وقائع بلا ضفاف: رؤية لبعض أحداث ثورة أكتوبر الاشتراكية (الجزء الخامس)


جودت شاكر محمود
2019 / 2 / 3 - 14:27     

لن يتوقف كيل التهم للثورة البلشفية منذ يوم بزوغها، وسقوط التجربة التي قامت من أجلها، ولحد الآن، والى أن تقوم الساعة، تبقى هذا الثورة مدار حديث وبحث الأجيال بعد الأجيال. ولم تقف تلك التهم عند ما تم عرضه سابقا. فهناك تهمة أخرى فحواها: أن (لينين) قد انتهك المسار الطبيعي للأحداث التاريخية، فدمر الحريات والمكاسب الديمقراطية التي جاءت بها ثورة فبراير، بثورة أكتوبر المسلحة ودكتاتورية البروليتاريا.
ولكن كيف حدث ذلك؟
يقول هؤلاء تم ذلك بإسقاط ثورة فبراير وإدخال روسيا في حرب أهلية. فمن المعلوم أن ثورة فبراير هي حركة قامت بها مجاميع من البرجوازية العميلة للقوى الأجنبية، والتي تحركها حكومات الظل مثل الماسونية. تهدف إلى تمزيق روسيا وتوزيعها بين القوى الكبرى على الساحة الدولية في ذلك الوقت، وخاصة بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. علما بأن هناك اتفاقات سرية بين الحكومة المؤقتة(حكومة فبراير) وتلك الدول.
بطبيعة الحال، من المستحيل حصر بداية الحرب الأهلية بسبب واحد. فالتناقضات التي تراكمت في المجتمع في هذا الوقت كانت خارج النطاق الطبيعي. كما أن الحرب العالمية الأولى شحذتهم إلى أقصى الحدود، حيث انخفضت قيم الحياة البشرية.
أما بالنسبة للحرب الأهلية نفسها، والتي يلقي باللوم فيها على البلاشفة على وجه الحصر. فهناك العديد من الكتاب البرجوازيين يزعمون أن البلاشفة قد بدأوا الحرب الأهلية عندما قادوا البروليتاريا إلى السلطة في أكتوبر((1917، ولكن، هل هذا ليس صحيح؟
في حين يشير البعض إلى أن الحرب الأهلية يمكن تفسيرها على أنها حرب طبقية، حيث كانت البرجوازية تقاتل طوال عام (1917) ضد العمال والفلاحين. أو أن الحرب الأهلية هي التي بدأت بعد توقيع معاهدة (Brest Litovsk)، وكانت هذه حرب متعمدة، استمدت بالكامل من التدخل الإمبريالي العالمي بشؤون روسيا.
وآخرون يقولون: كانت الثورة الروسية العظيمة في عام (1917) هي الدافع وراء نشر الصراع المسلح بين المجموعات المختلفة من المجتمع الروسي. لقد تبين هناك عدم الرضا عن الثورة لدى البعض، وهذا شيء لا يمكن تخيله. فالهياكل العسكرية السياسية التي تشكلت في أيام الثورة، وتشكيلات الدولة في أراضي الإمبراطورية الروسية السابقة، تم تقسيمها إلى مجموعتين، أصطلح عليهما تسميات (الجيش الأحمر) و(الحرس الأبيض). أما "الجيش الأخضر" فهو الاسم العام للمجموعات المسلحة غير النظامية، ومعظمها من الفلاحين والقوزاق، الذين عارضوا الغزاة الأجانب والبلاشفة والحرس الأبيض في السنوات الحرب الأهلية.. بمعنى أوسع، "الأخضر" هو تعريف "القوة الثالثة". وقد عرف(Gromov)هذه الحركة بأنها جماعات مسلحة غير قانونية كان أفرادها يختبئون من التعبئة في الغابات.في بداية الحرب الأهلية أو في أواسطها، وأن التشكيلات القوى"الخضراء" التزمت بالحياد، وفي كثير من الأحيان تعاطفوا مع الحكومة السوفيتية، لكن، بين العوام (1923-1920)، حاربوا "ضد الجميع".
في الموسوعة العسكرية الصادرة في موسكو عام (2004) يشير إلى إن الأسباب الرئيسية للحرب الأهلية والتدخل العسكري هي: التناقض بين مواقف الأحزاب السياسية المختلفة، المجموعات والفئات في مسائل السلطة، المسار الاقتصادي والسياسي للبلاد. رهان معارضي البلشفية على الإطاحة بالحكومة السوفييتية بواسطة القوة المسلحة بدعم من الدول الأجنبية. رغبة هذه الأخيرة (الدول الأجنبية) في حماية مصالحها في روسيا ومنع انتشار الحركة الثورية في العالم. وتطوير الحركات الانفصالية الوطنية في أراضي الإمبراطورية الروسية السابقة. إلى جانب أن راديكالية البلاشفة، الذين اعتبروا العنف الثوري واحدا من أهم الوسائل لتحقيق أهدافهم السياسية، ورغبة قيادة الحزب البلشفي في تطبيق أفكار الثورة العالمية.
خلال عام (1915) هزم الجيش الإمبراطوري الروسي في الجبهة الشرقية الكبرى، مما اضطره إلى الانسحاب وترك مساحات واسعة للعدو الألماني: بولندا، ويسترن روسيا البيضاء، ليتوانيا، كورلند (الجزء الغربي من لاتفيا الحديث).
بعد ثورة فبراير عام(1917)، واصلت روسيا أن تكون طرفا في الحرب العالمية الأولى. وقد أكدت الحكومة المؤقتة لالتزام بالولاء للحلفاء لوفود كلا من (فرنسا وبريطانيا العظمى).
في (7) نوفمبر(1917) وصل البلاشفة إلى السلطة. في حين، كانت روسيا لا تزال في حالة حرب مع ألمانيا وحلفائها.
وبحلول مارس(1918)، كانت الحكومة السوفييتية، وإن لم يكن ذلك سهلا دائما، قد أنشئت سلطتها في كل مكان تقريبا، مما يعني أنه لا يمكن أن يكون هناك مكان لحرب الأهلية. ولكن في نهاية مايو (1918)، بدأت الحرب الأهلية في روسيا وعلى نطاق واسع، وطويل الأمد. في الأشهر الأولى لتأسيس السلطة السوفيتية في روسيا، كانت الاشتباكات المسلحة ذات طابع محلي، حيث قام جميع معارضي الحكومة الجديدة بتحديد إستراتيجيتهم وتكتيكاتهم تدريجيا.
في عام (1918) عارضت مجموعة متنوعة من المجموعات المختلفة الحكومة البلشفية. وشمل ذلك ملاك الأراضي الذين فقدوا ممتلكاتهم، وأصحاب المصانع الذين كانت أملاكهم مؤممة، وأعضاء متدينين من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الذين اعترضوا على إلحاد الحكومة والملكيين الذين أرادوا استعادة الملكية. إضافة إلى ذلك هي نتيجة لإغلاق الجمعية التأسيسية، وحظر جميع الأحزاب السياسية موحدة الثوريين الاشتراكيين، المناشفة، والكاديت. كذلك وجود آخرون غير راضين عن قبول الشروط القاسية لمعاهدة (Brest Litovsk) مما أدى إلى حرمان روسيا من ثلث سكانها، وثلث مصانعها وثلاثة أرباع مناطق إنتاج الفحم والحديد لديها. كما اضطرت لدفع تعويضات يبلغ مجموعها (3000) مليون روبل بالذهب.
في(18) فبراير، تستأنف ألمانيا الأعمال العدائية على الجبهة الشرقية من أجل إجبار روسيا على قبول الشروط التي تمليها عليها. في21)) فبراير، احتل الألمان (Minsk)، وفي(25) فبراير (Tallinn)، و(28) فبراير تمت السيطرة على كامل أراضي (Latvia)، في (1) مارس وصلوا إلى (Kiev). الحكومة البلشفية، تهرب إلى موسكو. كما يتم نقل احتياطيات الذهب الروسية من (Petrograd) إلى ((Kazan حتى لا تقع في أيدي الألمان.
جميع محاولات الجيش الروسي لإنشاء جيش أحمر فعال، والذي يمكن أن يوقف تقدم الألمان، تنتهي بالفشل. طالب الألمان أن يدخل البلاشفة في معاهدة سلام كاملة، ولكن في ظل ظروف قاسية إلى حد ما. فقد طالبوا بالاتفاق على إجراءات إقليمية كبيرة تتضمن التخلي عن الكثير من الأراضي.
روسيا مجبرة على إبرام معاهدة سلام وفقا لشروط ألمانيا، والتخلي عن مناطق شاسعة في غرب الإمبراطورية السابقة. وقد تضمنت معاهدة (Brest-Litovsk) للسلام على تنازل روسيا عن أراضي بولندا وبحر البلطيق، والاعتراف باستقلال أوكرانيا، والتسريح الكامل للجيش والبحرية ودفع تعويضات ضخمة.
في النهاية، في (3) مارس(1918)، أجبر الوفد البلشفي، تحت إشراف مفوضي الشعب، على توقيع معاهدة (Brest-Litovsk) مع القوى الرئيسية. من بين أمور أخرى، التزام روسيا السوفيتية بوقف الحرب ضد "جمهورية أوكرانيا الشعبية"، والاعتراف باستقلال أوكرانيا وإبرام معاهدة سلام معها. وفي قلعة (Brest-Litovsk) (مدينة(Brest) اليوم في بيلاروسيا) وقعت روسيا معاهدة سلام مع قوى المحور: ألمانيا، النمسا والمجر، بلغاريا، والإمبراطورية العثمانية. في نفس الوقت انتهت العمليات العسكرية على الجبهة الشرقية للحرب العالمية الأولى. وبذلك أصبحت روسيا أول بلد يخرج من الحرب مهزوم.
بالنسبة لروسيا، انتهت موجة الحرب العالمية الأولى في هزيمة كارثية. لقد فقدت أكثر من مليون شخص، وأصبح هناك الملايين من اللاجئين. احتل العدو بولندا، وهي جزء من دول البلطيق وروسيا البيضاء وأوكرانيا. الحرب دمرت الإمبراطورية، الملك تنازل عن العرش، وروسيا سقطت في مستنقع الاضطرابات الاجتماعية والنضال السياسي. معظم الشعوب التي تعيش في محيط الإمبراطورية وضعت مطالب لتقرير المصير وبدأت تدرك الرغبة في الاستقلال. أنهى سلام (Brest-Litovsk) صراع روسيا في الحرب العالمية، لكنه أصبح أحد الأسباب الرئيسية للحرب الأهلية الروسية، التي أضرت بالبلاد لأربع سنوات أخرى، كما يقول البعض.
ولكن، بعد انسحاب روسيا من الحرب العالمية الأولى، في فبراير (1918)، احتلت القوات الألمانية والنمساوية المجرية جزءا من أوكرانيا وبيلاروسيا ودول البلطيق وجنوب روسيا. للحفاظ على السلطة السوفيتية، لجأت روسيا السوفيتية إلى إلغاء معاهدة (Brest) للسلام وذلك في مارس ((1918. ولكن، بعد الثورة في ألمانيا في نوفمبر(1918)، ونتيجة لإلغاء الحكومة السوفييتية معاهدة (Brest) للسلام، تم تحرير أوكرانيا وبيلاروسيا.
في نوفمبر((1917 كان البلاشفة على يقين من أنه لم يكن هناك قوات معارضة خطيرة ضدهم داخل روسيا لذا فأنهم أطلقوا سراح الجنرالات القيصريين الذين كانوا يحتجزونهم في السجن، بعد أن طلب منهم أن يوقعوا على ورقة تنص على إنهم لن يحملون السلاح ضد السوفييت. لكنهم بعد إطلاق سراحهم ذهبوا بسرعة إلى إقليم القوزاق وجندوا الجيوش للقتال. في هذه المرحلة، لم يكن النظام السوفيتي سوى ميليشيات من الحرس الأحمر (الذين كانوا عمالا في المصانع وبالتالي هم أقل تدريبا وامتلاكا للمهارات العسكرية) لكن التهديد لم يكن كبيرا بالنسبة لهم ليشعروا أنهم بحاجة إلى إعادة الجيش الدائم. لكن معاهدة (Brest Litovsk) غيرت العديد من الأشياء. ربما خرجت القوة السوفيتية من الحرب الإمبريالية، لكن الامبرياليين قرروا شن الحرب على روسيا. في البداية، كان الهدف من تدخل الحلفاء هو لإبقاء روسيا في الحرب، ولكن من دون دعمهم المادي لما يسمى بـ"الحرس الأبيض"، لم تكن هناك حرب أهلية طويلة وحزينة مثلما تم فرضها على روسيا خلال العامين ونصف العامين المقبلين.
علما بان تدخل "الحلفاء" في الثورة الروسية بدأ حتى قبل أكتوبر(1917). حيث لابد من الإشارة إلى أن رئيس الحكومة المؤقتة (A.F. Kerensky.). قد أعلن عن الاتفاقية المبرمة بين إنجلترا وفرنسا والتي تم التوصل إليها في(22) ديسمبر(1917)، والتي بموجبها سيتم نقل أراضي البلطيق في روسيا والجزر المجاورة، وفي نفس الوقت منطقة القوقاز ومنطقة ترانسكاسيا إلى بريطانيا، وشبه جزيرة القرم وأوكرانيا إلى منطقة النفوذ الفرنسية. نلاحظ، حتى قبل (Brest)، يعتبر الحلفاء أنفسهم متحررين تماما من أي التزامات اتجاه روسيا. ولم يكن (Kerensky) يشك في أن الهدف لم يكن إسقاط البلشفية، وإنما تدمير روسيا، وهو الهدف الحقيقي لحلفائه السابقين.
بعد انتصار ثورة أكتوبر وإسقاط الحكومة المؤقتة، تمكن(Alexander Kerensky) من الفرار من الاعتقال وهرب إلى (Pskov)، حيث حشد بعض القوات الموالية لمحاولة إعادة المدينة. تمكنت قوات القوزاق التابعة له من الاستيلاء على (Tsarskoe Selo). وفقا لجون ريد: "دخل القوزاق (Tsarskoe Selo)، يدخل(كيرينسكي) المدينة وهو يركب حصانا أبيضا وجميع أجراس الكنائس تتعالى. لم تكن هناك معركة. لكن (كرينسكي) يرتكب خطأ فادحا. ففي الساعة السابعة من صباح اليوم أرسل أمرا إلى الحامية الثانية لمدينة(Tsarskoe Selo) لإلقاء أسلحتهم. ورد الجنود بأنهم سيبقون على الحياد، لكنهم لن ينزعوا السلاح. أعطاهم (Kerensky) عشر دقائق لتنفيذ أوامره. هذا أغضب الجنود. وبعد دقائق قليلة، فتحت مدفعية القوزاق النار على الثكنات، فقتلت ثمانية رجال. منذ تلك اللحظة لم يعد هناك جنود "محايدون" في تسارسكوي. في اليوم التالي نهزم جنود (Kerensky) أمام القوات الموالية في (Pulkovo). نجا (كيرينسكي) بصعوبة، وأمضى أسابيع قليلة في الاختباء قبل الفرار من البلاد. كانت (Louise Bryant)(22) في (Petrograd) عندما وصلت الأخبار إلى المدينة. تقول: "سار موكب ضخم في شوارع مدينة (Petrograd) ليلتقي بالحرس الأحمر والجنود العائدين".
في ذات الوقت كان يتم تصور البلاشفة وكأنهم حفنة مجرمين، يقومون بجرائم ضد الديمقراطية الاجتماعية. وللخروج من هذا الطريق المسدود، هو القيام بتنظيم تحالف للتدخل الدولي ضد الثورة البلشفية. وتأييد استعادة سلطة ثورة فبراير.
حتى قبل إبرام معاهدة (Brest Litovsk)، بدأ تدخل الدول التحالف الغربي في شمال روسيا والشرق الأقصى. بالفعل في البداية، أدى التدخل إلى تفاقم الحرب الأهلية، وفي الوقت نفسه خلق تهديدا للسلامة الإقليمية لروسيا. لكن الوضع يصبح أكثر حدة في(25) مايو(1918)، عندما بدأ تمرد ما يسمى بالفيلق التشيكوسلوفاكي. إذ تم تشكيل هذا الفيلق في عام(1914) من أسرى الجيش النمساوي المجري، ومعظمهم من أصل تشيكي وسلوفاكى. وذلك لمحاربة النمساويين. ولكن، بعد معاهدة السلام (Brest-Litovsk) بقي هذا الفيلق في روسيا.
أكثر من مرة، ترفض قيادة الفيلق استخدام سلاح في قمع المظاهرات في (Kiev) و(Zhytomyr). لذلك، عندما اقترحت فرنسا نقل الفيلق إلى تبعيتها وسحبه من روسيا، وافق البلاشفة.
بشكل عام، كانت فرنسا مهتمة بإعادة انتشار الفيلق التشيكي والسلوفاكي في الجبهة الغربية. لكن الفرنسيين كانوا يتبعون بشكل كامل لإرادة إنجلترا، ولذلك، أجبروا على قبول الخطط التي كان البريطانيون يمتلكونها للفيلق. وتحت ضغط كلا من لندن وواشنطن، وافق الفرنسيون على إبقاء الفيلق في روسيا ليصبح بذلك محور في الجبهة المناهضة للبلاشفة. وفي (27) أبريل (1918) وقع ممثلو دول التحالف على الخطة المناسبة وذلك في فرساي.
وبما أن الجنود العاديين في الفيلق التشيكوسلوفاكي كانوا يهرعون إلى منازلهم ولا يريدون المشاركة في الحرب الأهلية في روسيا، فقد استخدم الحلفاء الاستفزاز لتغيير أوضاعهم المزاجية. فقد قيل للجنود إن البلاشفة أرادوا نزع سلاحهم وتسليمهم للألمان.
من وجهة نظر عسكرية، تم إعداد التمرد بشكل جيد للغاية. في غضون أيام، أطيح بالقوة السوفيتية على منطقة شاسعة من نهر(Volga) إلى(Vladivostok). ونتيجة لذلك، اقتطعت مناطق واسعة من الجزء الأوروبي من روسيا. في المدن المتمردة وعلى حراب فيلق تشيكوسلوفاكي، ظهرت العديد من الحكومات المناهضة للسوفييت. وبذلك، توسع نطاق الحرب الأهلية واتخذت منحى تدميري وحشي، كلفت الشعب الروسي ملايين الأرواح. لكن الغرب لم يتوقف عند هذا الحد، واستمر في تشجيع الحكومات البيضاء، مع توقع أن النصر لا يمكن أن يكون سريعا وأن الحرب الأهلية سوف تستمر لأطول فترة ممكنة.
يمكننا القول إن الحرب الأهلية في روسيا استفزتها ودعمتها دول التحالف الغربي وأنها بدأت بتمرد الفيلق التشيكوسلوفاكي. وأن التدخل المسلح في الشؤون الداخلية لروسيا كان بمشاركة من الجيش الفرنسي.
لقد ساهمت الحرب العالمية الأولى في تشكيل موقف ثوري محتمل في جميع أنحاء أوروبا. ولكن الحكومات استجابت لهذا الأمر إما بقمع لا رحمة فيه أو تنازلات في شكل إصلاحات اجتماعية وسياسية ديمقراطية (أو مزيج من الأول والثاني). في روسيا، وصلت الثورة إلى نهايتها، وبدأ البلاشفة في تنفيذ أول محاولة في العالم لبناء مجتمع اشتراكي.
في لندن وباريس والعواصم الأخرى، قرروا إرسال قوات إلى هناك لدعم "البيض" في حربهم ضد البلاشفة "الأحمر". وصلت أول موجة من القوات الأجنبية إلى روسيا مع هبوط الجنود البريطانيين واليابانيين في (Vladivostok) في أبريل(1918). هناك اتصلوا بالقوات البيضاء، التي كانت بالفعل في حرب مفتوحة مع البلاشفة.
بشكل عام، في ربيع عام(1918) أرسلت بريطانيا (40000) مقاتل إلى روسيا. كما أرسل (تشرشل)، الذي كان آنذاك وزيرا للحرب، قوة استكشافية إلى (Murmansk) لدعم قوات الجنرال (Kolchak) في شمال البلاد. وكان الهدف كما قال تشرشل لـ"خنق الطفل البلشفي في المهد". ومن أجل إقامة حكومة صديقة للغرب. لذا تم شحن وحدات أصغر من دول أخرى، بما في ذلك فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية (15000) واليابان وإيطاليا ورومانيا وصربيا واليونان. إلى جانب الفيلق التشيكي الذي يبلغ عدد أفراده ما بين(400000-30000) مقاتل.
العديد من المؤلفين يقيم هذه الحرب ليس كمرحلة عسكرية خاصة في تاريخ الثورة البروليتارية، ولكن كشكل مفتوح من الصراع الطبقي.
في نوفمبر- ديسمبر (1918)، تم الإنزال للقوات البريطانية والفرنسية في (Odessa)، (Sevastopol)، (Nikolaev)، (Kherson)، (Novorossiysk)، (Batumi). في ديسمبر، قام جيش (Kolchak)، الذي استولى على (Perm)، بتكثيف عملياته، لكن قوات الجيش الأحمر، التي استولت على(Ufa)، أوقفت هجومه.
تطور الأحداث في روسيا لم يتناسب مع الغرب. في (9) مارس (1918)، وصلت القوات الإنجليزية، ثم القوات الفرنسية والأمريكية والكندية بالقرب من مدينة (Murmansk)، وفي صيف عام (1918) استولوا على(Onega) و(Arkhangelsk). في (5) أبريل (1918)، نزلت القوات اليابانية في الشرق الأقصى، بالقرب من مدينة (Vladivostok)، ثم قوات الغزاة البريطانيين والأمريكيين والفرنسيين.
في أغسطس (1918)، استولت القوات البريطانية على مدينة باكو الروسية (السوفيتية) المنتجة للنفط وغزت جمهورية تركستان الاشتراكية ذاتية الحكم (في وسط آسيا). قامت قوات المحتلين الألمان، في انتهاك معاهدة السلام (Brest)، باحتلال أوكرانيا بالكامل، وشبه جزيرة القرم، واستولت على (Rostov) على نهر الدون، وغزت عبر القوقاز مع القوات التركية. في (25) مايو (1918)، بدأ تمرد مضاد للثورة من قبل الفيلق تشيكوسلوفاكي، نظمته دول التحالف. وانضمت الجيوش البيضاء إلى الغزاة.
وبحلول صيف عام (1918)، كانت ثلاثة أرباع أراضي البلاد في أيدي المحتلين الغربيين والحرس الأبيض. على جزء من أراضي أوكرانيا وجنوب القوقاز، سيطرت القوات البريطانية والفرنسية على المواقع التي كانت بيد الألمان. كما نشرت في دول البلطيق والبحر الأسود أسراب طيران إنجلترا والولايات المتحدة وفرنسا. وقف الجيش الأحمر بالعمال والفلاحين (RKKA) في طريق المحتلين والجيوش البيضاء.
لم يجد الجيش الأحمر القوة والقدرة على هزيمة جيش بولندا، واستولت الأخيرة على جزء من أوكرانيا وبيلاروسيا. في أكتوبر (1920)، تم إبرام هدنة مع بولندا. وفي(12) أكتوبر (1920)، وقع البلاشفة اتفاقية سلام مع بولندا.
في البداية حقق الجيش الأبيض نجاحا في أوكرانيا حيث كان البلاشفة غير محبوبين. جاءت المقاومة الرئيسية من (Nestor Makhno)، وهو قائد الجيش الأناركي في المنطقة. اختار الأناركيون العمل مع البلاشفة ، أملاً في اعتدال سياساتهم.
قاد (Vladimir Antonov-Ovseenko) الجيش الأحمر والقوات الموالية للبلاشفة تدريجيا للسيطرة على أوكرانيا. في يناير(1918) كان لدى الجنرال (Lavr Kornilov) حوالي (3000) رجل. لسحق هذه القوة، أرسل البلاشفة جيشا من(10000). في(24) فبراير(1918)، استولى الجيش الأحمر على (Rostov).هرب (Kornilov)، إلى (Ekaterinodar)، عاصمة الجمهورية السوفيتية (Kuban).
في يونيو(1918) وافق الحلفاء على إرسال قوات عسكرية لمساعدة الجيش الأبيض ضد الحكومة السوفيتية. في الشهر التالي هبطت القوات الفرنسية في (Vladivostok). عين الفرنسيون الجنرال (Maurice Janin) قائدا لمهمتهم العسكرية ووضعوه مسئولا عن قوات الحلفاء في غرب سيبيريا. في صيف عام (1918) ساهم الفرنسيون بـ(1076) جنديا. وكان من بينهم كتيبة هندية صينية، وبطارية مدفعية، وشركة معززة من المتطوعين من (Alsace-Lorraine).
وصل (543) من الجنود البريطانيون من الكتيبة الخامسة والعشرين، فوج (Middlesex)، تحت قيادة المقدم (John Ward).عضو سابق في الاتحاد الاشتراكي الديمقراطي، كان متعاطفا في البداية مع الجيش الأحمر. وبمساعدة الجنرال (Alfred Knox)، رئيس البعثة العسكرية البريطانية، ساعد في إمداد وتدريب الجيش الأبيض في سيبيريا.
من بين القوى الحليفة الرئيسية كان اليابانيون في أفضل وضع للتدخل في سيبيريا. كان لليابان مصالح تجارية وإستراتيجية كبيرة في الشرق الأقصى الروسي، وعلى الرغم من أنهم بدأوا في الوصول بأعداد كبيرة على الجبهة الغربية، إلا أنهم كانوا حديثي العهد نسبياً بأهوال حرب الخنادق وكانت لديهم قوات احتياطية. وصل اليابانيون في الثالث من أغسطس وبدأوا العمل ضد البلاشفة في منطقتي Amur)) و((Assuri. وبحلول نوفمبر بلغ عددهم(72400).
أعطيه الجنرال (William S. Graves)(23) قيادة فرقة المشاة الثامنة الأمريكية وأرسلت إلى سيبيريا بموجب أوامر مباشرة من الرئيس الأمريكي (Woodrow Wilson). كانت أوامره ستبقى غير سياسية بحتة وسط وضع سياسي مضطرب.
كان هدفه الرئيسي هو التأكد من استمرا عمل السكك الحديدية المارة عبر سيبيريا. قواته لم تتدخل في الحرب الأهلية على الرغم من الضغوط القوية التي تعرض لها من اجل مساعدة الجيش الأبيض من قبل الأدميرال(Alexander Kolchak).
كان التهديد الرئيسي للحكومة البلشفية جاء من الجنرال (Nikolai Yudenich). في(14) أكتوبر (1918)، استولى على (Gatchina)، وهي على بعد (50) كيلومترا فقط من(Petrograd). وتشير التقديرات إلى وجود(200000) جندي أجنبي يدعمون القوات المناهضة للبلاشفة.
فشل جيش الجنرال (Vemrenko) في جهودهم لقطع السكك الحديدية الحيوية من (Tosno) إلى موسكو مما سمح للجيش الأحمر بتعزيز (Petrograd) بحرية. الجيش الأحمر الخامس عشر تقدم من(Pskov) إلى (Luga)، مما هدد الجناح الأيمن والوسط للجيش الأبيض. كما عاد الجيش الأحمر السابع تنظيم صفوفه وتعزيزها من قبل الآلاف من الحرس الأحمر الذي تم جمعهم من داخل المدينة وضغطوا غربا باتجاه الجناح الأيسر والوسط للجيش الأبيض.
استمر الجيش الأحمر في النمو وأصبح لديه الآن أكثر من(نصف مليون) جندي في صفوفه. شمل هذا أكثر من(40000) ضابط خدموا في عهد نيكولاس الثاني. كان هذا القرار لا يحظى بشعبية لدى العديد من البلاشفة الذين كانوا يخشون من أنه في ظل هذه الفرصة، فإنهم سيخونون قواتهم الخاصة. حاول (Trotsky) التغلب على هذه المشكلة من خلال فرض نظام صارم من العقوبة على من تم الحكم عليهم بعدم الولاء.
في أكتوبر-نوفمبر (1920)، هزمت القوات السوفيتية جيش الوحدات العسكرية في شمال (Tavria) وفي منطقة (Perekop) و(Chongar) وحررت القرم. في ذلك الوقت الحرب الأهلية أساسا قد انتهت. ولكن، استمر طرد الغزاة والحراس البيض من أراضي اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية (روسيا) حتى خريف عام (1922). ثم تم تحرير (Vladivostok) من الغزاة اليابانيين في(25) أكتوبر (1922). وفي عام (1922). انتهت أخيرا الحرب التي استمرت ثماني سنوات مع ألمانيا، والتحالف الغربي والجيوش البيضاء.
في الفترة من (1918) إلى (1922)، حارب في صفوف الجيوش البيضاء العديد من القادة العسكريين، والذين لعبوا الدور الأبرز في الحرب الأهلية هم كلا من الجنرالات التالية أسماءهم، وهم:(Mikhail Alekseev)، (Anton Denikin)، (Alexander Dutov)، (Alexey Kaledin)، (LavrKornilov)، (Peter Krasnov)، (Evgeny Miller) و(Grigory Semenov) و(Nikolai Yudenich) والأدميرال(Alexander Kolchak). وجميعهم كانوا مدعومين بالكامل من إنجلترا والولايات المتحدة وفرنسا، ونفذوا إرادة هذه الدول. ولكن، كلهم هزموا من قبل الجيش الأحمر.
كما أن العديد من ضباط وجنرالات العهد القيصري، والذين شكلوا فيما بعد القيادة الكاملة للجيش الأحمر، ذهبوا للاتصال بالسوفيت. وهكذا، في مفاوضات السلام مع الألمان في (Brest-Litovsk)، كان الخبير العسكري من الوفد السوفيتي هو اللواء (Alexander AlexandrovichSamoylo)، وضابطا بحريا آخر هو الأدميرال البحري للأسطول الإمبراطور (Vasily Mikhailovich Altfater). كلاهما خدم بإخلاص الحكومة السوفييتية: (Altfater) أصبح أول قائد عام للبحرية، وتمكن (Samoylo)، الذي توفي عام (1963) عن عمر يناهز (94)عاما، من أن يصل إلى رتبة فريق في الجيش وأستاذا ومنح مرتين وسام لينين، وأربعة مرات وسام الراية الحمراء، والعديد من الجوائز الأخرى.
كما يجب لفت الانتباه إلى الأعداد الكبيرة من ضباط الجيش القيصري الذين خدموا في الجيش الأحمر. أي ما يقرب من نصف ضباط الأركان العامة بقوا مع البلاشفة. فقد خدم بين (75000-70000) ضابط من الجيش القيصري في صفوف الجيش الأحمر.
كان الغرب منذ أمد طويل ولا يزال ضد وحدة وقوة الدولة الروسية. فقد فعل الغرب، ولاسيما في الأعوام(1922-1918)، كل ما هو ممكن لتفكيك روسيا، والدعم الكامل لأي طموحات انفصالية.
لم يدعم الغرب فحسب المتمردين، بل قام أيضا بتنظيم تلك الطموحات الانفصالية بكل الطرق الممكنة، ليس فقط في عشرينيات القرن العشرين، ولكن أيضا في عام (1985) وحتى الوقت الحاضر لا يزال يتحين الفرص لذلك. لقد لعب الغرب دورا فعالا في التحضير لثورة فبراير عام(1917)، وأطلق العنان للحرب العالمية الأولى، والتدخل ضد الجمهورية السوفيتية والحرب الأهلية. لم يكن الغرب قادرا على القيام بهذه الأعمال دون حلفائه المتواجدون داخل روسيا. مثل هذا الحليف المخلص للغرب والذي هو (A. V. Kolchak). فقد قام بمحادثات سرية وهامة مع ممثلي الدول الغربية، ونتيجة لذلك وجد نفسه في موقف قريب من زعيم عسكري لفصائل من المرتزقة.
في أغسطس، وصل (Kolchak) سرا إلى لندن، حيث ناقش مسألة "إنقاذ" روسيا مع وزير البحرية البريطاني. ثم ذهب سرا إلى الولايات المتحدة، حيث لم يتشاور مع الوزراء العسكريين والبحريين فحسب، بل أيضا مع وزير الخارجية. علاوة على ذلك، اجتمع (Kolchak) مع الرئيس الأمريكي آنذاك (Woodrow Wilson).لأنه بمساعدة (Kolchak)، كانت الولايات المتحدة تأمل في الحصول، إن لم يكن على كل روسيا، فعلى الأقل على سيبيريا.
وتجدر الإشارة إلى أن(Kolchak) لم يكن ولائه للإمبراطور الروسي كما يتصور البعض، وإنما للحكومة المؤقتة، والتي تمثل في الواقع قوة الغرب في روسيا. في نوفمبر (1918)، أعلن في أومسك بأن(Kolchak) هو الحاكم الأعلى لروسيا. ولكن، بعد الانتصار البلشفي، اضطر (Kolchak) إلى نقل ثلث احتياطيات روسيا من الذهب إلى الغرب.
في الحقيقة ناضل الجيش الأبيض من أجل مصالح الدول الغربية. في حين قاتل الجيش الأحمر من أجل مصالح روسيا. فقد عمل الجيش الأحمر على استعادة جميع الأراضي المحتلة، ومن ثم قام ببناء روسيا الموحدة. لذا الصراع لم يكن بين البلاشفة و"روسيا القديمة"، وإنما الصراع في فترة الحرب الأهلية كان حرب بين حكومة فبراير مع ثوار أكتوبر.
لقد استمرت الحرب الأهلية في روسيا حتى عام(1922) وانتهت بإقامة السلطة السوفيتية في معظم أراضي روسيا السابقة باستثناء فنلندا، Bessarabia(24)، دول البلطيق، بولندا (بما في ذلك الأراضي الروسية السابقة لأوكرانيا الغربية وغرب بيلوروسيا ).
كانت الحرب الأهلية حرب وحشية. تنافست جميع الأطراف المتحاربة في ممارسة الإرهاب. قوات الحرس الأبيض بقيادة(Anton Denikin) مذنبة بالإعدام الجماعي والنهب، فيما عرف فيما بعد باسم الإرهاب الأبيض. وقتل ما يقدر من (100000) يهودي في المذابح التي ارتكبها كل من انفصاليو (Symon Petliura)(25) القوميون والحرس الأبيض.
لا يعطي العلم التاريخي إجابة دقيقة على السؤال حول متى بدأت الحرب الأهلية في روسيا بالضبط، وقد اختلفت آراء المؤرخين حول ذلك. ولحد الآن، ليس لدى المؤرخين إجماع حول كيفية تحديد التسلسل الزمني للحرب الأهلية. وبحلول مارس (1918)، كانت الحكومة السوفييتية، وإن لم يكن ذلك سهلا دائما، قد أنشئت في كل مكان تقريبا، مما يعني أنه لا يمكن أن يكون هناك مكان لحرب أهلية. وفي نهاية مايو(1918)، بدأت الحرب الأهلية في روسيا، وعلى نطاق واسع، وطويل الأمد. بعض الخبراء يعتقدون أن الحرب بدأت مع ثورة فبراير البرجوازية. لكن في (25) مايو (1918) بالتحديد، كانت نقطة بداية النزاع الدموي الرهيب. في هذا اليوم كان هناك تمرد لفيلق تشيكوسلوفاكي. لكنه لا يهم فقط تاريخ البدء، ولكن الأسباب التي أدت إلى هذه الحرب، وما هو جوهر المواجهة.
عند النظر في الأحداث التاريخية كثيرا ما يكون الاهتمام بما يحدث للناس في الوقت الحالي. ولكن الاهتمام بالحرب الأهلية الروسية لم ينشأ من الصفر. في حقبة ما بعد الاتحاد السوفيتي، اندلعت عدة حروب أهلية على الأراضي الروسية. كما ضربت الحروب الأهلية بعض الدول الحليفة لروسيا: يوغوسلافيا وسوريا وليبيا. هذه الأحداث تتكشف أمام أعيننا ونعيش أحداثها، ويمكننا القول بوضوح أن سبب هذه الحروب الأهلية، في كثير من النواحي ليست الظروف الداخلية فقط، بل هناك العوامل الخارجية. وبشكل أكثر تحديدا، تدخل الدول الأخرى وخاصة الامبريالية والرجعية المتحالفة معها.
أن التدخل العسكري لقوى التحالف المعادي للسوفيت. كان هو العامل الرئيسي في عرقلة وتفاقم "الاضطرابات الروسية" الدموية. يقول الأكاديمي الروسي (Yu.A. Polyakov) الحرب الأهلية هي الصراع المسلح بين مختلف فئات المجتمع الروسي، والتي تقوم على تناقضات اجتماعية ووطنية وسياسية عميقة. هذه التناقضات الوطنية والسياسية، جرت مع التدخل الفعال للقوات الأجنبية، والتي تم القيام بها وفق مراحل مختلفة".
في جميع البلدان التي ولدت بعد ذلك على أنقاض الإمبراطورية الروسية، يمكن العثور على نوعين من الناس. أولا، هؤلاء (ومعظمهم من العمال والفلاحين وغيرهم من أعضاء الطبقة الدنيا من المجتمع) الذين أدركوا الثورة بشكل إيجابي، وكانوا يدعمون البلاشفة بشكل فاعل، وهم مستعدين لأن يكونوا راضين باستقلالية معينة لأقلياتهم في الدولة الجديدة المتعددة اللغات والثقافات (مع سيطرة حتمية من روسيا) التي تشكلت بدلا من الإمبراطورية وأصبحت فيما بعد تعرف باسم الاتحاد السوفييتي. ثانياً، كان الأمر يتعلق بغالبية الأعضاء (وليس كلهم) من النخبة الأرستقراطية القديمة والبورجوازية، الذين عارضوا الثورة، وكرهوا البلاشفة، وحاربوا معهم وحققوا استقلالا كاملا عن الدولة الجديدة للبلاشفة. كانت قوميتهم نموذجية للقومية في القرن التاسع عشر، أي اليمينية المحافظة، والمحافظة على العرق واللغة والدين، فضلا عن الماضي العظيم (الأسطوري عادة)، والذي كان من المقرر إحيائه بمساعدة ثورة وطنية. هكذا ظهرت الحروب الأهلية بين الجيشين البيض والأحمر في فنلندا وإستونيا وأوكرانيا وبلدان أخرى.
الألمان والحلفاء (قبل كل شيء، البريطانيون) رتبوا للتدخل في كل مكان لمساعدة الجيش الأبيض. على سبيل المثال، في نهاية نوفمبر(1918)، ظهر سرب من الأسطول الملكي بقيادة الأدميرال (Edwyn Alexander Sinclair)، وفيما بعد مع الأدميرال (WCowan)، في بحر البلطيق لإيصال الأسلحة إلى الإستيونيين واللاتفيين البيض لمساعدتهم في محاربة الأعداء الحمر، بما في ذلك البلاشفة الروس. أغرقت السفن البريطانية عدد من سفن الأسطول الروسي واحتجزت الباقي في ميناء كرونشتادت. أما بالنسبة لفنلندا، فقد ساعدت القوات الألمانية في ربيع عام(1918)، أن مساعدة القوات الألمانية للجيش الأبيض على تحقيق النصر واستقلال هذا البلد كان واضحا من نية لندن وباريس وواشنطن والعواصم الأخرى هي ضمان على تحقيق الانتصار على الجيش الأحمر في الحرب الأهلية في روسيا، وبالتالي وضع نهاية للتجربة البلشفية غير المرغوب فيها، والتي أثارت اهتمام وحماسة الكثير من البريطانيين والفرنسيين والأمريكيين (وهو أمر لم يعجبهم بالتأكيد).
في خطابه إلى (كليمنصو) في ربيع عام(1919)، أعرب (لويد جورج) عن قلقه من حقيقة أن "أوروبا كلها اعتنقت الروح الثورية": "كان هناك شعور عميق بين العمال ليس فقط بالاستياء، ولكن أيضا بالغضب والاحتجاج (...). يثير النظام القائم، السياسي والاجتماعي، والاقتصادي، الشكوك بين الجماهير في جميع أنحاء أوروبا".
لهذا السبب تلقى البلاشفة دعم العديد من القوميين البرجوازيين وحتى الأرستقراطيين، الذين بدونهم لم يكونوا قادرين على كسب الحرب الأهلية على البيض والحلفاء. حتى الجنرال المشهور (بروسيلوف) أيد البلاشفة، على الرغم من وضعه النبيل. ووفقا له، فإن واجب اتجاه الأمة يقف أمامه فوق الدوافع الاجتماعية الطبيعية.
في المقابل، لم يكن الجيش الأبيض، أكثر من "نموذج مصغر للطبقات الحاكمة في النظام القديم (ضباط الجيش، ملاك الأراضي الكبار، البيروقراطيين، أساقفة الكنيسة الأرثوذكسية) ولا يتمتعون إلا بدعم ضئيل من الشعب". يقول (Arno Mayer)(26)، بالإضافة إلى ذلك، فقد كانوا فاسدين تماما، فقد اختفت الكثير من الأموال التي تم نقلها إليهم من قبل الحلفاء في جيوبهم.
كان تدخل الحلفاء في روسيا (الذي يوصف أحيانا بأنه "حملة صليبية ضد البلشفية") محكوما بالفشل، لأنه تسبب في معارضة شديدة من الجنود والمواطنين العاديين لبريطانيا العظمى وفرنسا ودول أخرى تحت شعار "ارفعوا أيديكم عن روسيا!". كذلك، فأن الجنود البريطانيين، لم يتم تسريحهم بعد هدنة نوفمبر(1918)، وذلك لأنهم أرادوا إرسالهم إلى روسيا، فنظموا احتجاجات كادت تؤدي إلى انتفاضة، كما كان الحال، على سبيل المثال، في دوفر وكاليه ومنافذ أخرى للقناة الإنجليزية.
أما بالنسبة لفرنسا، فكانت هناك العديد من الإضرابات في باريس، وكانت هناك مطالب بوقف التدخل في روسيا. حتى القوات التي أرسلت إلى روسيا، بدورها، وبكل طريقة، اظهروا أنهم لا يريدون محاربة البلاشفة، ويرغبون بالعودة إلى ديارهم.
في فبراير ومارس أبريل (1919)، لوحظت أعمال الشغب والفرار بين القوات الفرنسية في (Odessa) والبريطانيين في(Murmansk). بالمناسبة، انضم بعض هؤلاء الجنود إلى صفوف البلاشفة. قال أحد الضباط الفرنسيين بمرارة: "الجنود الذين نجوا من فيردان ومعركة المارن لا يريدون القتال في السهول الروسية". في الفرقة الأمريكية، جرح العديد من الجنود أنفسهم على أمل أن يتم إرسالهم إلى منازلهم. بالإضافة إلى ذلك، تعاطف جنود الحلفاء مع الثوار الروس وأصبحوا أكثر قناعة بالبلشفية، التي اضطروا لقتالها. منذ ربيع عام(1919)، اضطر الكنديون والفرنسيون والبريطانيون والأمريكيون والإيطاليون وغيرهم إلى الانسحاب من روسيا بشكل مزعج.
وهكذا، فشلت النخبة الغربية في إنهاء البلاشفة من خلال التدخل العسكري. ولذلك، غيرت المسار وقدمت الدعم العسكري السياسي للدول الجديدة التي نشأت في غرب الإمبراطورية السابقة، ولا سيما بولندا ودول البلطيق. كانت كل هذه الدول الجديدة ثمار ثورات وطنية بأشكال رجعية من القومية، وفي كثير من الأحيان بلمسة من معاداة السامية. كانوا مرتبطين بالنخبة القديمة، مثل كبار ملاك الأراضي، وجنرالات ذو الأصول الأرستقراطية، والكنائس المسيحية الوطنية، والصناعيين. مع استثناءات نادرة (في تشيكوسلوفاكيا) ، لم تكن هذه ديمقراطيات، بل أنظمة استبدادية برئاسة أرستقراطي عسكري رفيع المستوى (Horthy)(27)، (Mannerheim)(28)، (Pilsudski)(29). يمكن مقارنة مشاعرهم المناهضة لروسيا بموقفهم المناهض للبلاشفة.
على الرغم من ذلك، تمكن البلاشفة من إعادة جزء من أراضي الإمبراطورية السابقة، وخاصة أوكرانيا. على أي حال، تم تشكيل نوع من التطويق الآمن حول روسيا الثورية على أمل أن "يعزل البلشفية"، كما كتبت (Margaret MacMillan).هذا كل ما يمكن أن يفعله الغرب آنذاك. ومع ذلك، لم تتخلى لندن وباريس وواشنطن عن حلم وضع حد للتجربة الثورية الروسية. أرادت القيادة الغربية لفترة طويلة أن تنهار الثورة السوفيتية من تلقاء نفسها، لكن هذا لم يحدث. في وقت لاحق، في الثلاثينيات، كان من المأمول أن تلتقط ألمانيا النازية صراعا مضادا للثورة والاتحاد السوفييتي. لهذا سمحت لهتلر بتسليح الرايخ ودفعه إلى مهاجمة الاتحاد السوفيتي بمساعدة ما يسمى "سياسة الاحتواء".
وقد تحولت أشكال الحرب الأهلية إلى أساليب عديدة. من الانتفاضات والاشتباكات المسلحة والعمليات واسعة النطاق بمشاركة الجيوش النظامية. إلى أعمال حرب العصابات،الإرهاب، التخريب. لقد كانت حرب دموية وطويلة للغاية.
اختلفت العمليات العسكرية خلال الحرب الأهلية بشكل كبير عن الفترات السابقة. لقد كان ذلك الوقت نوع من الإبداع العسكري، الذي كسر الصور النمطية للقيادة والسيطرة، ونظام تجنيد الجيش، والانضباط العسكري. حقق القائد الذي قاد بطريقة جديدة ، باستخدام جميع الوسائل لتحقيق المهمة، أكبر قدر من النجاح. كانت الحرب الأهلية حرب مناورة. كما اتسم القتال خلال الحرب الأهلية بمجموعة من الإستراتيجيات والتكتيكات. أثناء إقامة السلطة السوفيتية في (بتروغراد) و(موسكو)، تم استخدام تكتيك قتال الشوارع.
أن التدخل العسكري لقوى التحالف المعادي للسوفيت. كان هو العامل الرئيسي في عرقلة وتفاقم "الاضطرابات الروسية" الدموية. يقول الأكاديمي الروسي(Yu.A. Polyakov) الحرب الأهلية هي الصراع المسلح بين مختلف فئات المجتمع الروسي، والتي تقوم على تناقضات اجتماعية ووطنية وسياسية عميقة. هذه التناقضات الوطنية والسياسية، جرت مع التدخل الفعال للقوات الأجنبية، والتي تم القيام بها وفق مراحل مختلفة".
انتهت الحرب الأهلية، وكانت نتيجتها الرئيسية استحسان الحكومة السوفيتية من قبل عموم الشعب. وخلال سنوات الحرب، تمكن الجيش الأحمر من التحول إلى قوة منظمة وجيدة التسليح. لقد تعلمت الكثير من خصومها، إلى جانب ظهور العديد من القادة الموهوبين والأصليين.
استخدم البلاشفة بفاعلية المشاعر السياسية للجماهير، فحدد الإعلام أهداف واضحة، وتمكنت حكومة الجمهورية الشابة من تنظيم سيطرتها على المحافظات المركزية في روسيا حيث توجد المؤسسات العسكرية الرئيسية. لم تتمكن القوى المناهضة للبلاشفة من التوحد حتى نهاية الحرب.وعندما انتهت الحرب، تم تأسيس قوة البلاشفة في جميع أنحاء البلاد، وكذلك في معظم المناطق الوطنية.
عند النظر في الأحداث التاريخية كثيرا ما يكون الاهتمام بما يحدث للناس في الوقت الحالي. أن الاهتمام بالحرب الأهلية الروسية لم ينشأ من الصفر. في حقبة ما بعد الاتحاد السوفيتي، اندلعت عدة حروب أهلية على الأراضي الروسية. كما ضربت الحروب الأهلية بعض الدول الحليفة لروسيا: يوغوسلافيا وسوريا وليبيا. هذه الأحداث تتكشف أمام أعيننا، ويمكننا القول بوضوح أن سبب هذه الحروب الأهلية، في كثير من النواحي ليست الظروف الداخلية فقط، بل هناك العوامل الخارجية. وبشكل أكثر تحديدا، تدخل الدول الأخرى وخاصة الامبريالية والرجعية المتحالفة معها.
هذه الأحداث تتكشف أمام أعيننا، ويمكننا القول بوضوح أن سبب هذه الحروب الأهلية، وطبيعتها القاسية في كثير من النواحي هي ليست داخلية، بل عوامل خارجية. بشكل أكثر تحديدا، تدخل الدول الغربية. حيث بدأ تدخل "الحلفاء" في الثورة الروسية حتى قبل أكتوبر (1917).
وما أشبه اليوم بالبارحة. فأن ما حدث في العراق وليبيا وسوريا هي ذات الأساليب والدسائس التي ما زالت الامبريالية الأمريكية وحلفاءها تستخدمها في سياساتها العدوانية لسحق الشعوب وتطلعاتها. تبدأ بالتآمر من الداخل، بالتعاون مع حفنة عميلة، ومن ثم، فرض الحصار، وتطبيق سياسة الاحتواء، ومن ثم التدخل بالقوة العسكرية، والتي تجمعها من الدول السائرة في فلكها على شكل تحالف دولي.
(يتبع)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(22)Louise Bryant صحفية أمريكية وناشطة سياسية معروفة متعاطفة مع روسيا والبلاشفة خلال الثورة الروسية . كتبت عن القادة الروس، وقد تزوجت من زميلها الصحفي جون ريد )وهو زوجها الثاني) في عام 1916.
(23) William Sidney Gravesقائد القوات الأمريكية في سيبيريا خلال الحملة السيبيرية، والتي هي جزء من تدخل الحلفاء في روسيا .
Bessarabia(24) هي المنطقة التاريخية في أوروبا الشرقية، يحدها نهر(Dniester) في الشرق ونهر (Prut) في الغرب. واليوم معظم سكان Bessarabia (حوالي 65٪) جزء من مولدوفا الحديثة، حيث تغطي منطقة Budjak الأوكرانية المنطقة الساحلية الجنوبية وجزءا من منطقة Chernivtsi الأوكرانية التي تغطي منطقة صغيرة في الشمال.
(25)(Simon VasilyovichPetlyura) وهو ناشر وكاتب وصحفي وسياسي ورجل دولة وزعيم قومي أوكراني قاد النضال الأوكراني للحصول على الاستقلال بعد ثورة روسيا عام 1917م. وقد تولى منصب رئيس أوكرانيا خلال فترة الاستقلال ما بين عامي 1918م و1920م.
(26)Arno J. Mayer هو مؤرخ أمريكي من أصل لوكسمبورغ متخصص في أوروبا الحديثة، والتاريخ الدبلوماسي، والمحرقة، وهو حاليا أستاذ التاريخ في جامعة دايتون ستوكتون، الفخري، في جامعة برينستون. ولد مايرعام(1926) في عائلة يهودية فرت إلى الولايات المتحدة أثناء الغزو النازي للكسمبرغ في مايو(1940).
(27)Nicholas Horthy وهو وصي عرش المملكة المجرية من مارس 1920 حتى أكتوبر 1944. كان ميكلوش ضابطا في البحرية النمساوية المجرية، شارك في الحرب العالمية الأولى وكان برتبة مقدم ثم أصبح مع نهاية الحرب برتبة فريق حيث تولى رئاسة أركان القوات البحرية المجرية النمساوية عام 1918.
(28) CarlGustaf Emil Mannerheimقائد الأعلى لقوات الدفاع الفنلندية ومارشال فنلندا وسياسي. كان وصياً على البلاد (1918 – 1919)، وسادس رؤساء فنلندا (1944 – 1946).خدم في الجيش الإمبراطوري الروسي، مـُرتقياً فيه حتى رتبة جنرال. أعلنت فنلندا استقلالها بـُعيد الثورة البلشفية، بيد أن سرعان ما تورطت في حرب أهلية على أساس طبقي. اعتنق العمال بأغلبية ساحقة العقيدة الاشتراكية (الحـُمر) واعتنق البورجوازيون والمزارعون وأصحاب الأعمال الصغيرة العقيدة الرأسمالية ("البـِيض"). كان مانرهايم القائد العسكري للبيض. وبعد عشرين عاماً، عـُين مانرهايم قائدا أعلى لقوات فنلندا المسلحة إبان حربها مع الاتحاد السوفيتي بين عامي 1939-1944.
(29)JozefPiłsudski رجل دولة بولندي، رئيس الدولة (1918-1922)، "المارشال الأول" (من 1920)،و زعيم سلطوي (1926-1935) في الجمهورية البولندية الثانية. من منتصف الحرب العالمية الأولى كان له تأثير كبير في سياسات بولندا، وكان شخصية مهمة في المشهد السياسي الأوروبي. يعتبر مسئولا إلى حد كبير عن استعادة بولندا لاستقلالها في عام 1918، بعد 123 سنة من تقاسمها بين الدول.