السودان: انتفاضة 19 ديسمبر وحدود الإنجاز


محمود محمد ياسين
2019 / 1 / 21 - 22:55     

إن انتفاضة 19 ديسمبر 2018 سياسية واشتعالها أتى تعبيرا عن أن الأزمة في أساسها سياسية وبالتالي الحل يكمن في تغيير حكم الإنقاذ الحالي؛ لكن الحل لا يتمثل في رحيل النظام الحاكم فحسب، بل في إبدال التوجه السياسي للحكم بآخر يفترض أن يتضمن مبادئ تلبى طموحات الشعب.

إن زخم الحراك الجماهيري الجاري يفتقد إلى الخطاب السياسي الصحيح وأحد مظاهر هذا النقص يتجلى في الشعارات، المتداولة في مجرى الانتفاضة، التي بدت عناوينا ضئيلة لأقوى وأشجع انتفاضة في ظل الحكم الوطني في السودان منذ يناير 1956. وضعف الخطاب السياسي ظل يلازمنا على طول الطريق الذي عبرناه للوصول إلى محطة الانتفاضة إذ غاب التفكر السديد في طبيعة الحكم والحاضنة الاجتماعية -الاقتصادية التي تقف خلفه وبالتالي انعدمت الرؤى المستقبلية الثاقبة لما يمكن أن يكون عليه حكم البلاد.

ظل التغيير يُنظر إليه بطهرانية طوباوية جوفاء ويقتصر على الدعوة إلى الإصلاحات وليس التغيير الجذري في بنية الدولة السودانية، التي ظلت الأنساق الاجتماعية – الاقتصادية القديمة تنتج حكومات تتفنن في اضطهاد وقهر الشعب وصار كلما مضى الزمن كلما ازداد توحش الحاكمين.

إن التحليل السياسي يفتقد في الغالب الأعم للإيجابية وظل يدور في حلقة الإصلاحات المفرغة التي انعقد عليها أمل كاذب منذ أول حكومة وطنية بعد رحيل المستعمر البريطاني. ولم يدرك التحليل حدود التغيير التي يحددها واقع التوازنات الطبقية وحالة العامل الذاتي وديناميات التدخل الخارجي في شئون البلاد الداخلية. التوازنات الطبقية ظلت تميل لصالح القوى المعادية للشعب التي تستغل الضعف السياسي الذاتي للحركة الجماهيرية؛ والعامل الخارجي لا يمكن تصور موقفه غير توجيه التغيير لخدمة مصالحه وهي بطبيعتها (by default) معادية لتطلعات الشعب.

والإصلاحية، التي تطغى على التحليل السياسي، تعنى الاعتقاد في إمكان إنجاز عموم المهام والاستحقاقات السياسية والاقتصادية التي يتطلع إليها الشعب في هذه المرحلة من تاريخ نضاله الوطني الديمقراطي عن طريق الإصلاحات الجزئية في إطار الوضع السائد. لكن لا يمكن التعجيل بالاستحقاقات بمجملها في هذه الفترة نتيجة تركيبة الدولة الوطنية في السودان التي يقوم الاقتصاد فيها على علاقات إنتاج قديمة يخدم خلودها الخضوع للشروط التي تفرضها الدول الكبرى ومؤسسات التمويل العالمية، بالإضافة إلى توظيف أجهزة حكم الدولة للعصبيات الإثنية والقبلية والطائفية لإدامة سيطرتها السياسية وبالتالي ضمان إدامة النظام العتيق الذى يشكل مصدر ثراء الطبقة المتنفذة؛ وعليه فإن الانتصار النهائي للشعب في هذه المرحلة من تاريخه تحققه معارك طويلة كُتب عليه أن يقودها لزلزلة الأوضاع السائدة والرمي بها في مزبلة التاريخ.

لكن ليس المقصود هنا إدارة الظهر للإصلاحات وتأجيلها. لا يوجد موقف ثابت من الإصلاحات الجزئية، التي تستحق التأييد والتناول والنضال من اجل تحقيقها ولكن في إطار الوعى بالصورة الكلية للتغيير وليس بعزلها بشكل ميكانيكي. فالإصلاحات تعمل من ناحية على تخفيف معاناة الشعب، ومن ناحية أخرى تمثل فرصة سانحة تتيح للشعب كشف طبيعة وحدود الدولة المعادية إذ انه في أغلب الحالات نجد أن الدولة تلتف على التشريعات التي تصدر في مضمار الإصلاحات بسن إجراءات أو تشريعات جديدة تلغيها بالمرة؛ كما أن الإصلاحات (الترقيع) لا توقف البؤس الذي يعاني منه الناس نتيجة الرأسمالية التي يحكم عملها قوانين موضوعية لا علاقة لها بنزعة إنسانية أو غيرها، فمثلا أي زيادة في الأجور قد يمتصها ارتفاع في الأسعار (انخفاض الأجور الحقيقية).

وهكذا، في التحليل النهائي يكون من اللازم التأكيد على ضرورة التعريف بكنه الاستحقاقات في سقفها العالي (المذكور أعلاه) وربط ما يمكن إنجازه الآن (الإصلاحات) بها في إطار نهج ثوري للإستراتيجية والتكتيك.

والتكتيك السليم ينقل الشعارات حول المساواة والعدالة من التجريد ويعطيها معان واضحة في إطار إستراتيجية تقوم على أساس النقد الثوري للأنساق الاجتماعية – الاقتصادية السائدة وتوعية الشعب بأن تحقيق كامل الاستحقاقات السياسية لا يتم إلا بالقطع مع هذه الانساق المتخلفة. إن التحليل السياسي العلمي يتجه إلى أبعد من تعرية الملامح الرجعية المتعفنة لنظام الحكم القائم ومجرد المطالبة بإزالته بل رفع مطالب سياسية واقتصادية تتعلق بما يمكن إنجازه في حدود واقع اليوم، واهم المطالب في هذا المضمار هي ” فصل الدين عن الدولة والتأكيد على ضرورة استقلالية الحركة النقابية وضمان المشاركة الفعالة للأغلبية من أبناء الشعب من العمال والريفيين في العملية السياسية؛ فاستقلالية النشاط النقابي والمشاركة الديمقراطية هي الوسيلة الوحيدة التي تمكن العمال والمزارعين إطلاق حركة مطلبية تمكنهم من التغلب على المصاعب التي تعيق تحسين ظروفهم المعيشية والاجتماعية“.

وكلمة أخيرة حول العمل الفكري الذي يؤطر للتصورات السياسية هي أن الاوضاع الثورية تهيئ مناخا يجعل الناس أكثر انفتاحا واستعدادا لتقبل وتداول الأفكار الجديدة، وهذا ما تحدثه حاليا انتفاضة ديسمبر. ففي سياق الانتفاضة وما بعدها تتاح فرصة عظيمة امام التحليل السياسي العلمي؛ فالدينامية السياسية، التي اتسمت بها الأنظمة العسكرية خلال الفترة 1958 حتى الآن (بما فيها نظام الإنقاذ المدعوم من قبل الحركة الإسلامية)، زلزلت كيانات اجتماعية بالية مثل الطائفية السياسية في إطار يتعلق فقط بالنزاع حول السلطة السياسية. لكن نشأ وضع يجدر استثماره سياسيا (والسياسة فن الممكن عمله) للإطاحة نهائياً بالطائفية السياسية لصالح واقع جديد متحرر من كل الأنساق الاجتماعية التي عفا عليها الزمن. كما أن التردي المريع في أحوال المواطنين المعيشية وسلبهم حرية العمل السياسي والنقابي وجريمة مواجهة الاحتجاجات الشعبية بالعنف المميت التي أحدثها نظام الإنقاذ تحت شعار "الإسلام هو الحل"، حقائق تُسهل مهمة نقد الإتجار بالدين كتجارة بائرة (unsalable). هذا الواقع السياسي متى ما خضع للنقد العلمي الموضوعي وليس المعتمد على المكايدة والألفاظ النابية سيساهم في رفع وعى الشعب وينير طريقه ويرشده لغد جديد ... ونواصل