ماذا يعني قولنا بأن هناك صراع بين العلم والدين؟


مولود مدي
2019 / 1 / 20 - 06:22     

يقول نيل تايسون، احد أشهر علماء الفيزياء الفلكية : على مر التاريخ الحديث نسبيا انقسم البشر في استجاباتهم لنجاح العلم في تفسير الظواهر الطبيعية الى أربع فرق, الأولى تشمل مجموعة صغيرة من البشر اعتنقت المنهج العلمي بوصفه أفضل أمالنا لفهم الطبيعة, ولا تلتمس سبلا أخرى لفهم الكون, والفرقة الثانية وهي أكبر عددا بكثير, اختارت تجاهل العلم, وحكمت عليه بأنه غير مثير للاهتمام, أو مبهم, او مناقض للروح البشرية. ( ان من يشاهدون التيلفزيون كثيرا دون أن يتوقّفوا لحظة واحدة للتساؤل عن كيفية وصول الصورة والصوت لهم بهذا الشكل ) الفرقة الثالثة وهي أقلية أخرى, تعرف الهجوم الذي يشنه العلم ضد معتقداتها الأثيرة, لذا فهي تسعى بنشاط لاثبات خطأ أي نتائج علمية تزعجها أو تغضبها, الا أنها تفعل هذا خارج اطار العمل المتشكك الذي يتبنّاه العلم. الاستجابة الرابعة التي يتبنّاها قطاع أخر كبير من العامة في قبول المنهج العلمي في فهم الطبيعة مع الاحتفاظ بالايمان بوجود قوى غيبية خارج نطاق فهمنا تتحكم في الكون, وعادة ما يجدون العزاء في الفصل العقلي بين النطاقات التي تعمل فيها الطبيعة والنطاقات التي تعمل فيها القوى الغيبية.

يحقّ للفئتين الثالثة والرابعة طرح سؤال: هل العلم والدين في صراع؟ لو تنظر الى الواقع وترى كيف تتعامل بعض المجتمعات مع بعض النظريات العلمية كنظرية التطور أو الانفجار الكبير لا يمكن ان تنكر ان هناك صراع ، يعني لا مفر من أن تكون الإجابة نعم، ليس فقط من طرف شخص عادي، بل حتى في اوساط المدرسين في الولايات المتحدة على سبيل المثال حيث لا يزال هناك جدل حول الموضوع عند اثارة قضايا تدريس نظرية التطور في المدارس وعدم الاعتراف بنظرية الخلق، وان الابحاث عن الخلايا الجذعية مخالفة للتعاليم الدينية المسيحية الخ ..

ولكن ماذا يعني أن نقول أن العلم والدين " في صراع"؟ يجب أن نتذكّر أنه كانت التقاليد والمؤسسات الدينية مسيحية أو اسلامية كانت، أنها أشهرت عدائها الواضح للعلم ، وبذلت كل ما في وسعها لوقف تقدمه. ليس هناك أكبر مثال من غاليليو الذي كفّر من طرف الكنيسة واتهم بالتجديف والهرطقة بسبب اعلانه بأن الأرض تدور حول الشمس وأنها كوكب كسائر الكواكب الأخرى في المجموعة الشمسية ، لقد حاول الدفاع عن نفسه واظهر صحة استنتاجاته بالأدلة العلمية لكن الكنيسة كانت لها موقف مسبق منه, فزجت به في السجن, نجد نفس التصرفات لدى المؤسسة الدينية الاسلامية, اين تم اعتبار تدريس الفلسفة والمنطق هو ضرب من ضروب الكفر والزندقة, وان لا حاجة للعلم فالقرأن اهدى من الكتب العلمية, فضلا عن أنه تم تشبيه الكيمياء بالسحر, وعلم الفلك بالتنجيم الخ..
هل هذا كاف لإثبات تواجد صراع بين الدين العلم, هذا ليس بدليل بالأصل, بل هو لا يؤدي الى أي نتيجة في نقاشنا, فنفس العلماء الذين تعرضوا من طرف المؤسسة الدينية للاضطهاد و الترويع و القتل كان البحث العلمي والتدين وظيفتين متلازمتين في كثير من الأحيان عندهم ، العديد من علماء الحداثة و التنوير العظماء ، من كوبرنيكوس ونيوتن وجاليليو نفسه إلى القس جورج ليميتر مبدع نظرية الانفجار الكبير والذي عاصر اينشتاين ، كانوا يدينون بالمسيحية وفي الطرف المسلم اين أبدع ابن الهيثم في علم البصريات وجابر بن حيان في الكيمياء نجد ان هؤلاء لم تكن لديهم اية مشكلة مع معتقداتهم بل رجال الدين هم من كانوا يبحثون عن المشاكل معهم. إن قضية غاليليو هي قضية أكثر استثنائية من المعتاد. فليس من المستغرب أن يرفض معظم مؤرخي العلم اليوم هذه "أطروحة الصراع".، مشكلة المؤسسات الدينية مع العلماء، كانت بسبب قدرة هؤلاء على تغيير طرق تفكير الناس، الملك والكنيسة كانا يعتبران الجهل مناسبا لتثبيت حكمهما وللسيطرة على العامة، يعني لو لم يتسبب العلم في تغيير عقليات الناس، فهل سيهتم رجال الدين بالعلم؟.

قد يقصد المرء بالصراع، أنه بدلاً من اعطاء شواهد على اضطهاد العلماء من طرف رجال الدين أن هناك مزاعم علمية معينة (على سبيل المثال ، أن الكون الفيزيائي قد بدأ بـ "الانفجار الكبير" قبل 13.8 مليار سنة وتطور وفقًا لقوانين الفيزياء النسبية) صراعاً مع نوص و مزاعم دينية معينة (على سبيل المثال ، أن العالم قد تم "خلقه" من قبل الله في ستّة أيام, أو قضية خلق الإنسان من تراب الخ..), وهنا يجب أن نفهم دور العلم ووظيفته وهدفه, هل يقدم لنا العلم صورة للواقع ، كما يقول الواقعيون العلميون؟ أم أن العلم ببساطة يعطينا نماذج مفيدة لإجراء تنبؤات تجريبية ، كما يزعم مناهضو الواقعية؟ إذا كانت هذه الإدعاءات العلمية ليست صحيحة ولا زائفة ، ولكنها فقط أكثر أو أقل فائدة أو "مناسبة تجريبيا". في هذه الحالة ، من الصعب أن نرى كيف يمكن أن تتعارض مع الحقائق الدينية بطريقة أو بأخرى، إن نموذج Big Bang هو ببساطة الفكرة القائلة بأن كوننا قد توسع و تم تبريده من حالة حارة كثيفة، بحيث كان كوننا يشغل حجم رأس دبّوس ثم توسّع. لدينا أدلة دامغة على أنه هذا النموذج صحيح ، لكن قد يكون الانفجار الكبير بداية الكون. أو ربما لم يكن كذلك ؛ يمكن أن يكون هناك مساحة ووقت قبل الانفجار الكبير. نحن لا نعرف حقا، لكن هذا النموذج مفيد جدّا لكي نعرف كيف بدأ الكون وليس من أين جاء.

نفهم من هنا أن ما يخلق الصراع في هذه الحالة بين المؤمن والملحد هو كيفية التعامل مع العلم فكلا من الملحد و المؤمن يعتقدان ان العلم وجد لنصرة ارائهما حول الاديان والله ، وهنا أم الكوارث، عندما يتحوّل العلم الى ايديولوجيا، فغالباً ما يفترض الملحد أن الكون النيوتوني الذي تتفاعل فيه القوى والجسيمات بطريقة محددة سلفاً ، لا يترك مساحة كبيرة للتدخل الإلهي. لكن هذا ليس هو الكون الذي وصفه العلم المعاصر ، والذي يرفض الآلية الكلاسيكية والحتمية ، ومن جانب أخر ، مشكلة المتدين مع العلم هي عدم اعترافه بحقيقة جلية وهي أن العلم المعاصر زودنا بالكثير من التفسيرات العلمية للكثير من الظواهر الطبيعية ، بحيث لم نعد بحاجة إلى تفسير لاهوتي لها. على سبيل المثال ، البيولوجيا التطورية تشرح كيف نشأ الحيوان البشري عن مجموعة من أسباب طبيعية ، ميكانيكية ، تدفعنا الى أن نستغني عن عقيدة الخلق اللاهوتي، فمن يبحث في تاريخ الأرض سيجد أن الحياة كانت بحرية في أول المطاف، وداخل المحيطات السائلة الغنية بالعناصر الكيميائية, وبواسطة ألية غير معروفة بعد, ظهرت بكتيريا لاهوائية ساهمت دون معرفة منها في تحويل الغلاف الجوي الغني بثاني أكسيد الكربون الى غلاف جوي به ما يكفي من الأكسجين بما يسمح بتكون الكائنات الهوائية وتطورها وهيمنتها على المحيطات والبر. ثم اتحدت ذرات الأكسجين تلك, في جزيئات من ثلاث ذرات لتكون طبقة الأوزون.
إن التنوع المدهش للحياة على الأرض, وفي كل مكان أخر بالكون, يرجع الى وفرة عنصر الكربون بالكون. الى جانب الجزيئات التي لا حصر لها (البسيطة والمعقدة) المصنوعة منه, اذ تفوق الجزيئات المبنية على عنصر الكربون سائر الجزيئات الأخرى مجتمعة. لكن الحياة هشة. ولا تزال مواجهات كوكب الأرض مع الاجرام الضخمة تسبب دمارا هائلا في نظامنا البيئي, فمنذ 65 مليون عام (اي اقل من 2 بالمئة من تاريخ الأرض) ضرب كويكب وزنه عشرة ترليونات طن الأرض مفنيا أكثر من 80 بالمئة من الحياة النباتية والبرية على سطح الأرض بما في ذلك الديناصورات التي كانت المهيمنة على الأرض. منحت هذه الكارثة البيئية الفرصة للثدييات الصغيرة الباقية على قيد الحياة كي تملئ الفراغ المتكون حديثا. وتطور فرغ من الثدييات كبيرة الأمخاخ, نطلق عليه اسم الرئيسيات, الى رتبة الانسان العاقل.

هذا تفسير مختصر لظهور الإنسان على هذه الأرض ، إلا أن الأصوليين الدينيين لم يغيّروا عقليتهم ، ويقاومون مثل هذه التفسيرات العلمية وكأنها تهديدات مباشرة لقناعاتهم الدينية, وفي نفس الوقت يدّعون بأن العلم يدعم صحة دينهم ! ..

عادةً ما يعني أولئك الذين يعتقدون أن الدين والعلم في صراع و أن الدين لا يتوافق مع تفسير معين للعلم الطبيعي الذي يقضي بأن كل ما هو موجود هو ما يتم الكشف عنه من خلال النظرية العلمية ، بينما الدين غارق في الميتافيزيقا التي لا يمكن التحقق من صحتها .. ان من يعلل الصراع بسبب الميتافيزيقا يجب عليه التمييز بين هذه "الطبيعة الميتافيزيقية" من الطبيعة المنهجية ، وهي النظرة المقبولة على نطاق أوسع والتي تقول إن العلوم الطبيعية مباحثها تقتصر فقط على الظواهر الطبيعية. الملحدين يذهبون بعيدا من حجة الميتافيزيقا بل يؤكدون أيضاً على موقف فلسفي أكثر إثارة للجدل ، ألا وهو المادية المختزلة ، التي تقول أن كل ما هو موجود أو يمكن اختزاله إلى المكونات المادية التي تفترضها النظرية العلمية ، يعني كل شيء غير ذي طبيعة مادية فهو غير موجود، لكن كيف يؤمن الملحد بهذه الفكرة ولا يعمّمها على الرياضيات ، دعامة الرياضيات هي الارقام، فهل سينكر الملحد أيضا وجودها أيضا رغم انها لا وجود لها في ارض الواقع بل موجودة في ادراك الانسان فقط؟ المشكلة هي أن الأرقام - إلى جانب المفاهيم الرياضية الأخرى مثل المجموعات لا غنى عنها للعلوم الحديثة. ومع ذلك هذه "الأشياء المجردة" ليست مادية. وبالتالي ، لا يمكن للمرء أن يأخذ العلم باعتباره الدليل الوحيد المؤكد للواقع وفي نفس الوقت لا يؤمن بالحقائق غير المادية.

احتمالات التوتر والاختلاف ، وحتى العداء بين ممثلي المجتمعات العلمية والدينية ستكون دائما موجودة. لكن التوتر ، والتباعد ، والعداء - حتى الصراع - ليست هي نفسها مثل الحرب الحتمية. العديد من المتدينين كانوا غير مبالين بالعلوم, كما عانى العديد من العلماء الاغتراب عن الدين. الشك المتبادل ليس شيئا غير مألوفا أيضا. ولكن ، مرة أخرى ، اللامبالاة والاغتراب والشك لا تحمل معنى الحرب بين العلم والدين، لكن أعتقد بأن النقاش حول طبيعة العلاقة بين الدين والعلم مفيدة الى حدّ ما، منذ مائتي عام تحوّل العلم الى مصدر للتكنولوجيا، وبفضل هذه التكنولوجيا اثيرت أسئلة عميقة، حول معنى أن تكون إنسانًا وما معنى الحياة، وهل سيختلف معنى الحياة الانسانية مع الحياة التي يخلقها بنفسه في المخابر البيولوجية وغيرها ، وهي مواضيع كان لدى اللاهوتيين الكثير ليقولونه.حولها.
أعتقد أن الاجابة على سؤال (هل الدين والعلم في صراع؟) تحتاج الى استخدام منطق جديد ومعالجة مختلفة, المشكلة اننا عندما يجيب البعض بنعم اولا فهو يلجئ مباشرة الى المنطق الارسطوطاليسي, الذي يعتمد على مقدمات تسلّم بثبات جوهرها ثم يستخرج النتائج منها, أنا لا أقول بأن هذا منطق لا يصلح اليوم, ولكن أعتقد بأن استخدام هذا المنطق في تحديد علاقة الدين بالعلم لن يجدي نفعا, وهذا ما يجعل العلم والدين في صراع، ويعيق المجتمعات عن تقبّل العلم والاستفادة منه، والسبب أننا لا زلنا نؤمن بأن جوهر العلم وجوهر الدين ثابتان لا يتغيران مع الزمن, لقد شهدت المصطلحات نفسها "العلم" و "الدين" تغيرات عميقة في المعنى. لم يصبح "العلم" ، حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، مظلة ملائمة لاستيعاب مجموعة متزايدة من النتائج التجريبية المتخصصة ، التي يفترض أنها - ولكن ليس دائمًا - توحدها "منهجية علمية" مشتركة، فمن الملامح الرئيسية للفيزياء التقليدية أن الأحداث والقوانين و التنبؤات تتسم بالمنطقية عند التفكير فيها, فجميعها اكتشفت واختبرت في مختبرات عادية داخل مباني عادية. والى اليوم لا تزال قوانين الجاذبية والحركة, وقوانين الكهرباء والمغناطيسية, وطبيعة الطاقة الحرارية وسلوكها تدرّس في صفوف الفيزياء بالمدارس الثانوية. وقد مثّلت هذه الاكتشافات عن العالم الطبيعي وقود الثورة العلمية, التي غيّرت بدورها الثقافة والمجتمع على نحو لم تتخيله الاجيال السابقة, وتظل هذه الاكتشافات أساس ما يحدث في عالم الخبرات اليومية وأسباب حدوثه.

وعلى النقيض لا يوجد شيء منطقي في الفيزياء الكمّية (الكوانتم), لأن كل شيء فيها يحدث في نطاقات تتجاوز كثيرا ما تستطيع حواسنا البشرية الاستجابة له. وهذا أمر طيب. ويسعدنا القول ان حياتنا اليومية خالية تماما من صور الفيزياء المتطرفة.