وداعاً أيها الشيوعي العريق موسى ناصيف

عصام مخول
2019 / 1 / 4 - 10:09     


وداعاً أيها الشيوعي العريق موسى ناصيف
رحل الثائر الأممي العصيُّ وبقيت "عصا موسى"!



*يقرأ موسى ناصيف القضية القومية قراءة طبقية، ويقرأ العولمة الرأسمالية قراءة طبقية، ويقرأ القضية الطائفية قراءة طبقية، ويقرأ العنف والحروب وأنظمة الاستبداد، ويقرأ الثورة والثورة المضادة قراءة طبقية، ويقرأ العلاقة الجدلية بين العالمي والمحلي، وطبيعة التفاعل بين مراكز الرأسمالية وأطراف النظام العالمي، ويدأب على التحريض الثوري، ولا يتوقف عن مخاطبة الطبقة العاملة والشرائح الشعبية المستضعفة، يحثها على النضال وبناء وحدتها الكفاحية... ويراهن في المعركة غير المتكافئة التي يخوضها مع رفاق دربه، على تثوير العاملين والمضطهدين على أساس أممي، ورفع جاهزية الشرائح الشعبية للمشاركة في النضال وفي خوض السياسة الثورية التقدمية*


شيء ما مثير للفضول في طريق موسى ناصيف، وكأنك بفيروز كانت تعنيه وهي تغني ل"طريق النحل".. من القرية اللبنانية الحدودية الفقيرة عين ابل، تخرّج من مدرستها الابتدائية، وهاجر إلى حيفا ليلتحق الطفل موسى بجيش العمال الأطفال، فيذوق طعم الاستغلال في مصنع التبغ.. وفي كشك لبيع الصحف يعبّر الفتى عن حماسته لألمانيا النازية، فيتلقى صفعة حنونة وأفكارا بديلة من صاحب الكشك الشيوعي العريق بولس فرح، ومع الصفعة نسخة مجانية من جريدة الاتحاد، جريدة عصبة التحرر الوطني، يتعرف عبرها على كلام جديد ومفاهيم جديدة، وقيم بديلة تشقلب نظام الأشياء ورتابتها في عالمه اليافع، وتضع أمثاله من العمال في مركز هذا النظام، فيكتشف طريقه إلى الشيوعية.. محرضا ثوريا ومناضلا أممياَ لا يكل.



"الوطن"وموسى المتمرد على سايكس-بيكو

ومن المفارقات أن يكون هذا اللبناني الأصل ابن "عين ابل"، من بين الذين اقتلعتهم نكبة فلسطين، وهجّرتهم من حيفا إلى عين ابل، مسقط رأسه في جنوب لبنان، فيقوم "بالتسلل" عبر الحدود مع العائدين إلى وطنهم فلسطين، كافرا بما أفرزته معاهدة سايكس – بيكو من تمزيق للوطن الكبير، ويتعرض للمطاردة إلى ان يستقر في نهاية الشوط في المغار الجليلية، ثم في حيفا ثائراَ عربياَ أممياَ يقدم لنا اليوم كتابه المتميز "مقالات ثائر عربي أممي".
عندما تلتقي أبو سامي ابن التسعين عاماَ، ليلاَ أو نهاراَ، فإما أن تجده في طريقه إلى العمل، أو في طريقه من العمل، وإلا فإنه في طريقه للمشاركة في عمل نضالي أو عائد من هناك.. في التسعين من عمره، يعمل موسى ناصيف بشكل مثابر في حراسة ورشة عمل كبيرة في منطقة خليج حيفا، وما الغرابة في أن ينام صاحب العمل مطمئنا ؟!
فموسى ناصيف كما يشهد عليه كتابه، متمرّس في الحراسة، هو الحارس أبدا.. لا يتوقف عن حراسة نقاء الفكر وصفاء الموقف السياسي والاجتماعي والنهج المبدئي. هو الشاهد وهو الحارس الذي يحرس طريق الشيوعيين وحلفائهم من الوطنيين التقدميين، من الشوائب والحفر والهبّطيات، وهو الحارس الذي يحرس الأمل بغد أفضل للطبقة العاملة وللفئات الشعبية المظلومة والشعوب المضطهدة والواقعة تحت الاحتلال والعدوان والاستغلال والاستبداد.
ويثبت كتاب أبو سامي، أن السياسة، ليست بالضرورة للسياسيين.. لكن بالضرورة أن تكون السياسة الثورية للثوريين.
وإذا كان لي ان أصف مقالات هذا الثائر العربي الأممي – لقلت انه يقدم لنا في كتابه زخما كبيرا من: "السهل الممتنع" الذي لا يقوى عليه، إلا صاحب وعي طبقي عميق، وممارسة كفاحية واسعة، وحس وطني وطبقي مرهف، مجبول بالمعاناة، يحمل معه جينات جيل متميز من الشيوعيين الشجعان، من خلاله يقرأون التطور الجاري في القضايا القومية والعالمية واليومية الاعتيادية.
وموسى ناصيف ثوري يسبح في المياه العميقة، وبحار يبحر في أعالي البحار والمحيطات، ثوري لا يمكن أن يحصر اهتماماته في محيطه المباشر، ولا يمكن حصره في وحدة تحليلية ضيقة وانتماءات انعزالية منغلقة. إن ما يميز كتابه الغني المثري، أنه يأخذك في رحلة في التاريخ، والسياسة، والاجتماع، والصراع الطبقي، متجاوزا كل الحدود الجغرافية، وأداته التي يرتكز إليها في هذه الرحلة المثيرة، تتمثل في التحليل الطبقي الواعي والواضح، وفي انحيازه المعلن للأكثرية المنتجة في المجتمع، للطبقة العاملة والفقراء والمسحوقين، وانحيازه إلى المعركة على تغيير النظام الطبقي الاستغلالي واستبداله بنظام العدالة الاجتماعية والاشتراكية.
يقرأ موسى ناصيف القضية القومية قراءة طبقية، ويقرأ العولمة الرأسمالية قراءة طبقية، ويقرأ القضية الطائفية قراءة طبقية، ويقرأ العنف والحروب وأنظمة الاستبداد، ويقرأ الثورة والثورة المضادة قراءة طبقية، ويقرأ العلاقة الجدلية بين العالمي والمحلي، وطبيعة التفاعل بين مراكز الرأسمالية وأطراف النظام العالمي، ويدأب على التحريض الثوري، ولا يتوقف عن مخاطبة الطبقة العاملة والشرائح الشعبية المستضعفة، يحثها على النضال وبناء وحدتها الكفاحية... ويراهن في المعركة غير المتكافئة التي يخوضها مع رفاق دربه، على تثوير العاملين والمضطهدين على أساس أممي، ورفع جاهزية الشرائح الشعبية للمشاركة في النضال وفي خوض السياسة الثورية التقدمية.



في مواجهة مصادر الوعي الزائف!

يقارع العامل موسى ناصيف دور مؤسسات إعادة إنتاج الوعي الزائف التي تضع في مركز نشاطها، وضع المبررات لاستمرار شرعية النظام الطبقي القائم كلما اهتزت شرعيته، من صحافة برجوازية، إلى جهاز التعليم، إلى المؤسسات الدينية الرسمية التابعة عادة لنظام الحكم، إلى الفضائيات، أداة رأس المال المعولم الكبير للتحكم بالعقول وترسيخ الوعي الزائف.. إلى مراكز الأبحاث والجامعات.
ويتوقف ناصيف عند "المفكرين" ومثقفي البلاط، ويخص منهم أولئك المرتدين عن الماركسية، والذين تحولوا إلى أدوات رخيصة في خدمة مشاريع تفكيك الدول، وتفتيت الشعوب، ونقل الصراع من ميدان السياسة إلى ميدان الدين، ومن التاريخ إلى خارج التاريخ، وإثارة العصبيات الطائفية وعمليات التجريف الإثني، في خدمة مشاريع الهيمنة الإمبريالية والاستبداد المستندة إلى عكاكيزها الرجعية المهترئة، المتحالفة مع العدوانية الإسرائيلية والمحمية بها.
ويتهم هذا الثائر مفكري البلاط، بالتنكر لمفهوم مقاومة المشاريع الإمبريالية في المنطقة وللتواطؤ الرجعي معها، وبالإمعان في التضليل والتنكر لحق الشعوب المقهورة وطبقتها العاملة في خوض الصراع الطبقي والوطني التحرري.
إن العصب الرئيسي الذي يميز نهج موسى ناصيف ويوحد مقالاته، أنه لا يكتفي بأن يعرف النظرية في جانب واحد، و يناضل بموازاتها أو بمعزل عنها نضالا سياسيا واجتماعيا منفصلا في جانب آخر.. فنضاله مغموس بالنظرية الثورية، مندمج فيها اندماجا عضويا، لا يقوم خارج سياقها، ولا يقوم فهمه لها خارج سياق الممارسة الكفاحية ... فالنظرية التي تشرّب أسسها اعتماداَ على حسه الطبقي المتطور، ومعاناته من الاستغلال الطبقي، هي، هي، أداته الكفاحية الأكثر نجاعة لفهم الواقع وتغييره.
ومقالات موسى ناصيف الفكرية والسياسية تشي بأنه يفهم الأحداث ويراها بمنظار النظرية الثورية، يحلل القضايا العينية والسياسية استنادا إليها، وهو عندما يخوض معركة سياسية أو اجتماعية، أينما كانت - في قريته اللبنانية الجنوبية - "عين ابل" او في " قصره الشتوي" (براكية العمال) في حيفا.. في بوليفيا أو في اندونيسيا، في سياتل أو في العراق، في فنزويلا أو في سوريا، فإنه يحللها اعتمادا على النظرية الكبيرة، وقوانين التطور الاجتماعي، ومفاهيم الصراع الطبقي التي استوعبها حتى النخاع، واعتمادا على استراتيجية بناء وحدة المقهورين والمسحوقين من جميع الشعوب والأديان والاثنيات، في مواجهة وحدة المضطهدين (بكسر الها) من جميع الشعوب والأديان والإثنيات. لأن التقسيمة الحقيقية الحاسمة في نهاية الامر، ليست بين الشعوب والأقوام وعلى أساس الانتماء الديني أو الاثني، لكنها بين أولئك من جميع الشعوب والأديان والانتماءات الاثنية المعنيين بالحفاظ على النظام الطبقي القائم وعلاقات الهيمنة القائمة، وأولئك المعنيين بتغيير هذا النظام وهذه العلاقات تغييرا ثورياَ. وهو يجعل بذلك من التجربة النضالية العينية، مدماكاَ إضافياَ في إثراء النظرية العلمية الثورية.
فإذا كان العمق النظري يسند التجربة العينية ويضعها في سياقها الواسع العام، فإن الممارسة السياسية الكفاحية، والنضال الثوري، والصراع الطبقي العيني، مهما كان محليا، يرسخ النظرية والفكر ويثريه.
وهذاهو سر بقاء النظرية الثورية وشرط تجدد الفكر الماركسي اللينيني. وهذا هو طابع المساهمة الكبرى التي يحملها معه موسى ناصيف ورفاق دربه وطبقته المناضلة.
إن النظرية الثورية الماركسية بهذا المفهوم هي – عصا موسى السحرية.. ولكنها في هذه المرة هي عصا موسى ناصيف.. التي يشق بها بحر الظلمات والاستغلال والاستعباد، لينقل الطبقة العاملة والكادحين، من العتم والظلام، إلى نور التحرر والكرامة الإنسانية، وبديل العدالة الاجتماعية الاشتراكي في تجاوز للرأسمالية.
بهذه العصا.. يضرب موسى ناصيف البحر مع الكادحين الثوريين في طول العالم وعرضه، في مقاومة مشاريع الهيمنة الإمبريالية، والعولمة الرأسمالية والليبرالية الجديدة. بحثا عن تحرر الطبقة العاملة والشعوب المضطهدة، والفقراء والمغلوبين والمضللين، الذين كثيرا ما يشكلون فريسة سهلة لأضاليل الفكر الديني الأصولي، والعصبية القومية والتفكيك الاثني، والطائفية البغيضة ليتسنى للمضطهدين (بكسر الها) والفاشيين إخضاعهم والسيطرة عليهم، وسحق إنسانيتهم وإلهائهم عن حقوقهم.
وما أحوجنا في هذه الأيام بالذات إلى عصا موسى ناصيف، يضرب بها البحر الأحمر نفسه، ويشقه ليجعل منه بحرا ثوريا أحمر. لأننا في أمسّ الحاجة إلى القيام بالفرز الضروري الذي يضع في الجهة الواحدة من "العاصفة" تحالف العدوانيين: الإمبريالية الأمريكية.. والصهيونية.. وكراكيب الرجعية العربية، بقيادة السعودية وقطر.. ففي الجهة الأخرى من شق البحر، شعوب المنطقة المكافحة والمتعطشة للتحرر من الاحتلال والتبعية والاستبداد والتخلف والإرهاب، والتي تقاوم المشاريع الإمبريالية الرجعية في عالمنا المعولم حتى النصر، من سوريا التي أحبها موسى ناصيف وانتمى الى معركتها ضد الامبريالية، الى اليمن الجريح الى المقاومة اللبنانية وإلى فلسطين.. ومن بوليفيا إلى فنزويلا وكوبا. وإلى هؤلاء ينتمي موسى ناصيف وأولئك قومه.
* مداخلة عصام مخول في حفل تكريم الرفيق العامل والمثقف الثوري المناضل موسى ناصيف، لمناسبة بلوغه تسعين عاماَ، وهو اللقاء التكريمي الذي نظم في آذار 2015 بالتعاون بين معهد إميل توما للدراسات الفلسطينية والإسرائيلية ونادي حيفا الثقافي .





المناضل الشيوعي العريق "الثائر الأممي" أبو سامي

رحل في حيفا هذا الاسبوع المناضل الشيوعي العريق "الثائر الأممي" موسى ناصيف أبو سامي ، وجرت جنازته المميزة أمس الاول محاطا بمحبيه محمولا على فخر أهله ورفاق دربه وعارفي نضاله مرفوعا على اعتزازهم بما مثله من مبدئية أصيلة ورصيد كفاحي رفيع لم يتوقف . ونزولا عند طلب الراحل جرت جنازته دون أية مراسم دينية . وقد أبنّه ابنه سامي المقيم في ألمانيا بكلمة مؤثرة ، مؤكدا أن والده الراحل يرحل عن هذه الدنيا وهو يردد نشيد الاممية ويرفع العلم الاحمر عاليا ، وأن جثمانه يوارى الثرى بينما لسان حاله يصدح:
هبوا ضحايا الاضطهاد .. ضحايا جوع الاضطرار
وأعلن أن اجتماعا تأبيبنيا خاصا للراحل الغالي سيجري ترتيبه قريبا. وأعلن أن التعازي تقبل في قاعة كنيسة الموارنة في شارع روبين 5 في حيفا أيام الخميس والجمعة والسبت بين الرابعة والتاسعة مساء.
وكان معهد إميل توما و نادي حيفا الثقافي قد نظما في آذار 2015 أمسية تكريمية للرفيق موسى ناصيف بمناسبة بلوغه 90 عاما وتزامنا مع صدور كتابه "مقالات ثائر عربي أممي"، قدّم فيها الرفيق عصام مخول مداخلة تلقي الضوء على شخصية هذا المناضل الشيوعي العريق ، ننشرها كاملة هنا .