أجل .. ماركس كان على حق !


رضا الظاهر
2019 / 2 / 14 - 04:37     


مع تعاظم مظالم الرأسمالية جاء كتاب الباحث الماركسي البريطاني والناقد الأدبي المرموق تيري ايغلتون الموسوم (لماذا كان ماركس على حق)، الصادر عن دار (ييل) عام 2011، ليشكل اسهاما في الصراع الاجتماعي، الفكري والسياسي. وقد وجدنا من المفيد أن نقدم أبرز أفكاره الأساسية، بطريقة تحليلية، لنلحقه بالحلقات التي نشرناها تحت عنوان (مساهمة في اعادة قراءة ماركس).

وهو كتاب مثير للجدل يطرح أسئلة حارقة، لكن هذا لا يعني، بالضرورة، القبول بما ورد فيه بقضه وقضيضه، فمثل هذا القبول يتنافى، أصلاً، مع منهجيتنا الماركسية، اي أنه لابد أن ننظر اليه نظرة انتقادية، كما نظر هو الى ماركس والماركسية.

ونود أن ننوه، ابتداءً، الى أن الترجمة العربية (التي قام بها أ. د. غانم هنا، والصادرة عن دار الكتاب العربي اللبنانية عام 2013)، بحاجة الى بعض التدقيقات. وأشير، بشكل خاص، الى عنوان الكتاب المترجم، فقد انتهى هذا العنوان بعلامة استفهام، أي ظهر كسؤال، والحقيقة أن عنوانه الأصلي باللغة الانجليزية why marx was right ليس بصيغة سؤال (مما يغير المعنى الذي قصده المؤلف بالكامل)، وانما بصيغة إثبات وتأكيد. وقد اعتمدنا، في مقالنا هذا، على الكتاب الأصلي بنصه الانجليزي.

وفي مقدمته يشير ايغلتون الى أنه "يمكننا القول إن النظام الرأسمالي يواجه أزمة عندما يتحدث الناس عن الرأسمالية". وفي هذا السياق ظل ماركس والنظرية السياسية التي تحمل اسمه موضع تدقيق متجدد. وقد يكون من السليم التساؤل: هل تكشف أزمتنا الاقتصادية العالمية الراهنة عن بداية نهاية الرأسمالية وهو ما تنبأ به ماركس قبل ما يقرب من 170 عاماً ؟

إن هذا الكتاب يذكرنا بأن أفكار ماركس تعالج اقتصاد وسياسة أعوامنا الراهنة على نحو عميق.

ويقول ايغلتون إن "النظام الرأسمالي توقف عن أن يكون طبيعياً مثل الهواء الذي نتنفس. ويمكن النظر اليه، بدلاً من ذلك، باعتباره ظاهرة تاريخية وليس ظاهرة حديثة بمعنى ما"، أو كما اعتاد انجلز أن يقول "هذه المرة سيكون هناك يوم قيامة لم نشهده من قبل على الاطلاق ... فكل الطبقات المالكة في ورطة، وهناك افلاس كامل للبرجوازية، وحرب وتبذير الى أبعد حد".

ونعتقد، شأن ايغلتون، أن ماركس ربما كان واحداً من أكثر الفلاسفة السياسيين الذين أسيء فهمهم في التاريخ العالمي، على الرغم من أن هذا لم يحدث على الدوام. وبما أن كثيرين لم يتوفر لهم أن يقرأوا أعمال ماركس فان كتاب ايغلتون يعد رسالة في محلها لابد من الاصغاء اليها.

وقد ذكّرنا ايغلتون، أخيراً، في كتابه هذا بأن ماركس لم يكن مفكراً متشائماً، وانما كان مفكراً واقعياً. فقد أدرك أن الرأسمالية المنفلتة تخلق التراجيديا في خاتمة المطاف.

ومن المهم بالنسبة للماركسيين أن يستجيبوا للاعتراضات على الماركسية بطريقة نقدية وعميقة نظرياً وعصرية، والا فاننا سنفقد الأمل في التواصل مع الناس الجدد المهتمين بالأفكار الماركسية.

وفي كل فصل من فصول كتابه العشرة يعود ايغلتون الى كتابات ماركس ويقتبس منها ما هو وثيق الصلة بالموضوع، فضلاً عن مساهمات ماركسيين آخرين عالجوا هذه القضايا. أما نقطة القوة الأخرى للكتاب فتتجلى في الجهد المثابر للتحديد الدقيق لما يمكن للمنهج المادي التاريخي أن يساعد في تفسيره، وما يمكن أن يعجز عنه، وهو يمس حدود الماركسية على نحو بارع.

ويرفض ايغلتون الموقف الأكاديمي المعتاد في الجلوس على الرف. فهو يدافع عن معقولية مادية ماركس التاريخية. ولفترة معينة كان ايغلتون مساهماً سياسياً مع الجماعات الماركسية الثورية. وعلى الرغم من أنه لم يستمر على هذا النشاط فانه ظل يحتفظ بنقد سياسي راديكالي للمجتمع الرأسمالي والنزعة الاصلاحية، على خلاف كثير من الماركسيين الأكاديميين السابقين لجيل ما بعد الستينات. وكان عمله التخصصي الرئيسي في مجال النظرية حيث طور اطاراً ماركسياً مرناً لفهم الأدب والثقافة. وتتسم بأهمية مقارباته بشأن ما بعد الحداثة وخصوصاً انكارها ضرورة الفعل السياسي.

وبينما تصبح محدودية الليبرالية الجديدة أكثر وضوحاً، تكون اللحظة قد حانت للحديث عن صلة ماركس الوثيقة بالعالم الحديث. وفي مؤتمرات الجامعات، ومخازن الكتب حيث المبيعات المتواصلة لـ (رأس المال)، وحتى كلمات البابا بنيدكت السادس عشر (الذي كال المديح لبراعة ماركس التحليلية) هناك تقييم متعاظم لتنبؤات ماركس بشأن العولمة والرأسمالية المنفلتة وعدم استقرار الأوضاع المالية الدولية. والأمر كما قالت صحيفة (تايمز) اللندنية أواسط عام 2008: إنه يعود !

غير أن ماركس يبقى هدف عدد من افتراءات الجهلة والمغرضين. وأسهل الطرق لابادة الجدل حول الماركسية تمر عبر القفز مباشرة الى محاكمات ستالين الصورية، ومعسكرات الاعتقال السوفييتية، وجرائم الخمير الحمر في كمبوديا، حيث سرعان ما شوهت التحليلات الفلسفية أواسط القرن التاسع عشر لصالح المذابح المروعة في القرن العشرين.

ويكفي ذكر اسم ماركس لاثارة كل أنماط المعاني السلبية لدى كثير من الناس ممن يعيشون في المجتمعات الغربية. ويرتاب المرء في أنه في عقول الناس يمكن أن يقع اللوم بشأن المذابح السياسية الكبرى في العالم على الأفكار الماركسية. لكن هذا غريب خصوصاً عندما يرتاب المرء في أن معظم الناس الذين ينتقدون أفكار ماركس لم يقرأوا كلمة مما كتبه. فكيف يمكن لامريء أن ينتقد شيئاً، خصوصاً بنقد لاذع، وهو لا يفهمه في الواقع؟

هناك شيء واحد نعتقد أن كثيراً من الناس لا يدركونه وهو أن ماركس أدرك القوة والجمال اللذين يحتويهما أسلوب الانتاج الراسمالي. لكنه أدرك أن الرأسمالية مدمرة لذاتها، وخلقت البؤس للطبقة العاملة. ونحن نرى هذا يحدث في أيامنا حيث العالم الراهن تهزه أزمات الرأسمالية، واذا لم يتغير شيء ما، فان هذه الأزمات ستظل تعصف بعالمنا على نحو متفاقم وحتمي.

عشر ملاحظات انتقادية
يشخص ايغلتون في كتابه عشر ملاحظات انتقادية شائعة حول الماركسية، ويقدم، في كل حالة، حجة بأن الملاحظة الانتقادية الشائعة ضد الماركسية تستند الى تشويه أو سوء فهم لعمل ماركس. فمعظم نقاد ماركس يهاجمون صيغاً نمطية غير دقيقة. وبالتالي لابد للباحث الماركسي من أن يستشهد بكتابات ماركس، وخصوصاً تلك الأعمال غير المعروفة كثيراً بالنسبة لغير الماركسيين الذين لم يقرأوا، عموماً، سوى (البيان الشيوعي) أو ممن تعلموا أو درسوا الماركسية على يد خصومها حسب.

يتوسع ايغلتون في ما أورده في كتابه (ماركس والحرية) ــــــ 1997 ليطرح مقدمة هامة للماركسية عبر تفنيد عشر من الملاحظات الانتقادية الأكثر شيوعاً حول ماركس. وهذه الملاحظات هي:

لم تعد الماركسية ذات صلة بالمجتمعات الغربية الراهنة مابعد الصناعية والمتحركة اجتماعياً.
الماركسية، عند وضعها موضع التطبيق، تقود الى الارهاب والطغيان والقتل الجماعي.
الماركسية جبرية تنكر الفردية والارادة الحرة للناس.
تقوم الماركسية على طوباوية ساذجة تجعل الطبيعة الانسانية مثالية.
الماركسية تختزل كل شيء الى اقتصاد.
الماركسية مادية مطلقة ورؤية للانسانية مملة وخالية من الروح.
تحمل الماركسية مفاهيم عفا عليها الزمن حول الطبقة في عالم اجتماعي تفقد فيه الطبقة أهميتها شيئاً فشيئاً.
الماركسية تدافع عن الفعل السياسي العنفي على الرغم من دمويته، لأنها ترى في الأخلاقية مجرد آيديولوجيا وأن الغاية تبرر الوسيلة.
الماركسية تؤمن بالدولة كلية القدرة الاستبدادية والوحشية.
وأخيراً الماركسية لا ترتبط بجميع الحركات الراديكالية الأكثر أهمية في العقود الأربعة الماضية.
ولعل الفصلين الخامس (الذي يرد على مزاعم أن الماركسية تختزل كل شيء الى اقتصاد)، والثامن (الذي يرد على مزاعم أن الماركسيين يدافعون عن الفعل السياسي العنفي)، يتسمان بأهمية أكبر.

وفي ما يتعلق بالملاحظة الأولى نشير الى أن الماركسية حسب ما كتبها ماركس ليست غير ذات صلة بالغرب (مابعد الرأسمالي). وقد تكون، في الواقع، أكثر صلة من أي وقت مضى، اذا ما تأملنا، كما يفعل كثير من الماركسيين المعاصرين، الانهيار العاصف الذي شهده النظام الرأسمالي برمته خلال الأزمات المالية الأخيرة.

ويبني إيغلتون كتابه على أساس أن الماركسية تكمن في قلب تلك القضايا ذات الصلة الوثيقة بنا في الوقت الحالي: "الاغتراب، تسليع الحياة الاجتماعية، ثقافة الجشع، النزعة العدوانية، الانغماس اللامبالي بالمتع، العدمية المتعاظمة، الاستنزاف الدائم لمعنى وقيمة الوجود الانساني .. من الصعب أن نجد مناقشة عميقة لهذه المسائل لا تدين، على نحو جاد، للتقليد الماركسي".

والحق إنه بسبب التطورات الأخيرة التي أثارتها الرأسمالية، وبالذات الأزمة المالية في عام 2008، ناهيكم عن المظالم الهائلة في الثروة والسلطة، والحرب الامبراطورية، والاستغلال المتزايد، ونزعة الدولة القمعية المتعاظمة، بسبب هذا يبقى ماركس لا غنى عنه في الوقت الحالي.

أما بشأن اتهام ماركس بأنه جبري فظ (كما ورد في الملاحظة الثالثة)، فيقول ايغلتون: "نحن أحياناً نسمي الشيء أساسياً اذا كان في الأساس الضروري لشيء آخر. ولكن من الصعب أن نرى أن الصراع الطبقي هو الأساس الضروري للايمان الديني أو الاكتشاف العلمي أو اضطهاد النساء، على الرغم من أن هذه المسائل معنية به الى حد كبير...). الصراع الطبقي أساسي لأي شيء اذن ؟ قد يبدو جواب ماركس ثنائياً. فهو يشكل الكثير من الأحداث العظيمة والمؤسسات وأشكال الفكر التي تبدو للوهلة الأولى بريئة منه. وهو يلعب دوراً حاسماً في التحول العاصف من عصر في التاريخ الى آخر. وبالتاريخ لا يعني ماركس "كل ما حدث"، وانما المسار المحدد الذي يشكل أساسه. وهو يستخدم التاريخ بمعنى الاتجاه العام للأحداث وليس كمرادف للوجود الانساني بأسره حتى الآن (...). وما هو متفرد في فكرته هو أنه يربط هاتين الفكرتين - الصراع الطبقي وأسلوب الانتاج - ليقدم سيناريو تاريخياً هو جديد حقاً.

ولابد من الثناء على ايغلتون لرفضه التفسير الجبري الضيق للفكر الماركسي. وبينما يدان ماركس باعتباره مادياً فجاً يحيل كل شيء الى اقتصاد، فان ايغلتون يجادل بأن هذا التفسير الضيق ينبغي رفضه. وكما ذكرنا آنفاً فان البشر هم كائنات اجتماعية يدركون قابلياتهم الانتاجية عبر الطبيعة. وفي هذه القابليات تتشكل الطبقات اذ تلتئم الجماعات الاجتماعية حول مصالح اقتصادية مشتركة وعوامل اجتماعية وثقافية وسياسية أخرى. فعلى سبيل المثال تمتلك نخبة صغيرة في أيامنا البنوك والشركات الكبرى التي تهيمن على المجتمع (الطبقة الرأسمالية) بينما يتعين على الأغلبية الساحقة من السكان (الطبقة العاملة) العمل في اقتصاد تهيمن عليه الشركات.

وبالنسبة لماركس فان الرغبة الانسانية في الحرية تقود الطبقات المضطهَدة اقتصادياً للتحريض ضد الاستغلال وقلب سلطة المضطهِدين. وهذا الصراع الطبقي هو الذي يقوم بدور الماكنة التي تدفع التاريخ الى أمام.

وبشأن الملاحظة الرابعة نتساءل: كيف يفند ايغلتون الزعم بأن الماركسية هي مجرد حلم طوباوي ؟ إن الزعم بأن ماركس كان حالماً طوباوياً هو، بالنسبة لايغلتون، لا أساس له من الصحة. ومن الناحية الجوهرية يجري تذكيرنا بلطف بأن ماركس لم يكن من الجرأة بحيث يتنبأ، على وجه التحديد، بما يمكن أن يكون عليه المستقبل، على الرغم من أننا نستطيع أن نستنتج بأنه كان يعتقد بأن الاشتراكية أو البربرية من المحتمل أن تكونا حتميتين بعد أن تدمر الرأسمالية نفسها بسبب تناقضاتها الداخلية. وفضلاً عن ذلك فان ماركس لم يوهم نفسه بالتفكير بأن الخصوم يمكن دحرهم في الجدال عبر قوة الحجة المنطقية والمبررة. فقد أدرك أن معركة الأفكار تتنافس مع المصالح المادية أيضاً (طوباوي ؟). واذا كان المرء قد قرأ الجزء الثالث من (رأس المال) فسيكتشف أن ايغلتون على حق عندما يقول إن "المسألة بالنسبة لماركس ليست أن تحلم بمستقبل مثالي، وانما حل تناقضات الراهن التي تمنع مستقبلاً أفضل من التحقق". واذا كان مجرد ادراك المشاكل حتى تتوفر امكانية حل أفضل بالتالي يجعل من المرء طوباوياً، فنحن نخشى أن نكون، أنفسنا، حالمين طوباويين.

وفي بعض الأحيان يبدو نص ايغلتون منفتحاً، مثيراً للمفارقة، وشاعرياً، حيث يتمسك ايغلتون برؤية ماركس الديالكتيكية. وعلى سبيل المثال عند معالجة الاعتراض القاضي بأن ماركس مجرد طوباوي يقول ايغلتون:

"الواقعية والرؤية هنا تسيران يداً بيد. فرؤية الحاضر كما هو حقا تعني رؤيته في ضوء تحوله المحتمل. والا فاننا ببساطة لا نراه بصورة صحيحة، ذلك أنه لن يتوفر لنا فهم شامل لما يعنيه أن يكون المرء طفلاً ما لم يدرك أنه مراهق محتمل. لقد خلقت الرأسمالية طاقات وامكانيات استثنائية قامت، في الوقت نفسه، باعاقتها. وهذا هو السبب الذي يجعل ماركس آملاً وواقعياً.

دور حاسم للاقتصاد
أما بشأن الزعم بأن الماركسية تختزل كل شيء الى اقتصاد (وهذا ما يعالجه ايغلتون في الفصل الخامس من الكتاب)، فلابد من الاشارة، أولاً، الى حقيقة أن الاقتصاد هام بالنسبة لماركس، لأن الانتاج المادي أساس بالنسبة للمجتمع، وهذه إحدى موضوعات ماركس الرئيسية.

إن أساس الثقافة هو العمل ولا يمكن أن تكون هناك حضارة بدون الانتاج المادي كما يقول ماركس في (الآيديولوجيا الألمانية). ووفقا لماركس فان الانتاج المادي أساسي ليس فقط بمعنى أنه لا يمكن أن تكون هناك حضارة بدونه، وإنما لأنه هو ما يقرر، في خاتمة المطاف، طبيعة تلك الحضارة.

ويسخر إيغلتون من النقاد الذين يرفضون تركيز ماركس على الاقتصاد: "في أيامنا الحالية يتصرف الكثير ممن يرفضون، بازدراء، نظرية ماركس في التاريخ، على وجه التحديد، كما لو أنها صحيحة. وهؤلاء الناس هم المصرفيون، والمستشارون الماليون، وموظفو الخزانة، ومدراء الشركات وأمثالهم. فكل ما يقومون به دليل على إيمانهم بأولوية الاقتصاد. إنهم ماركسيون عفويون بدون استثناء".

ويكرس ايغلتون حيزا كبيرا لزعمه بأن ماركس لم يكن أول من يعترف بالدور الأساسي الذي لعبه الاقتصاد في التاريخ. فهو يستعرض النظريات الاقتصادية لمفكرين من شيشرون وماديي التنوير حتى روسو ليطرح حجته من أن الماركسية جزء من مناقشة أوسع وأقدم للاقتصاد.

ويوضح ايغلتون حجته برسم صورة مألوفة حول الحد الكبير الذي تتدخل فيه الحياة الاقتصادية، والى أي مدى تقرر الطرق التي نعيش بها:

"تبرز مسألة الانتاج المادي هائلة في التاريخ البشري، مستوعبة المصادر اللامحدودة للزمن والطاقة، ومثيرة الصراعات الدامية، وشاغلة الكثير من البشر من المهد الى اللحد، ومواجهة الكثير منهم كقضية حياة أو موت، على أنه سيكون من المدهش ان لم تترك بصمتها على نواحٍ أخرى كثيرة من وجودنا. وتجد مؤسسات أخرى نفسها منجذبة بقوة الى مداره. انها توجه السياسة والقانون والثقافة والأفكار ...".

وفي فقرات مثل هذه تكون كتابة ايغلتون أكثر تأثيراً عندما يظهر الاحساس بالظلم وجرح كرامة الانسان على امتداد توصيفاته التحليلية. وهذا "الجانب الانساني" في الماركسية هو الذي جرى تجاهله أو تشويهه في الغالب الأعم من جانب بعض النقاد، وهو ما يسعى ايغلتون الى إضاءته أكثر من سواه. وبالنسبة لايغلتون فان الماركسية ليست جبرية اقتصادية وانما طريقة لتحرير البشر من العبودية الاقتصادية.

وهو يقول إن "الزعم بأن كل شيء بالنسبة لماركس يقرره "الاقتصاد" هو تبسيط مبتذل. فما يشكل اتجاه التاريخ حسب نظرته هو الصراع الطبقي، والطبقات لا يمكن اختزالها الى عوامل اقتصادية. ومن الصحيح القول ان ماركس يرى الطبقات، في الغالب الأعم، كمجموعات من الرجال والنساء يشغلون المكان نفسه في نمط الانتاج. غير أنه من الهام أن نتحدث عن طبقات اجتماعية لا عن طبقات اقتصادية، فالطبقات لا توجد فقط في مناجم الفحم أو دوائر التأمين. إنها أيضاً تشكيلات اجتماعية، ومجموعات متواصلة، كما أنها كيانات اقتصادية. إنها تشتمل على العادات والتقاليد والمؤسسات الاجتماعية، وانماط قيم وعادات الفكر".

ويشتمل مفهوم ماركس عن الطبقة على عناصر اقتصادية واجتماعية. وبالنسبة لماركس فان أسلوب الانتاج (في أيامنا الملكية الفردية للشركات والمصانع الكبرى) يشكل الأشكال المهيمنة لتنظيم العمل الضروري لانتاج سلع المجتمع. وفي ظل هذا النظام فان الرئيس هو الذي يتخذ القرارات، وعلى الشغيلة القبول بهذه القواعد. غير أن ايغلتون يهتم بتوضيح أنه كان لدى ماركس فهم للعمل أوسع بكثير من مجرد وضع 8 أو 10 ساعات يومياً من أجل الرئيس.

وبتأكيد الطبيعة الاجتماعية للطبقة نرى أن ماركس يرفض الاختزال الاقتصادي الذي يهتم به الكثير من نقاده. وبينما يكون الاجتماعي جزءاً لا يتجزأ منا كبشر، فان ماركس مهتم، في الغالب، بسعادة الفرد. وبالنسبة لماركس فانه من المحتوم أن البشر يجب أن يعملوا من أجل حياتهم الاقتصادية ورفاههم الشخصي. إن التفاعل مع الطبيعة هو العنصر المشترك الذي يعتبر شاملاً لكل البشر.

وفي ظل الرأسمالية يكون البشر مغتربين عن عملهم. ومن أجل العيش يتوجب على البشر أن يبيعوا قوة عملهم للاخرين. فالمنتجات التي نصنعها تؤخذ وتباع من قبل الرأسمال لكي يحقق الربح. وكنتيجة فان معظم الأفراد المنتمين يرغمون على العمل من أجل إثراء اولئك المنتمين الى الطبقة الحاكمة بدلا من اشباع حاجات الشغيلة. غير أن عملنا هو عمل حياتنا، وإن عملنا هو الذي يخلق الثروة ويجعل من مجتمعنا محتملاً.

وهذا يشكل أساس مفهوم ماركس حول الاغتراب (الذي عالجناه في موضوع سابق). ففي ظل الرأسمالية ننفق الكثير من حياتنا المحدودة ونحن نعمل من أجل شخص آخر. ووفقاً لايغلتون فان ماركس يتحدث عن الاغتراب باعتباره "الشرط الذي ننسى فيه أن التاريخ هو نتاجنا الخاص، ونحن نصبح تحت رحمته باعتبارنا قوة غريبة". وفي مملكة الانتاج ننحني أمام أقدام الرأسمالي، شاكرين له "توفيره فرص العمل"، بينما ننسى أن مثل هذه الفرص – كل الفرص في الواقع – لن تكون، في المقام الأول، من دون العمل الانتاجي البشري. إن الشغيلة هم المنتجون، والرأسماليون هم الطفيليون.

وفي المملكة الاجتماعية يجري الحكم على البشر في ظل الراسمالية ليس بواسطة الصفات الانسانية الجوهرية مثل الشرف والثقة والحب والتعاطف ... الخ، وانما بعوامل مثل المظهر الخارجي، والحصول على الامكانيات، والوصولية تجاه من هم في السلطة. إن مفهوم الاغتراب يجري التعبير عنه على أفضل نحو من قبل ماركس نفسه في المخطوطات الاقتصادية والفلسفية.

لقد كان مشروع ماركس هو الموجه لتحرير الابداع الانساني والعلاقات الشخصية من طغيان السوق. ووفقا لايغلتون فان "ماركس يعتقد بأنه حتى حواسنا الجسدية تصبح سلعة في ظل الراسمالية، ذلك أن الجسد، الذي يتحول الى أداة مجرة للانتاج، عاجز عن تذوق حياته الحسية. وفقط عبر الشيوعية نستطيع أن نتوصل الى الاحساس بأجسادنا مرة أخرى. ويجادل بأنه عندئذ حسب يمكننا أن ننتقل الى ما هو أبعد من المنطق الفعال بقسوة، ونحقق البهجة في الأبعاد الروحية والجمالية للعالم".

ويشير ايغلتون الى أن الزعم الماركسي بأولوية الاقتصاد مرتبط بحقيقة أن "الطريقة التي ينتج بها الرجال والنساء حياتهم المادية تضع حدوداً لنمط المؤسسات الثقافية والقانونية والسياسية والاجتماعية التي يقيمونها. ويشير الى مجتمعنا الاستهلاكي الراهن كمثال أساسي على تأثير الاقتصادي على الاجتماعي.

إن الانتاج بالنسبة لماركس يعني ادراك طاقات المرء الأساسية في فعل تحويل الواقع. فهو يقول في (الغروندريسه) ان الثروة الحقيقية هي "النتاج المطلق للامكانيات البشرية الابداعية"، أي تطوير كل طاقات الانسان كغاية بحد ذاتها، وليس كما تقاس على أساس معيار مقرر سلفاً.

الفعل الثوري والعنف
ويعالج الفصل الثامن من الكتاب الملاحظة المثير للجدل من أن "الماركسيين مدافعون عن الفعل السياسي العنفي". وهنا يقدم ايغلتون حجة مقنعة من أن ماركس كان أكثر اهتماماً بكثير "بتحويل التقاليد والمؤسسات وعادات الشعور الاجتماعي" من مجرد الاستيلاء على السلطة السياسية.

غير أنه قبل أن يتقن خطوته يمس ايغلتون أفعال الترويع التي ارتكبها ستالين وماو، مقارناً على نحو يبدو غير ذي صلة بالموضوع: "لكن ماذا بشأن جرائم الرأسمالية". غير أنه سرعان ما يتراجع ويركز على الموضوعة الرئيسية للفصل: "بالنسبة للماركسيين يعتبر العداء جزءاً من طبيعة الرأسمالية ذاتها. وهذا صحيح ليس في الصراع الطبقي الذي تمارسه، وانما في الحروب التي تتسبب بها، ذلك أن الدول الرأسمالية تتصادم حول الموارد العالمية أو مجالات الهيمنة الامبراطورية". ويجادل ايغلتون بأن الرأسمالية منفلتة وتدفعها "فوضى قوى السوق".

ويشير الى أن "الثورة بالنسبة للماركسية ليست الانقلاب أو اندلاع مشاعر الاستياء العفوي .. فالثورات تحدث فقط عندما تطيح طبقة اجتماعية بحكم أخرى وتحتل سلطتها". ويرى ايغلتون أنه لا توجد آصرة ضرورية بين العنف والثورة الاشتراكية. واذا ما أمكن انجاز الثورة بصورة سلمية، وهو ما آمن ماركس أنه ممكن في البلدان الرأسمالية الديمقراطية مثل انجلترا والولايات المتحدة، فان هذا هو الأفضل. غير أن العنف سمة غالبة في الاصلاح الاجتماعي عموماً وليس الاصلاح الماركسي على وجه التحديد. فمعظم الاصلاحات التي تعتبر الآن سمات قيمة للمجتمع الليبرالي، وبينها حق الاقتراع، وحق التعليم، وحرية الصحافة، والتنظيم النقابي، جرى انجازها في سياق مقاومة ضارية للطبقات الحاكمة. إن الثوريين لا يرفضون، بالضرورة، الديمقراطية البرلمانية، لكن لديهم تحفظات بشأنها ليس لأنها ديمقراطية، وإنما لأنها ليست ديمقراطية بما فيه الكفاية. ويعود سبب هذا الى أن البرلمانات جزء من الدولة التي تمارس، على العموم، مهمة ضمان هيمنة رأس المال على العمل.

لنلقِ نظرة أخرى طرحها ايغلتون بشأن ما اذا كان فعل ثوري يدافع عنه الماركسيون يؤدي، بالضرورة، الى العنف، وبالتالي الى القمع الاستبدادي.

يرد ايغلتون الحجة على خصومه عبر اظهار كيف أن هؤلاء الناكرين لتأثير الأزمة الثورية والفعل الثوري لا يدركون كيف أن المجتمع الرأسمالي القائم ظهر من الأزمة الثورية والأفعال الثورية.

وفي الملاحظة التاسعة يشير ايغلتون الى أن ماركس انتقد حدود الديمقراطية البرلمانية ولكنه دعم، في الوقت ذاته، الاصلاحات الديمقراطية التي يمكن أن ترغم حتى دولة برجوازية على القيام بها. ودافع ماركس عن المكاسب الديمقراطية للديمقراطية البرجوازية، ولكنه رأى الحاجة الى تحويلها الى شكل أعلى من الديمقراطية اعتماداً على تحكم العمال بالانتاج. وبكلمات أخرى فانه، في الأوضاع السياسية الاعتيادية، لم يضع الديمقراطية البرلمانية في معارضة المفاهيم المجردة لمجالس العمال. ومع ذلك وقف الى جانب كومونة باريس في وضع ثوري عندما دخل شكل من الديمقراطية في نزاع مع شكل آخر لأنه شكل أرقى مدعوم من جانب أغلبية العمال. وجادل على الضد من المعارضة فوق اليسارية الفجة لكل نواحي الدولة، مميزاً، في الجزء الثالث من (رأس المال)، بين الوظائف الطبقية المحددة للدولة ووظائفها الطبقية المحايدة.

* * *

وأخيراً فان كتاب تيري ايغلتون يوفر تمهيداً مذهلاً لفكر كارل ماركس. فايغلتون يحفزنا على قراءة ماركس في ضوء الانسانية العميقة لهذا المعلم المدهش، بينما يقدم تلميحات عن السير الى أمام.

وفي خاتمة كتابه يقول ايغلتون إن "ماركس كان يأمل رؤية التنوع لا التماثل. ولم يشر الى أن الرجال والنساء كانوا مجرد دمىً يائسة بيد التاريخ. لقد كان أكثر عداء للدولة من محافظي الجناح اليميني، ورأى الاشتراكية تعميقاً للديمقراطية لا خصماً لها. وكان مثاله للحياة الجيدة مستنداً الى فكرة التعبير الفني عن الذات. واعتقد أن بعض الثورات يمكن انجازها سلمياً، ولم يكن، البتة، معارضاً للاصلاح الاجتماعي ... كانت ماديته متوافقة مع قناعات روحية وأخلاقية عميقة. وكان يثني على الطبقة الوسطى ويرى الاشتراكية باعتبارها وريث سماتها المتعلقة بالحرية والحقوق المدنية والرفاه المادي ... ولم يكن هناك بطل أشد بأساً واخلاصاً لحركة تحرر المرأة أو السلم في العالم أو الكفاح ضد الفاشية أو الصراع من أجل التحرر من الاستعمار، من الحركة الثورية التي أشعلت أفكاره وأعماله شرارتها ... أيمكن لامريء أن يزيّف صورة مفكر كهذا !؟"