السودان- إنتفاضة ديسمبر وأشباح الماضى


محمود محمد ياسين
2019 / 2 / 6 - 22:53     

المقال يمثل الجزء (3) في سلسلة مقالاتنا عن مجرى الانتفاضة بعنوان رئيس:” انتفاضة 19 ديسمبر وحدود الإنجاز“.

والمقال يبحث في مسالة القيادة المتعلقة بانتفاضات الشعب في مرحلة الحكم الوطني ووتيرة قيادة الكيانات النقابية لهذه الهبات الجماهيرية.

إننا نعيش في مرحلة فقد فيها حكم الإنقاذ مشروعيته التي استمدها من الانقلاب العسكري والقوة الباطشة حيال الشعب خلال ثلاثين عام حسوما. وهي المرحلة التي أوصلت الناس لها انتفاضة 19 ديسمبر 2018 التي انخرطت فيها قطاعات واسعة من بنات وأبناء الشعب شملت جل الفضاء الجغرافي للوطن.

وفى هذه الظروف، التي تسنح فيها الفرصة لتسديد الضربة القاضية التي تطيح نهائيا بالحكم الذي تحول لزمرة (cabal) دموية، يثير البعض المخاوف من أن عفوية الانتفاضة وافتقارها إلى القيادة قد يقود إلى تمخض الهبة عن إعادة إنتاج النظام القديم. وهذا التخوف إنذار في محله؛ فإذا كنا قد اتفقنا ان الأزمة سياسية فيكون مطلب الحل، الذي هو بالطبع سياسي، وجود قيادة سياسية ليس لإدارة دفة حركة الجماهير في اتجاه تشييع النظام إلى مثواه الأخير فحسب، بل الاستعداد لقيادة النضال للحصول على أكبر قدر من المكاسب في حدود ما يسمح به التغيير القادم متى ما حدث.

لكن يأبى التحليل السياسي الذي طالما عانينا من سطحيته في الطريق إلى 19 ديسمبر إلا أن يطل علينا وهو أكثر إنشائية وخفة؛ وتجئ توصيته هذه المرة بان الانتفاضة لا تحتاج لقيادة لأن هذا التدبير عفي عليه الزمن؛ فالزمن زمن الثورات التي لا قيادة لها!! وحجة التحليل السياسي هنا هي أن الأفكار المعلبة صارت لا تجدى ولكن ماذا عن الأفكار "الغير معلبة" التي توصلت إلى ان التغيير في المجتمعات البشرية يجرى وفق قوانين محددة؛ وهى قوانين ليس لديها دقة قوانين العلوم الطبيعية ولكنها على كل حال قوانين موضوعية اُكتشفت ولم تُخترع، ولا يمكن الغاؤها أو استبدالها أو تغييرها. ودور الأفكار " الغير معلبة" هو أنها ليست أكثر من دليل يتيح للإنسان إدراك الأساس، الذي ينتج القوانين المذكورة في بيئة اجتماعية معينة، وبالتالي العمل على استبداله بآخر تكون قوانينه في صالح ترقية حياة الناس. وإدراك قوانين تطور المجتمع والنضال لتغيير الأساس الذي تقوم عليه ليست نزهة في حديقة، بل عملية تجرى في خضم صراع سياسيي بين فئات مجتمعية تتطلب مصالحها الدنيوية استدامة الأوضاع السائدة وبين فئات لا تذوق من هذه الأوضاع إلا القهر والظلم والمعاناة. ولهذا فلا مفر من القيادة التي تجرى التنظير الواقعي الصحيح حيث لا تغيير بلا نظرية مرشده لكيلا يضل من تهديهم العميان.

أن الحديث عن عدم الحاجة إلى قيادة حديث وراءه نزعة موغلة في البراغماتية تعتبر أن استحضار تجارب التصدي للأنظمة المعادية للشعب بقيادات نقابية كما حدث في 1964 (جبهة الهيئات) و1985 (التجمع النقابي) محض تذكر نوستالجي. لكن هذا غير صحيح؛ فالمنتفضون أثاروا (invoked) تجربتا أكتوبر وابريل لخدمة غرضهم المتمثل في اقتلاع الحكم الظالم.

إن فكرة عدم الحاجة لقائد فكرة صبيانية لكونها فكرة مصممة ذاتياً تتناول مفهوم القائد خارج متطلبات النظام الاجتماعي-الاقتصادي للمجتمع؛ فالقيادة هي استجابة موضوعية لقانون الضرورة الذي تفرضه الوقائع الاجتماعية-الاقتصادية. وليس كل الناس متساوون في فهم الضرورة الشيء الذي يتمتع به القادة الذين يصبح ظهورهم مسالة ملحة لمعالجة تلك الوقائع وليس خلق واقع جديد على هواهم. والصدفة وحدها أدت إلى أن تتقلد بعض الأسماء تحديدا مقاليد القيادة، (نابليون مثالا) والبديل لهم كان دائما موجوداً.

كما يثور السؤال ماذا يريد الناس من ذاكرة الماضي عنما يلجؤون لها في المنعطفات الثورية. والإجابة عن هذا السؤال يقدمها كارل ماركس الذي ذكر أن الثورات والهبات التاريخية التي نقلت السيادة السياسية للبرجوازية كان واحدا من معاولها، لتحقيق هذا الإنجاز، على صعيد الفكر هو استعادة اشباح الماضي. وعلى عكس ما يعتقد بعض الناس، فإن ماركس اعتبر ان استحضار بعض الأحداث والمتعلقات من ذاكرة الماضي آنذاك، لم يكن عاملا سلبياً بل وسيلة إيجابية كجسر للعبور نحو الجديد. وما أن تحقق للبرجوازية نيل مقصدها (القوة) التفتت نحو الجسر وحطمته. يقول ماركس أن” الناس يصنعون تاريخهم بأنفسهم بيد أنهم لا يصنعونه على هواهم وفق ظروف يختارونها هم بأنفسهم، بل في ظروف يواجهون بها منقولة من الماضي. إن تقاليد جميع الأجيال الغابرة تجثم كالكابوس في أدمغة الأحياء وعندما يبدو هؤلاء منشغلين فقط في تحويل أنفسهم والاشياء المحيطة بهم في خلق شي لم يكن موجوداً من قبل، وبالضبط فى مثل هذه الحقبة من الأزمة الثورية فإنهم يلجئون بلهفة لاستدعاء أرواح الماضي لتخدم مقاصدهم ويستعيدون منها الأسماء والشعارات القتالية والأزياء لكى يمثلوا مسرحية جديدة على مسرح التاريخ........وهكذا ارتدى لوثر قناع الرسول بولس واكتست ثورة 1789 (الثورة الفرنسية) بثوب الجمهورية الرومانية تارة وثوب الإمبراطورية الرومانية تارة أخرى، ولم تجد ثورة 1848 شيئاً افضل من التقليد الساخر لعام 1789 حيناً والتقاليد الثورية لسنوات 1793 إلى 1795 حيناً آخر. ومثل ذلك فإن المبتدئ الذى تعلم لغة جديدة نجده دائما يترجمها إلى لغته الأم، لكنه يستوعب روح اللغة الجديدة ويعبر بها عن نفسه بسهولة وفى يسر عندما يستخدمها بدون تذكر اللغة القديمة عندما لا يعود يتذكر النطق بلسانه الأصلي. “

وأخيراً، إن منهج التحليل، الذي يعالج الأحداث التاريخية لمسار الثورة السودانية بفصلها عن بعضها البعض في ثرثرة حمقاء، هو المنهج القديم المبتذل والميتافيزيقي الغير علمي؛ فالهبات الثورية في السودان في فترة الحكم الوطني عقب استقلال البلاد في 1956 التي تقودها النقابات حلقات متسلسلة يربط بينها من زاوية مآلها الفعل الوازن بين مكونات المجتمع الطبقية في الدينامية السياسية. فالفصل بين انتفاضات 1964 و1985 و2018 لا يتيح فرصة فهم العوامل التي أدت أن تكون قيادتها وواجهتها (front) النقابات. وعدم فهم طبيعة الدينامية السياسية التي تهندس ناتج الانتفاضات هو العائق الأكبر لعملية التغيير. فتغيير الواقع لا يتم بدوغما (dogma) بل عن طريق العمل على اكتشاف الجديد عبر نقد الماضي. فإن تصور الرغبة في التغيير ظل عبر الحقب مسألة لا جديد فيها؛ فالإنسانية منذ زمن توماس مور (Thomas More) في القرن السادس عشر وكل الطوباويين الآخرين من بعده حلموا بغد جديد لا يزال الناس يناضلون من أجل تحقيقه لكن الجديد هو لزوم الانتقال بالوعي من حالة الخمود، التي تُكرَّس بالدين والعلاقات الطائفية والعلاقات الأبوية، إلى الادراك الواعي؛ أي إدراك التغيير كضرورة (موضوعية) وحينها، كما يقول ماركس، سيتضح جلياً للناس أنهم يحتاجون” للإدراك الواعي بالواقع، الذي طالما حلموا به، كشرط إلى تحويله لحقيقة..... وعندها سيكون واضحا أن مهمتنا ليس وضع خط ذهني فاصل بين الماضي والحاضر، بل إكمال الفكر السابق .... واخيرا يكون جليا أن البشرية لن تبدأ أي عمل جديد ولكنها سوف تقوم بوعي إكمال ما بدأته قديماً. “

إن قيادة النقابات للهبات الجماهيرية تجئ تعبيراً عن ضعف القوى الذاتية التي يمكنها إحداث التغيير الراديكالي الذي يحدث نقلة جذرية في تكوين الدولة السودانية. يقابل هذا الضعف الذاتي حالة القوى الاجتماعية التي تتمتع بالسيادة السياسية وامتلاكها للمقدرة الإستراتيجية لإعادة تشكيل الحكومات التي تحمى مصالحها كما حدث عقب انهيار حكومة أكتوبر الأولى في 1964 التي تشكلت بعد انتصار انتفاضة أكتوبر من نفس العام؛ وتسليم مقاليد الحكم عقب انتفاضة ابريل 1985 لكبار العناصر البيروقراطية في الجيش ذات الميول الإسلامية التي لم تقم في فترة حكمها بأي قدر من تنفيذ مطالب الانتفاضة حتى موعد تمهيدها لانتخابات برلمانية في 1986 تمخضت عن فوز الحزبان الطائفيان (الامة والاتحادي) وتشكيل الصادق المهدى للحكومة التي سارت على النهج الخالد للدولة السودانية: قهر الشعب بالقوانين التعسفية وحرمانه من الحرية السياسية وحماية مصالح القاعدة الاجتماعية بتكوينها الشبه إقطاعي والبرجوازي.

لم تخرج مطالب الانتفاضتين في أكتوبر وأبريل عن مجال الإصلاحات في إطار الدولة كما هي من ناحية تكوينها، والتركيز على الإصلاحات يجئ كانعكاس موضوعي لحالة الضعف الذاتي التي تعانى منها قيادة الحركة الجماهيرية. وهكذا أصبح الانتقال إلى دولة تعمل من أجل تحقيق طموحات الشعب مسالة متعذر حدوثها. فالكيانات النقابية ليست كيانات سياسية، ولا يمكن بطبيعتها أن تكون سياسية إذ ان الوعي السياسي يتحقق لأعضاء النقابات فقط من خارج صراعهم المتمحور أساسا خلف مطالب اقتصادية تتعلق بتحسين مستوى معيشتهم، وبحكم وضعها هذا فإنها ترى أن سقف حدود قيادتها للانتفاضات الجماهيرية لا يرتفع إلى مستوى أعلى من مطلب رحيل النظام الحاكم. وهكذا صار تقدم الأحزاب التقليدية وإسدال الستار على الانتفاضة، بتصدرها للساحة السياسية، بمثابة القانون الثابت.