قراءة لإشكالية الفساد في الجزائر


مولود مدي
2019 / 2 / 15 - 08:18     

في الوقت الحالي تحتل الدانمارك ونيوزلندا صدارة ترتيب الدول الاقل فسادا في تقرير اعدته منظمة الشفافية الدولية مؤخرا، ولا عجب في ذلك، فهذه الدول معروفة بجودة أداء حكوماتها وانخفاض مستويات الفساد فيها، وهذا لم يحدث من فراغ، بل هو حصيلة تركة ورثتها من مرحلة استبدادية ماضية في تطورها السياسي، فألمانيا واليابان، والدول الاسكندنافية، دفعت الثمن غاليا لكي تصل الى هذه المستويات، الثمن كان على شكل صراعات عسكرية دموية، وحروب أهلية أنهكت هذه الدول، وهذا أمر طبيعي، فحسب المنظر السياسي الامريكي صامويل هنتنغتون فإن الامور الجيدة لا تأتي كلها معا في التطور السياسي.

وكما كان متوقعا جاءت الجزائر في المرتبة 105 عالميا، فالسلطة الجزائرية هي بالأصل مبنية على الفساد وشراء الذمم منذ الإستقلال، فيجب هنا توضيح نقطة مهمة لا تزال عالقة في اذهان الجزائريين وهي "أن الفساد ظهر في اواخر الثمانينات فقط عندما كان الشاذلي بن جديد رئيسا للدولة"، وكأن الدولة قبل هذه الفترة لم تعرف الفساد قط وكانت تعيش عصرا ذهبيا، وهذا امر خاطئ تماما، فيذكر البروفيسور رابح لونيسي، أن الفساد كان موجودا منذ الإستقلال وحتى في عهد الرئيس بومدين، إلا أنه كان محدودا، ويتم في مستويات عليا، بل حتى بومدين ذاته فتح بنك التنمية المحلية في 1967 خصيصا لشراء ذمم بعض المجاهدين، خاصة الكبار منهم بقرضهم أموالا للقيام بالتجارة مقابل السكوت وعدم الإهتمام بالسياسة، أي عدم معارضته، فقبل البعض منهم ذلك، لكن الذين رفضوا تعرضوا للقمع، بل الإغتيال مثل كريم بلقاسم في 1970.

ماذا نعني بالفساد؟ هذا ما سأناقشه في هذا المقال، بحيث سأعرض بعض تعريفات الفساد، وكيف يؤثر في السياسة والنمو الإقتصادي، و تمظهرات الفساد في الجزائر.

تتركز غالبية تعريفات الفساد على الإستيلاء على الموارد العامة من أجل مكسب خاص، يعد هذا التعريف نقطة انطلاق مفيدة، بحيث يصبح الفساد وفقا له سمة مميزة للحكومات أساسا، لا للشركات أو المؤسسات الخاصة مثلا.

هناك ظاهرتان تتصلان اتصالا وثيقا بالفساد كما عرّفناه آنفا، الظاهرة الاولى، ايجاد الريوع وانتزاعها، والثانية ما يشار اليها بأنه المحسوبية (المعريفة عند الجزائريين) و الزبائنية.
في علم الإقتصاد، الريع هو اعتماد الدولة على مصدر واحد للدخل، وهذا المصدر غالبا ما يكون مصدرا طبيعيا ليس بحاجة إلى آليات إنتاج معقدة سواء كانت فكرية أو مادية كمياه الأمطار والنفط والغاز، بحيث تستحوذ السلطة الحاكمة على هذا المصدر وتحتكر مشروعية امتلاكه وتوزيعه وبيعه، لكن لا يجب الحكم على الريع من هذه الزاوية، بل يجب النظر الى الغرض من هذا الريع، هل ينتج سلعة أو منفعة صافية يستولي عليها المسؤول الحكومي، أم يخدم في الواقع هدفا عاما أوسع نطاقا؟.

إنتشار الريع وتوزيعه هو مؤشر للفساد في الجزائر في واقع الأمر، لأنه لا ينتج أي منفعة للشعب، وكل ما يتم الترويج له عن بناء السكنات وتوزيعها مجانيا هو شراء للسلم الاجتماعي، وهي رشوة غير مباشرة للشعب، وتشجيع على انتشار السياسات الريعية فيه أيضا، وهذا ما يشجع الكثير من الاشخاص الطامحين، على اختيار السياسة بدلا من الأعمال التجارية سبيلا للثروة، وليس هناك أكبر مثال على ادعائنا هذا، من مهزلة البرلمان الجزائري.. لقد أصبح الوصول إلى سدة البرلمان معناه اكتساب امتيازات منها الحصانة البرلمانية والاجور العالية، بدل تمثيل الشعب وطرح انشغالاته الاجتماعية والاقتصادية ومحاولة ايجاد حلولا لها، ففي الدول المتقدمة يقوم البرلماني بربط مصالحه بمصالح الشريحة الاجتماعية التي يمثلها مما يجعله أكثر استماتة في الدفاع عن مصالحها لأنه دفاع عن مصالحه الخاصة في نفس الوقت، لكن في الجزائر ما يحدث هو استخدام اليات ديمقراطية لخلق طبقة بورجوازية موالية للسلطة.

الريع أثّر حتى على السياسيين الذي يغيّرون مواقفهم ب180 درجة عندما تذيقهم السلطة قليلا منه، وليس هناك أكبر مثال من وزيرة الثقافة السابقة، خليدة تومي، التي بدأت نشاطها السياسي، كمعارضة شرسة ضد بوتفليقة، الى الحد الذي أطلقت على الرئيس لقب "بوتسريقة" اشارة لحكمه المبني على السرقات والاختلاسات، وما ان شعر النظام بخطورتها وتزايد شعبيتها حتى ضمّها الى صفها فأصبحت من ابرز وجوه النظام الجزائري، الأمثلة كثيرة ولاداعي لذكرها كلّها، لكن هذا ما دفع بالجزائري لغسل يديه من العمل السياسي، لأنه فهم بأن قادة الاحزاب السياسية سواء اسلاموية او غير اسلاموية، أغلبيتهم وصوليون وإنتهازيون وذوي ثقافة محدودة جدا، ولم يكن إنخراطهم في هذه الأحزاب إلا كوسيلة أو منفذ للترقية وخدمة مصالح خاصة، بل تجد فيها الرداءة وعديمي المستوى، من اللذين لا يتقنون حتى اللغة العربية، فضلا عن عجز قياداتها الثقافي و الأخلاقي.

يجدر أن أشير الى أن ليس فقط من يهدف الى تحقيق الثروة يذهب في حضن النظام الجزائري، بل حتى من يمتلك الثروة بالأساس، وهي الطبقة التي تنتفع من الوضع الاقتصادي الحالي، والذي يشجّع على قتل الإبداع والتنافس، بإغراق السوق الجزائرية بالمنتجات المستوردة، كبار المستوردون منتفعون من عدم قيام أي صناعة وطنية، وأصبحت مصالحهم مرتبطة بالرأسمالية العالمية على حساب الإقتصاد الوطني.
الظاهرة الثانية التي ارتبطت بالفساد ارتباطا وثيقا هي المحسوبية أو الزبائنية. تقوم العلاقة الزبائنية على تبادل الحظوة والخدمات بين فردين على مستويين مختلفين من المكانة والنفوذ، وتشمل في العادة تسهيلات يقدمها الراعي الى العميل مقابل ولائه ودعمه السياسي، يجب أن يكون الدعم المقدم الى العميل سلعة أو منفعة يمكن الاستيلاء عليها فرديا، مثل وظيفة في احد الادارات أوالمؤسسات، او تبرأة أحد الأقارب من شكوى قضائية ضدّه الخ..
لكن مشكلة الزبائنية والمحسوبية هي أنها أكثر خطورة من الريع، لانها لا توجد فقط في البلدان المتخلّفة، بل حتى في البلدان الاكثر تقدّما ورفاهية وديمقراطية، لأن هذه المشكلة نابعة من طبيعة مترسخة في البشر، البشر كائنات اجتماعية بالطبيعة، وان تنظيمهم الإجتماعي متجذّر بيولوجيا، هنالك مبدآن في البيولوجيا اساسيان تتقاسمهم فعليا كل المجتمعات البشرية لا احد يستطيع الهروب منهما؛ اصطفاء الاقرباء، والايثار المتبادل، الاول يفضّل الأفراد أقربائهم في الدم، أما الثاني فيشمل تبادل الخدمات والمنافع على أساس مباشر بين أفراد لا تجمعهم صلات القربى.
وقد يقول البعض، ان هذه السلوكيات ليست غريزية، بل مكتسبة، مرتبطة بالمجتمع الذي كبر فيه الإنسان، واعترض على هذا القول بأن، الطفل يولد بمجموعة من العواطف الوجدانية التي تدعم تنمية العلاقات الاجتماعية، اعتمادا على التعاون مع الأقرباء والأصدقاء.. ان اختيار شخص ما لأداء مهمة معيّنة بناء على كفاءته لا على علاقتنا الشخصية به، هو أمر معاكس لميولنا الطبيعية، وهذا المبدأ ما كان ليتفوق الا بتطور مؤسسات سياسية مثل الدولة الحديثة، اذن عندما تغيب الدولة تنهار معها مفاهيم الشفافية والكفاءة واللاشخصية، فنعود الى الأشكال البدائية القديمة كالمحسوبية ومحاباة الأقارب بوصفهما شكلا من أشكال التواصل الاجتماعي، اذ ان هذه الأشكال البدائية تليق بالقبيلة وليس بالدول المدنية الحديثة، هذا ما دفع بالفيلسوف الشهير "هايك" للقول بأن؛ "الإنسان متمدن ضد ارادته".

تميل الزبائنية الى التراجع في مجتمعات المستويات المرتفعة من الدخل لأسباب تتعلق بتطور اقتصاد السوق النشط والفعّال، فمن الصعب في المجتمعات صاحبة الاقتصاد القوي مثلا شراء أصوات الناخبين، في البلدان الفقيرة والنامية يسهل شراء الناخبين بطريقة اسهل من الاغنياء، مع تقديم مكاسب فردية صغيرة نسبيا مثل هدية نقدية، او وعد بوظيفة لا تتطلب مهارة عالية، وهذا ما كان يمارسه حتى حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ أيام التسعينات لإقناع الجزائريين بالتصويت عليه، وتلك الفترة بالعموم كانت مواتية لإنتشار الزبائنية, ونحن لسنا بصدد اتهام هذا الحزب الإسلاموي، ولكن لا يمكن التغاضي عن الواقع، لأن جبهة الانقاذ ليس حزبا منزها من الخطأ وليس منزلا من السماء، هو حزب كسائر الأحزاب الاخرى، وقد حاول كسب أكبر عدد ممكن من الأصوات بالكثير من الطرق، وهو هدف تسعى اليه جميع الأحزاب من مختلف الايديولوجيات.
تشكل الزبائنية والمحسوبية انحرافات معيارية مهمة عن ممارسة الديمقراطية السليمة، ولذلك فإن جميع الديمقراطيات المعاصرة تحظرهما بقوانين صارمة تطبّق على الجميع من دون استثناء، وتحاربهما بالفصل بين السلطات الثلاث للدولة، حتى لا تطغى أي سلطة على أخرى، في الجزائر ليس هناك فصل بين السلطات لأنه ليس هناك دولة وليس هناك مؤسسات، يمكن لعسكري رفيع الرتبة، ان يتدخل في عمل وقرارات السلطات الاخرى وتعطيلها لتحقيق منفعته الخاصة او منفعة أقرباءه.
مشكلة الفساد في الجزائر لن تحلّ فقط بإصلاح لمؤسسات الدولة، وايجاد مؤسسات رقابية، و الرقابة على حركة الأموال بتفعيل مبدأ "من أين لك هذا؟ والذي تفوّقت دول الغرب في تطبيقه رغم ان من يقطنها "كفّار"، وهو مبدأ عرفه المسلمون منذ زمن الخلفاء الشرعيين (الراشدين) لكن لا نفهم لماذا لا تدعوا اليه الاحزاب الإسلاموية، بنفس القدر الذي تدعوا فيه الى تطبيق "الحدود".. هناك أيضا مشكلة عقليات، الجزائري لا يزال يرى السلطة وسيلة للتكبّر والاستعلاء ووضع القوانين تحت الأقدام، كل من يصبح مديرا للمدرسة، أو رئيسا للبلدية، او اي منصب ذي مسؤولية، يظن نفسه قادرا على فرض مزاجه على من هو أقل منه، ولهذا تجد الشعب، يندد بالمحسوبية والزبائنية من جهة، وعندما يحتاج ابنه الى مساعدة من اجل نيل عامه الدراسي يهرول بالرشاوى الى المدير لتحقيق مبتغاه، الحل هو حلّ فكري قبل كل شيء، يجب تعليم أطفالنا منذ الصغر أن العلم والمعرفة المقياس الوحيد للحصول على منصب رفيع وامتيازات كبيرة ، وليس المال أوالسلطة أو درجة القرب من مسؤولين كبار، كما أن الدولة برئيسها ووزرائها وكل من يعمل فيها هم مجرد موظّفين كالفلاحين، والمعلّمين، واعوان النظافة، سواسية في الحقوق والواجبات كأسنان المشط، هدفهم القيام بالمهمات المكلّفة لهم.