المحرومون من جنّة الاقتصاد العالمي.. وما العمل؟


محمد عبد الشفيع عيسى
2019 / 2 / 8 - 14:54     

الاقتصاد العالمي الراهن تتحكم فيه قلة قليلة من الدول الأكثر تقدما اقتصاديا والأعلى تصنيعا، هي بشكل عام ما تسمى بالدول الصناعية السبع، يليها حزام من الدول الناهضة في العالم النامي، المصنّعة حديثا، وخاصة في منطقة شرق آسيا، تتقدمها الصين. و تبقى غالبية البلدان النامية في عموم آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وخاصة في إفريقيا و كذلك جنوب شرق آسيا وبعض من غرب آسيا وعدد من بلدان أمريكا الجنوبية ، في عداد المحرومين من "جنّة الاقتصاد العالمي"، إذا صح هذا التعبير.
وبالطبع فإن البلدان المنتجة للنفط والغاز الطبيعي لها وضع خاص، ولكنه لا يخرجها من زمرة المحرومين من التمتع باقتصاد الصناعة والتكنولوجيا، إخراجا تامّا، ولو كانت تقع على المرتبة العالية أو المتوسطة بمقاييس الدخل والثروة المالية في العالم.
وتتمتع "القلة الممتازة" بمزايا القرب من مصادر اكتساب التكنولوجيا المتقدمة المعاصرة، وأحدثها " التكنولوجيا الرقمية"، وخاصة من حيث القدرة على الوصول إلى، والحصول على، القدرات التكنولوجية والمالية والبشرية المصاحبة لتدفق الاستثمارات العالمية، من الشركات الدولية العملاقة عابرة الجنسيات، سواء منها الاستثمارات الخارجة من الدول او الداخلة إليها.
وهكذا، طبقا للتقرير الصادر عن "مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية"-أنكتاد- عن "الاستثمار العالمي" لعام 2018 ، فإنه فيما يتعلق بتدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة نحو الخارج Outflows يلفت النظر أنه من مجموع التدفقات الاستثمارية العالمية والبالغة قيمتها ( 1333 ) بليون دولار لعام 2017، فإن هناك سبع دول تستأثر بما قيمته ( 969 ) بليون دولار وهو ما يمثل 72,7 % من إجمالى التدفقات، و تتصدرها الولايات المتحدة الأمريكية بقيمة (342 بليون دولار) بما يمثل 25,6% من المجموع العالمى ، تليها اليابان بقيمة (160 بليوناً) بمساهمة نسبية 12 % من المجموع ، تأتى الصين فى المركز الثالث بقيمة (125 بليوناً) وبنسبة 9,3% من المجموع.
ومن حيث التوزيع القارّي فإنه من بين القارات الثلاثة للدول النامية ، تنفرد آسيا بالتمثيل في قائمة الدول المتصدرة. ـ بينما لا تمثل قارتا أمريكا اللاتينية وإفريقيا بأية دولة . وخارج العالم النامي فإن أوروبا تمثل فى دول الصدارة بكل من المملكة المتحدة وألمانيا. وتبقى قارة أمريكا الشمالية ممثلة تمثيلاً كاملاً بدولتيْها : الولايات المتحدة وكندا. وفى ضوء ذلك نقول إن أوروبا + أمريكا الشمالية + اليابان (و يشار إليها إجمالا فى بعض الكتابات بدول "المركز الثلاثى") تحتل المراكز المتقدمة وبأعلى مساهمة نسبية فى التدفقات الاستثمارية إلى الخارج ، بينما تترك مساهمة أصغر نسبياً لعدد قليل من الدول النامية .
أما عن التدفقات الاستثمارية إلى الداخل inflows فإن أكبر عشرين دولة مضيفة للاستثمار تتصدرها سبع دول ، تأخذ فيما بينها ( 748 بليون دولار) بنسبة ( 67,2%) من مجموع الاستثمار العالمى الداخل وهو ( 1113بليوناً) عن عام 2017. هذه الدول السبعة تتقدمها الولايات المتحدة – المتصدرة للتدفق نحو الخارج أيضا كمارأينا– بمساهمة مقدارها (275 بليوناً) بنسبة ( 24,7 %) من المجموع العالمى، تليها الصين.
وتجدر الإشارة إلى أن المنطقة العربية عموما لم تمثل فى التدفقات الاستثمارية الخارجة والداخلة العالمية. و هذا يعنى أن ما يمكن تسميته بالإقليم العربى-الإفريقى كله غير ممثل تقريباً فى الاستثمار الأجنبى المباشر على المستوى العالمى، دخولاً وخروجاً . ومن باب أوْلى فإن جمهورية مصر العربية، كدولة محورية فى الإقليم، غير موجودة فى قائمتىْ الخروج والدخول للدول المتصدرة، بما فيها قائمة الدول العشرين الأكثر استثمارا في العالم.
وتتأكد حقيقة الوضع الهامشي ل" المحرومين" في الاقتصاد العالمي من احتكار الاقتصاد الرقمى لدى (22 شركة فى العالم) بحيث أصبح الاقتصاد العالمي يسير بوتيرة سريعة نحو مزيد من التكامل الإماجى داخل سلاسل القيمة المعولمة للشركات العملاقة، و بواسطة الدول الأكثر تقدماً وتصنيعاً، بما يعنى بناء صيغة تاريخية جديدة و متجددة لتقسيم العمل الدولى – غير المتكافىء. يقع هذا التقسيم بين دول مركزية (فى أوروبا وأمريكا الشمالية + اليابان، و بين "دول لا مركزية" تتفاوت مواقعها، وتقع على دوائر متتالية بعيدة بدرجات مختلفة عن المركز، أقربها الدائرة التى تمثلها الصين، ومن بعدها دائرة تقع عليها عدة نقاط : نقطة تمثل (روسيا و الهند و البرازيل RIB) ، ونقطة تمثل دولاً منها: كوريا الجنوبية وماليزيا والمكسيك والأرجنتين، ودائرة ثالثة أو رابعة و خامسة حتى تمسّ البلاد الأقل نمواً التى يتم إقصاؤها من سلاسل القيمة المضافة العالمية إلى ابعد حدّ ممكن، بما يعني استبعادها الكلّي أو شبه الكلّيّ من الاقتصاد الدولى تقريبِاً .
وإن القوى الحاملة للتغيير فى الاقتصاد العالمى ، عبر ما يسمّى "سلاسل القيمة المضافة العالمية" هي الشركات الكبرى Mega Corporations وخاصة المائة شركة القائمة على رأس الفواعل الاقتصادية للدول الصناعية الأكثر تقدماً ولبعض الدول النامية المصنّعة حديثاً (فى شرق آسيا).
ولكنه ليس فقط احتكار الشركات العملاقة للتكنولوجيا الرقمية فى العالم – تكنولوجيات المعلومات والاتصالات – و إنما هو أيضا احتكار على مستوى الدول التى تنتمى إليها الشركات، حيث تتغلب الشركات ذات الجنسية الأمريكية عما عداها (20 شركة من إجمالى المائة شركة عام 2017) تليها بقية الدول الصناعية السبعة (باستبعاد كندا وإيطاليا) : بريطانيا (14 شركة) ، فرنسا (12) ، ألمانيا (11) ، واليابان (11) . هذه إذن دول "المركز" وتملك معاً 68 شركة ، أى أكثر من الثلثين ، والثلث الباقى موزع بين دول متقدمة أخرى ، وبين الدول النامية وفى مقدمتها الصين .
فكأن حركة الاقتصاد الدولي، فى ظل الثورة الرابعة ، الرقمية ، تجري على قدم وساق لإدماج العالم كله فى سلاسل توليد القيمة الاقتصادية للدول المركزية والشركات المائة الكبرى، وتُشْرِك معها عدداً معيناً من دول متقدمة أخرى، ومن بعض الدول النامية، بينما تستبعد البقية جميعاً بدرجات متفاوتة، حسب درجة القرب أو البعد من نقطة "المركز".
بذلك يصبح القرب من "نقطة المركز" – الدول المركزية والشركات المائة الكبرى – هو "الشرط المسبق" للمشاركة الإنتاجية فى الاقتصاد الرقمى المعولم، الذى تقوده دول كبرى، وشركات كبرى بالذات تقود خطوط الإنتاج عبر سلاسل القيمة المضافة : بحيث أن البلدان المندمجة فى السلاسل، والمحققة لأعلى معدلات النمو نتيجة القرب من المركز (و "من جاور السعيد يسعد" ...! كما يقال بالدارجة) لا يتسنّى لها الخروج من السلسلة و إلا فقدت كافة المزايا المرتبطة بها.
و إذن يوجد خيار صعب أمام البلاد الساعية إلى النمو مثل جمهورية مصر العربية التى جعلتها الظروف في موقع صعب تاريخياً، حيث لم تتمكن، لسبب أو لآخر، من بناء قواعد إنتاجية قوية مترابطة في المجالين التصنيعي والمعرفي، فإنه من المحتمل إلي حد كبير أن تؤدى أنشطة الاستثمار الرقمية للشركات الكبرى داخل البلاد، الي إعادة بناء نموذج " الاقتصاد المزدوج "حيث يوجد قطاعان : قطاع اكثر تطوراً ومرتبط مباشرة سلسلة القيمة الأجنبية ، وقطاع أقل تطوراً موجّه لسدّ الاحتياجات المحلية .
فما العمل وإلى اين المسير؟
لقد رأينا أن الاستثمار الأجنبى المباشر للشركات الدولية مركّز من الناحية الاقتصادية على مجموعات دول معنية، بالتحيز إلى الاستثمار المتبادل بين الدول الصناعية المتقدمة وبعضها البعض، و مركّز من الناحية الجغرافية على أقاليم وقارات بعينها – خاصة آسيا وبصفة أخصّ شرق وجنوب شرق آسيا – وموجّهٌ من الناحية القطاعية إلى أنشطة تدخل ضمن سلاسل القيمة المضافة المعولمة للشركات العملاقة، كما أنه يتسم بممارسات تقييدية عديدة يمكن أن تحول دون نقل التكنولوجيات المتقدمة إلى البلاد النامية المضيفة، ودع عنك "الأقل نموّاً". ويبدو لنا أنه من الصعوبة بمكان، تجاوز هذا الواقع (الأليم) إلا من خلال بناء استراتيجيات تنموية، تنبع منها استراتيجيات ناجعة للاستثمار، بما فيه الاستثمار فى التطوير الرقمى.
ويلاحظ فى هذا المجال صغر حجم الأسواق نسبياً وانخفاض مستويات الدخول وتضاؤل القدرة الشرائية فى عديد المجتمعات النامية، حتى المتوسطة منها، مثل مصر، التى تقع على تخوم المجموعة (المتوسطة العالية)من العالم النامى، مساحة وسكاناً ومتوسطاً لنصيب الفرد من الدخل القومي. وقد يحدّ كل ذلك من إمكانيات التوسع المضطرد فى أسواق التكنولوجيا. لذلك يمكن القول إن طوق الإنقاذ والنجاة لإحداث التحول الهيكلى فى البلاد النامية التى لم يقدر لها الدخول حتى الآن بشكل فعال ضمن سلاسل القيمة المضافة المعولمة، وبالتالى لم يقدر لها إنجاز مستوى متقدم من حيازة التكنولوجيات المتقدمة والرقمية، وهو وضع جمهورية مصر العربية، إنما يكمن فى عمليات التكامل الاقتصادى الإقليمي. وينطبق ذلك فى الحالة المصرية على التكامل الاقتصادى العربى (بدءً بمنطقة التجارة الحرة العربية الكبرى) والتكامل الاقتصادى الإفريقى (من خلال منطقة التجارة الحرة الثلاثية ، ومنطقة التجارة الحرة لشرق وجنوب إفريقيا – الكوميسا). فهذا هو الأمل الحقيقى للتنمية ذات الطابع الاستقلالي النسبي فى المراحل القادمة.