تحت رايةٍ زائفة - لينين (3)


أحمد البلتاجي
2019 / 1 / 7 - 01:29     

الجزء الأول:http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=621921
الجزء الثاني:http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=622723
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

3

العهد الثاني، أو كما يصفه بوتريسوف، «مُدّة أربعةٍ وخمسين عامًا» (1870-1914)، يتحدد عنده بشكلٍ غير حاسم. هذا النقص ذاته هو ما يعيب تحديد تروتسكي لنفس العهد، الذي قدمه في كتاباته بصدد ألمانيا، بيد أنه لا يتفق مع الاستنتاجات العملية لبوتريسوف (هذا، بالطبع، يصب في تقدير أولهما). كلاهما لا يدرك السبب الذي يجمعهما سويةً، بمعنى ما.

هاكم ما كتبه بوتريسوف عن هذا العهد، الذي دعوناه الثاني، عهد الأمس:
«التقييد التفصيلي للعمل، والصراع والتدرُّجيّة المتغلغة- هذه العلامات لزمنها، والتي رُفعت من قِبل البعض إلى مرتبة المبدأ، أصبحت بمثابة الحقائق الاعتيادية في حياة الآخرين، وبالمثل، أصبحت جزءًا من عقليتهم، وجانبًا من أيديولوجيتهم» (صـ71). «قدرتهُ (هذا العهد) على التطور الناعم والحذر أظهرت، في انقلابه، أولاً: افتقارًا واضحًا للتكيف مع أي انتهاكٍ للتدرج ومع الظواهر الكارثية من أي نوع، وثانيًا: انعزالاً استثنائيًا عن حقل النشاط القومي- الوسط القومي..» (صـ72). «لا ثورة، ولا حرب..» (صـ70).«أضحت الديموقراطية من الناحية العملية قوميةً أكثر، بقدر ما امتدت بها فترة "حرب الخنادق" وبقدر ما تشبثت بالمرحلة الطاغية من التاريخ الأوروبي.. التي لم تعرف النزاعات العالمية في قلب أوروبا، وبالتبعية لم تستشعر القلق تجاه ما يدور وراء حدود مقاطعات الدولة القومية، ولم تُعِر اهتمامًا أصيلاً على الصعيد الأوروبي العام أو العالمي» (صـ75-76)

القصور الرئيسي في هذا التشخيص، كما في تشخيص تروتسكي للعهد ذاته، هو التردد في تمييز وتعريف التناقضات العميقة في قلب الديموقراطية الحديثة، التي تطورت على الأساس الموصوف أعلاه. الانطباع الناتج أن الديموقرطية المعاصرة للعهد المدروس ظلت كوحدةٍ مفردة، والتي بشكلٍ عام، تخللتها التدرُّجيّة، انقلبت قوميةً، وبدرجاتٍ نضجت بمعزلٍ عن انتهاك التدرُّج وعن الكوارث، حتى نمت وضيعةً ومتعفنة.

في الواقع ما كان هذا ليحدث، حيث أنه بجانب الميول المُشار إليها سلفًا، كانت ميولٌ أخرى عكسية تعمل حتمًا: الحياة اليومية لجماهير الكادحين كانت تأخذ طابعًا عالميًا، واجتذبت المدن عددًا أكبر من السكان، وتحسنت الظروف المعيشية في المدن الكبرى حول العالم. كان رأس المال يكتسب طابعًا عالميًا، وفي المصانع الكبرى تمازج قاطنو المدن والريفيون، من أهل البلد والأغراب. كانت التناقضات الطبقية تتزايد حدتها، تجمعات الموظفين مارست ضغطًا أعظم على النقابات العمالية، وتصاعدت أشكالٌ أكثر حدةً ومرارةً من الصراع الطبقي، كالإضرابات الجماهيرية مثلاً. تكاليف المعيشة أخذت ترتفع، وثقل رأس المال المالي بات لا يُحتمَل، إلخ..، إلخ.

في الحقيقة، لم تتبع الأحداثُ النمطَ الذي وصفه بوتريسوف. نعلم هذا يقينًا. في الحقبة المعنية بالبحث، دون استثناءٍ، حرفيًا ولا واحدة، من الدول الرأسمالية الرئيسية في أوروبا كانت بمعزلٍ عن الصراع بين التيارين المتضادين داخل الديموقراطية المعاصرة. في الدول الكبرى، اتخذ هذا الصراع أكثر الأشكال عنفًا، متضمِّنًا الانفصالات، برغم الملمح العام "السِلمي"، "الراكد"، والغافي لهذا العهد. هذان التياران المتناقضان أثرا على كافة مجالات الحياة وكل أزمات الديموقراطية الحديثة بلا استثناء، كالموقف تجاه البورجوازية، التحالفات مع الليبراليين، التصويت على اعتمادات الحرب، الموقف من مسائلٍ كالسياسات الاستعمارية، الإصلاحات، طبيعة الصراع الاقتصادي، وحيادية النقابات العمالية، إلخ.

"التدرُّجيّة المتغلغة" لم تكن أبدًا المزاج المهيمِن على الديموقراطية المعاصرة، كما تفترض كتابات بوتريسوف وتروتسكي. لا، بل إن هذه التدرجية تشكّلت كاتجاهٍ سياسيٍّ محدَّد في الديموقراطية الحديثة في أوروبا ، والذي غالبًا ما أفرز حينها جماعاتٍ مستقلة، بل وأحيانًا أحزابًا مستقلة. امتلك هذا الاتجاه قادتَهُ، صحفَهُ المتحدثةَ بلسانه، سياساتِهِ، ووسائلَهُ الذاتية –المنظَّمة خصيصًا- للتأثير على الجماهير في المجتمع. وعلاوةً على ذلك، أخذ هذا الاتجاه في تشييد نفسهِ –حتى ثبتت دعائمه في النهاية- على قاعدة مصالح طبقةٍ اجتماعيةٍ محدَّدة ضمن ديموقراطيةِ وقتها.

اجتذبت "التدرُّجيّة المتغلغة" إلى صفوف هذه الديموقراطية عددًا من رفاق السفر من البورجوازية الصغيرة. إضافةً إلى ذلك، فإن شروطًا مخصصةً للبورجوازية الصغيرة، وبالتبعية، توجهًا سياسيًا بورجوازيًا صغيرًا، أصبحا المُتحكِّميْن مع طبقةٍ محدَّدةٍ من البرلمانيين، الصحفيين، ومسؤولي النقابات العمالية. صنفٌ من البيروقراطية والأرستوقراطية العمالية كانت تصعد بطريقةٍ تزيد أو تنقص صراحتُها ووضوحُ معالمها.

خذ على سبيل المثال، الاستيلاء على المستعمرات وتوسع الممتلكات الاستعمارية. كانت هذه ملامحًا مؤكَدة للحقبة المدروسة أعلاه، وفي معظم الدول الكبرى. ما الذي يعنيه هذا بالمعنى الاقتصادي؟ يعني مجموعًا من الأرباح الزائدة والامتيازات الخاصة للبورجوازية. يعني، كذلك، إمكانية التمتع بفتات هذه الكعكة الكبيرة من قبل حفنة من البورجوازية الصغيرة، كما من قبل الموظفين ذوي المكانة العالية، ومسؤولي الحركة العمالية، إلخ. الاستمتاع بالفتات من مكاسب المستعمرات، من الامتيازات، بواسطة قلة ضئيلة من الطبقة العاملة في بريطانيا على سبيل المثال، هو حقيقةٌ ثابتة، أوضحها وأشار إليها ماركس وإنجلس. وبينما كانت مقصورةً على بريطانيا في السابق، أصبحت هذه الظاهرة منتشرةً في كل الدول الرأسمالية الكبرى في أوروبا، باتساع ممتلكاتها الاستعمارية، وعمومًا بنمو وتطور الحقبة الإمبريالية للرأسمالية.

وبكلمة، فالـ "التدرُّجيّة المتغلغة" الخاصة بالعهد الثاني (عهد الأمس)، لم تخلق فحسب "افتقارًا للتكيف مع أي انتهاكٍ للتدرُّج"، كما يعتقد بوتريسوف، أو ميولاً معينة لـ "ادعاء الواقعية"، كما يفترض تروتسكي، بل اتجاهً كاملاً للانتهازية مبني علي طبقة اجتماعية محددة ضمن الديموقراطية الراهنة، ومرتبطٌ بالبورجوازية المتوافقة مع "لونها" [الديموقراطية الراهنة-المترجم] القوميّ بروابط عدة من المصالح الاقتصادية، الاجتماعية، والسياسية المشتركة. اتجاهٌ معادٍ مباشرةً، صراحةً، بصورةٍ واعيةٍ، وبشكلٍ منهجيٍّ لأية أفكار عن "انتهاك التدرُّج".

عددٌ من أخطاء تروتسكي التكتيكية والتنظيمية (ناهيك عن بوتريسوف) نابعةٌ من خوفه، أو تردده، أو عدم قدرته على تعريف حقيقة "النضج" الذي حققه التوجه الانتهازي، وارتباطه الوثيق والصلب بالليبراليين القوميين (أو القوميين الاجتماعيين) في عصرنا. وفي الممارسة، فإن الفشل في تحديد ذلك "النضج" وذلك الارتباط الصلب قد أدى، على الأقل، إلى ارتباكٍ وعجزٍ تام في مواجهة الخطر القومي الاجتماعي (أو الليبرالي القومي).

بشكلٍ عام، فهذا الارتباط بين الانتهازية والقومية الاجتماعية، أنكره كلٌ من بوتريسوف، مارتوف، أكسلرود، م. كوسوفسكي (الذي أخذ على عاتقه مهمة الدفاع عن موقف الليبرالي القومي للديموقراطيين الألمان بتصويتهم لصالح اعتمادات الحرب)، وتروتسكي.

إن "حجتهم" الرئيسية أنه لا تطابقَ تام بين الانقسام الماضي للديموقراطية "على أساس الانتهازية" والانقسام الحالي "على أساس القومية الاجتماعية". هذه الحجة، أولاً، خاطئةٌ من جهة الوقائع، كما سنبين حالاً. وثانيًا، إنها أحاديةٌ للغاية، ناقصةٌ وواهيةٌ من جهة المبادئ الماركسية. الأشخاص والجماعات قد ينتقلون من جهةٍ إلى أخرى، هذا ليس ممكنًا فحسب، بل ويغدو محتمًا خلال أي انقلابٍ اجتماعيٍّ عارم. مع ذلك، فإن هذا لا يخل أبدًا بطبيعة توجهٍ محدَّدٍ، أو بالروابط الأيديولوجية بين توجهاتٍ محدَّدة، أو فحواها الطبقيّ. قد تبدو هذه الاعتبارات ضربًا من المعرفة العامة ولا مراء في أن المرء يشعر بالحرج إذ يضطر للتأكيد عليها. بيد أن الكُتّاب المذكورين أعلاه غابت عنهم هذه الاعتبارات بالذات. إن الفحوى الطبقي الأساسي للانتهازية (أو، بمعنىً آخر، مضمونُها الاجتماعي-الاقتصادي) يكمن في عناصر محدَّدة ضمن الديموقراطية الراهنة التحقت -على الأغلب بصورةٍ لاواعية- بالبورجوازية، فيما يخص عددًا من المسائل المنفردة. الانتهازية هي المكافئ لسياسة العمال-الليبراليين [حركة سياسية دعمت النقابيين والبرلمانيين في بريطانيا، لتبني القضايا العمالية دون نقد الليبرالية-المترجم]. من ينتابه الخوف إزاء المظهر "الحزبيّ" لهذه الكلمات؛ يجدر به أن يتكلف مشقة دراسة آراء ماركس، إنجلس، وكاوتسكي (ألا يمثل الأخير "مرجعيةً" لائقةً بالنسبة لمعارضي "الحزبية"؟) حول، لنقل، الانتهازية البريطانية. لا شك أنّ دراسةً كتلك ستقود إلى التعرف على الأسس المتطابقة بين الانتهازية وسياسة العمال-الليبراليين. إن المضمون الطبقي للقومية الاجتماعية الراهنة هو ذاته تمامًا. إن الفكرة الأساسية للانتهازية هي التحالف أو التقارب (وأحيانًا اتفاقًا، جبهةً، أو شيءً من هذ القبيل) بين البورجوازية ونقيضها. والفكرة الأساسية للقومية الاجتماعية هي ذاتها. إن الانسجام الأيديولوجي والسياسي، الترابط، بل والتماثل بين الانتهازية والقومية الاجتماعية هو مما لا يرقى إليه شك. بالطبع، علينا أن نستند إلى، لا الأفراد أو الجماعات، بل للتحليل الطبقي للاتجاهات الاجتماعية، والاختبار الأيديولوجي والسياسي لمبادئهم الجوهرية والرئيسية.

مقاربينَ المسألة نفسها من زاويةٍ أخرى، سنتساءل: من أين ظهرت القومية الاجتماعية؟ كيف نمت ونضجت؟ ما الذي منحها الأهمية والقوة؟. من لم يمتلك القدرة على الإجابة على هذه الأسئلة، لم يستطع أبدًا فهم ماهية القومية الاجتماعية، وبالتبعية غير قادرٍ على وضع "خط أيديولوجي" يفصل بينه وبين القومية الاجتماعية، أيًا ما بلغت حدة زعمه بأنه على استعدادٍ للقيام بذلك.

لا توجد سوى إجابةٍ واحدة على هذا السؤال: لقد انبعثت القومية الاجتماعية من الانتهازية، والأخيرة هي التي منحتها القوة. كيف ظهرت القومية الاجتماعية "فجأةً"؟ بالطريقة ذاتها التي يظهر بها الطفل "فجأةً" وقد انقضت تسعة أشهرٍ منذ حمله. كلٌ من التجليات العديدة للانتهازية أثناء العهد الثاني (أو عهد الأمس) في كل الدول الأوروبية، كانت بمثابة جدولٍ، انبجس "فجأةً" في النهر الكبير على ضحالته (وبإمكاننا أن نضيف، المُوحل والقذر) للقومية الاجتماعية. بمرور تسعة أشهرٍ على الحمل يلزم للطفل الانفصال عن أمه، وبعد عدّة عقودٍ من حبَلِ الانتهازية، فإن القومية الاجتماعية، ثمرتها الناضجة، سيلزمها أن تنفصل عن الديموقراطية الراهنة خلال فترةٍ وجيزة تزيد أو تنقص (مُقاسةً بالعقود). ومهما أخذ الأناس الطيبون في التأنيب والصياح واستشاطوا غضبًا من أفكارٍ وكلماتٍ كتلك، فهذه النتيجةُ حتميةٌ، كونَها تنبع من التطور الاجتماعي الشامل للديموقراطية الراهنة ومن الظروف الموضوعية للعهد الثالث.

لكن لو أن الانقسام "على أساس الانتهازية" والانقسام "على أساس القومية الاجتماعية" لا يتطابقان تمامًا، ألا يثبت هذا أنه لا صلة جوهرية بين الواقعتين؟ بالتأكيد لا، فأولاً، كما أن واقعة انضمام فردٍ بورجوازيٍ أواخرَ القرن الثامن عشر إلى جانب أمراء الإقطاع أو إلى جانب الشعب، لا تثبت أنه "لا صلة" بين نمو البورجوازية والثورة الفرنسية العظمى في 1789. وثانيًا، باستيفاء المسألة من منظورٍ واسع، نجد تطابقًا كهذا (مع ملاحظة أننا نناقش المغزى العام والحركات ككل). خذ عددًا من الدول لا دولةً واحدة، ولنقل عشرَ دولٍ أوروبية: ألمانيا، بريطانيا، فرنسا، بلجيكا، روسيا، إيطاليا، السويد، سويسرا، هولندا، وبلغاريا. وحدها الدول في الخط المائل [بريطانيا، فرنسا، وبلجيكا-المترجم] قد تبدو كاستثناء. وفي البقية، ولّدت الاتجاهات العنيدة في خصومتها مع الانتهازية اتجاهاتٍ معاديةً للقومية الاجتماعية. قارن صحيفة "الاشتراكي الشهرية" Monatshefte ذائعة الصيت [صحيفة الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني، المؤيد للحرب-المترجم] وخصومها في ألمانيا، صحيفة "قضيتنا" Nashe Dyelo [صحيفة التصفويين المناشفة وصوت الاشتراكيين الشوفينيين الروس-المترجم] وخصومها في روسيا، حزب بيزولاتي [القائد الاشتراكي ليونيدا بيزولاتي، المؤيد للحرب-المترجم] وخصومه في إيطاليا، أنصار جروليتش وجريم في سويسرا [روبرت جريم، قائد الحزب الاشتراكي السويسري الداعي لمؤتمر زيمروالد، اتخذ موقفًا "وسطيًا" ثم مؤيدًا للحرب-المترجم]، برانتين وهوجلاند في السويد[القائدان الاشتراكيان كارل يالمار برانتين وكارل زيث هوجلاند، أيد الأول مواقف برنشتاين والمناشفة، وكان الثاني معارضًا للحرب وحليفًا للينين والبلاشفة-المترجم]، وترويلسترا وبانيكوك وجورتر في هولندا [بيتر ترويلسترا وأنتوني بانيكوك وهيرمان جورتر، قادة الاشتراكية الهولندية، كان الأول "وسطيًا" وانتهازيًا والآخران معارضان للحرب-المترجم]، وأخيرًا أنصار صحيفة "القضية المشتركة" Obshcho Dyelo [صوت الجناح الانتهازي في الاشتراكية البلغارية-المترجم] و"الاشتراكيون الضيقون/تيسنياكي" Tesnyaki [الجناح الثوري-المترجم] في بلغاريا. التطابق العام بين الانقسام القديم والجديد هو حقيقةٌ، حيث لا توجد التطابقات الكاملة حتى في أبسط الظواهر الطبيعية، بأكثر من التطابق الكامل بين نهر الفولجا قبل التقاءه بنهر كاما، ونهر الفولجا بعدها. ولا يوجد تشابهٌ تام بين الطفل ووالديه. وحدها بريطانيا تبدو كاستثاءٍ، بيد أنه في الواقع، كان هناك تياران رئيسيان في بريطانيا قبل الحرب، تمايزا من خلال صحيفتين يوميتين -والتي تمثل أصدق مؤشر موضوعي للطبيعة الجماهيرية لتلك التيارات- هما، "المواطن اليومية" Daily Citizen صحيفة الانتهازيين [الجبهة المشار إليها أدناه-المترجم] و"النذير اليومية" Daily Herald لسان حال خصوم الانتهازية [صحيفة الحزب الاشتراكي البريطاني-المترجم]. كلتا الصحيفتين غُمرتا بموجة القومية. بيد أن المعارضة قد عُبر عنها من قِبل أقل من عُشر أنصار الصحيفة الأولى وما يقارب ثلاثة-أسباع أنصار الثانية. الطريقة المعهودة للمقارنة، والتي تعقد بين الحزب الاشتراكي البريطاني وحزب العمال المستقل، مغلوطةٌ لأنها لا تنتبه إلى وجود جبهةٍ يشكلها الأخير مع الفابيين وحزب العمال. وعليه، فإن دولتين فقط من العشرة يشكلان استثناءً، إلا أنه مع هذا فتلك الاستثناءات غير مطلقة، لإن الاتجاهات لم تبدل مواقعها، بسبب أن الموجةَ (ولأسبابٍ واضحة لدرجةٍ لا تستدعي الوقوف عندها) قد غمرت كل معارضي الانتهازية تقريبًا. هذا يثبت بلا شكٍ مدى قوة هذه الموجة، ولا ينفي أبدًا التطابق بين الانقسام القديم والجديد لأوروبا كلها.

لقد أخبرونا أن الانقسام "على أساس الانتهازية" بات لاغيًا، وأن انقسامًا واحدًا ذا أهمية، تحديدًا الانقسام بين أنصار الأممية وأنصار الاكتفاء الذاتي القومي. هذا الرأي خاطئٌ من الأساس. إن مفهوم "أنصار الأممية" يضحي خاليًا من أي مضمونٍ ومعنى، ما لم نزده واقعيةً بشكلٍ ملموس، وأي خطوةٍ تجاه المزيد من الواقعية الملموسة، تقتضي بالإضافة، إحصاء ملامح العداء للانتهازية. وعمليًا، تقوم صحة هذا الطرح. مناصرُ الأممية الذي لا يناصب الانتهازيةَ العداء بثباتٍ وتصميم في الآن ذاته، هو محض شبح. وربما يرى بعضٌ من هؤلاء أنفسهم كـ"أمميين". إلا أن الأشخاص لا يُحاكمون بناءً على ما يعتقدونه في أنفسهم بل على سلوكهم السياسيّ. المسلك السياسي لـ"لأمميين" الذين لا يعلنون أنفسهم بثباتٍ وتصميمٍ أعداءً للانتهازيةَ، سيدعم ويحثّ دومًا التوجه القوميّ. وعلى الناحية الأخرى، فالقوميون الذين يدعون أنفسهم "أمميين" (كاوتسكي، لانش، هينيش، فاندرفِلد، هايندمان، وآخرون)، لا يدّعون ذلك فحسب، بل إنهم يقرون تمامًا بالتقارب الأممي، بالاتفاق، بالاتحاد مع آخرين يشاركونهم رؤاهم. الانتهازيون ليسوا ضد "الأممية"، إنهم وحسب يفضلون التأييد والاتفاق الأممي بين الانتهازيين.