر و الفراق الأبدي، المواربة و المرواغة، التجلي العابر و الحرية المطلقة.
هو اللغة التي أقول فتفهموها، هو المسافة بيننا، هو الشبيه بما نعيه، و المنفلت عنه لإلتحاقه بالكلي العابر، الكف الممسكة بكل شئ تقوده صوب موردها، شاربا من نهر العلاقة.
هو المحاط بالتاريخ من كل إتجاه، العابر للتأريخ في كونه ظهور للحقيقة في تصور ما عنها، لإن الحقيقة تتبدى في التصور ذلك و أن الله ما وسعته ارضه و لا سماؤه بل وسعه قلب عبد مؤمن، نحن مسكن الحقيقة و محطتها، اللمحة الخاطفة في الإمتداد، اللمحة التي قالت كل شئ و لم تقله.
اللمحة التي تأبى الفناء في التاريخ و تولد كل حين في عود و تأوبل أبدي.
هو الوحي العابر لضيق تصور الماديين الفيللوجين حملة ساعات التأرخة و المحاكمة لواقعة تأريخية ما بإنها خرافة من أفق وعي أخر في لحظة تاريخية أخرى و من كان منكم بلا تاريخ فليرمها بحجر.
يرونها خرافة غير فاهمين لأغلال السلطة التي اكدتها و رعتها و ان ذات السلطة ترعى تصورهم "الجديد" و ترى انه "حقيقة علمية" كما رأت سابقا "انه حقيقة إلاهية".
و هو المفارق لتصور من يراه مفارقا ما فوق بشري، ذلك و أنه من باب المفارقة أن من يقول انه ما فوق بشري هو البشري نفسه، إذ انه في لحظة دخوله التعريف و إن كان نفيا للتعريف فهو بطبيعة الحال تعريفا، مسه البشري بطينه دون شك.
هو الحقيقة الحية في فنائها، تحرر الوعي من ذاته و شعوره بعبوره فوقه و خروجه منه.
هو القائم في البصيرة، و ما البصيرة إلا السير نحو الاشياء و لقاؤها في ذاك السير، هو مثلنا شعرة معاوية بين الخلود و الفناء، بين لمس الطين صورته هو عن نفسه.. هو تلك اللمسة.
يحتاج لغة خفيفة مثله، معنى يسير على الكلام مسير المسيح على الماء.
لغة لا تستطيعها مقابر الكلام "العلمي الأكاديمي" و لا تستطيعها همهمات الغارقين المنتشين، لغة تشبهني انا، انا اللقاء العابر بين التبدي و نيته و المرئي و ال لا.