الوعي والتنظيم يؤججان الشباب


المنصور جعفر
2019 / 1 / 30 - 18:11     

منذ ظهرهذا الحال التغييري الجديد في شوارع المدن السودانية بدأت كتابات إسلامية وليبرالية في تصويره كثورة شباب وإنترنت منعزلة عن بقية عناصر وتداخلات شبكة الحياة العامة في السودان، ويحاول هذا المقال بيان خطأ هذا التصور الجزئي والواحدي الذي يعتمد في إثبات صحته على أن خروج اليافعين في اول تظاهرات ديسمبر 2018 كان سباقاً وأولاً على غيرهم! أي دون أن ترى هذه الكتابات تراكم حركات التغيير في السودان الحديث وتنوع وتطور مطالبها وتداخل الإجيال في مسيراتها بتوافق مع نسب وجودها في المجتمع.

مفردة "الثورة" تعني التغيير الشامل، ولا توجد ثورة بدون نظرية ثورية قائمة على دراسة الواقع وتحديد تناقضاته وطبيعة العلاج المناسب لأزماته وضبط كيفية التغيير الضروري لبدء هذا العلاج. وفي الأساس لا توجد ثورة بدون وعي بمئالات التاريخ والواقع والتصور العقلاني للمستقبل.
التشريح الجزء-سيسيولوجي لمكونات حركة التغيير الظاهرة والحاضرة هذه الأيام في المجتمع السوداني وتصويرها كحركة يافعين وشباب محضة لايشرح كيف تمكن تلاميذ المرحلة الإبتدائية في الدمازبن فجأة من معرفة وفهم وإستوعاب تفاصيل تاريخ وواقع ومستقبل السودان، وحدهم بدون محركات سياسية؟ علماً بأن الصلة المادية والثقافية لهؤلاء التلاميذ بالإنترنت ليست قوية!

لعل طبيعة اشتراك التلاميذ والطلاب في النشاط السياسي ترتبط بفاعلية بعض محركاته القديمة والحديثة. ذلك أن محركات التغيير ترتبط بالتركيبة العامة للتغييرات السياسية في أي مجتمع، والتي يبدأ تكون آلياتها البشرية من أفراد طلائع ثورية في بعض مجالات السكن وبعض مجالات العمل، وبهم تتكون أو تنشط بهم أعمال وتنظيمات شتى بعضها منتديات وجمعيات ثقافية أو رياضية، وبعضها لجان شعبية وبعضها نقابات أو اتحادات مهنية، ولكل منها جماعة وجمهور يتأثر ويؤثر، وفي ظروف الضغط المعيشي أو السياسي أو الدولي تبدأ بعض هذه الجماهير وبعض تنظيماتها وقادتها في النشاط وفي التجمع ضد الظرف الذي يريدون تغييره أو ضد العدو الذي يريدون هزيمته، ومن ثم تتحول هذه الحالة التلقائية الى أعمال رفض قليلة ومتناثرة ثم تعلو وتيرة تجمعها ونشاطها، وتزيد أعداد وشرائح وفئات عناصرها السكانية، وتتسع مساحة انتشارها ويزيد إيقاعها الزمني، وتتركز آراءها وأفكارها ومطالبها في شعارات محددة، وفي معمعان التغيير واتونه يتحول "الناس" من أفراد ومجموعات افراد متفرقين إلى كتل جماهيرية وإلى جماهير ومن ثم بنضالها ترتفع هذه "الجماهير" إلى كينونة سياسية راقية دأب الساسة على ان يسموها "الشعب"، وهي مفردة تختلف عن تسمية "المواطنون" التي تشمل جميع الفئات، أما "الشعب" فتسمية فئوية وأكثر "الشعب" من الكادحين المستغلين أو المهمشين الذين تغلب عليهم في دول العالم الثالث ظروف معيشة سيئة (أمية وجوع وامراض) وشبه لها في الدول الأخرى، لكن "طلائع الشعب" التي وجدت طريقها إلى "الوعي" أو وجد "الوعي" طريقه إليها، فانها كطلائع شعبية وعناصر تقدم اجتماعي متناسق ترتبط بتأثير شعورها الثوري في مجالها السكني أو الإقليمي أو مجالها الحرفي أو الفئوي أو الطبقي الضيق ترتبط بالطرح العام الواسع لقضايا ذلك المجتمع والدولة المتجه إليها "الوعي" فتستجيب كطلائع شعبية لشعارات التغيير للأفضل في مواجهة بؤس المعيشة وحكومات الظلم التي تنتج وتنمي هذا البؤس.

قهر النظام العام للشعب يبقي أشخاص الحكم وبعض معالمه لفترة من المستحيل دوامها، ورفض الفئات والجماهير وعموم الشعب للظلم ونظمه،.قد يطرد الحكام وحدهم وقد يطردهم ويطرد معهم النظم التي انتجتهم أو التي أداروا بها دولة واقتصاد وثقافة ومجتمع الاستغلال والتهميش:

يحدث موات السيطرة الحكومية عند انصراف "الشعب" عن السلطة الحاكمة وقد يدفن شخوصها عند توجيه إرادته وحركاته العسكرية أو المدنية ضدها.

في عنفوان هذا التشابك الشعبي وحومة نضاله الإجتماعي السياسي ليس من المنطقي محاولة فرز أو تحديد شريحة بعينها من شرائح المجتمع أو فئة معينة أو جيل من فئاته أو أجياله أو إثنية معينة باعتبارها إنها سبقت الآخرين وبدأت صناعة التغيير، على الأقل بحكم أن طريقة حساب تفاصيل الواقع والتطلع إلى تغييره، فالفكر والتفكير والنشاط المحرك لإرادة التغيير ليس بالإمكان نسبتها فقط إلى عنصر واحد، يل هي عملية إجتماعية تاريخية متنوعة وطويلة تشترك فيها غالبية فئات المجتمع ضد الشريحة المسيطرة الظالمة.

يذكر ان الحقيقة الإبتدائية لولادة ومسيرات حركات التغيير عرفتها أكثر مجتمعات العالم الحديث، لكن ما تنتهي له حركات التغيير بعد سقوط الحكم القديم هو الأجدر بالإعتبار، فإن شمل التغيير طبيعة النظام المعيشي والإقتصادي وملكية موارده وقراراته وترتيب النفوذ السياسي والثقافي لفئات المجتمع داخل برلمان الحكم الجديد وفي رئاسة دولته، كان وصف التغيير بأنه "ثورة" صدقاً وحقيقة. أما إن لم يغير الحكم الجديد نظام المعيشة والإقتصاد وطبيعة النفوذ السياسي والثقافي لفئات المجتمع داخل البرلمان وفي رئاسة الحكم كانت التسمية الأصدق أو الأجدر لحركة التغيير هي "الانتفاضة" بإعتبار إنها حركة لم تحقق "التغيير الجذري" في معيشة الناس ومعالم حياتهم العامة بل فقط غيرت شكل الحكم دون مضمونه.

التغيير الجذري تشترك فيه حميع فئات الشعب. فالازمة ليست ان جيل اليافعين والشباب لم يحكم نفسه، أو شخصية شابة تؤمن بأن حرية السوق وكبراء السوق في ستحرر السودان من الإستغلال والتهميش، وليست الأزمة ان مهندساً وتعاونياً خبيراً يقود حركة الثوريين الشيوعيين، بل مثلث الأزمة أن أكثر أقاليم وطبقات ونساء السودان حرموا أجمعين من حكم نفسهم منذ تكون الدولة الحديثة في السودان وذلك لسبب من الطبيعة الإنفرادية لنظم الحكم وفهمها الأناني والإحتكاري المركزي لأمور إدارة موارد ومعيشة وعلاقات المجتمع وثقافته.