مسرح الحفاة ودوره بالتغيير الاجتماعي والسياسي


قاسم محمد حنون
2018 / 12 / 30 - 20:41     

ان المعركة التي يخوضها الفن هي معركة النظرة الى الحياة كلها، انها معركة الاراء والمباديء التي تتوضح من خلال الفن اكثر من اي شيء أخر. ان الفن كما يقول احد فلاسفته هو ابن الحياة وشقيقها. هو رفيق الانسان منذ وجد على الارض. هو زميله في سبيل الكفاح من اجل الانتصار على الطبيعة. ان العمل والفكر والفن كلها مميزات ضرورية وحاسمة ملازمة لحياة الانسان، وبغيرها لايكون الانسان انسانا.
تكمن اهمية الفن في عالمنا المعاصر، رغم ان هنالك مفهوم بالتاريخ يخبرنا ان الفن وجد قبل الفكر او اللغة، وذلك لانه كان اداة للتعبير كما هي الادوات الاخرى التي طورت الوعي. فاينما تجد شيء ما جميل كوخ او فأس او سكين حجري تقول هنا كان يوجد عقل. والرقص كان سببه حاجة الانسان لصيد طريدة ما يراقصها لينقض عليها ويحصل على غذائه. واغلب النقوش والرسومات تشير الى حضارة جماعة بشرية لتخبرنا كيف كان يفكرون ويعيشون. فالفن هو وسيلة واعية ومدركة وعين للمجتمع. وقد مر الفن بادلجة تاريخية وتوظيف من قبل القوى والطبقات المسيطرة لتجعل من الواقع حالة سحرية او خرافية او تحلق به رومانسيا بعيدا عن الارض. ان الجمهور والناس الذي يشاهد مسرحية او يسمع شعرا او تجد ذاتها بلوحة ما، هو تعبير عن حاجة الانسان لصفة وسمة اعلى من ذاته, لان الانسان يريد ان يضع العالم بكفه.
ان القوالب الذاتية والحسية للفرد هي تعبير عن تصور الفرد للعالم ومحاولة لجلب اهتمام الناس به، وهو ايضا تعويض معنوي لما فقده بالحياة وشعوره بالانتقام والتخلص من عقدة النقص والتفوق التي تنمو لاسباب اجتماعية واقتصادية سياسية لتنعكس بعمق روحه ومخيلته، للهروب من الجهل او الخوف ويبرر كل هذا الوهم ليصبح عقيدة عبر المجرى التاريخي حتى يكون مقدسا لايمسه النقد.
ان تصوير العمل الفني عبر عناصره يتطلب من الناحية الفنية الواقعية رسم علاقات الناس وتعاطفها وتناقضها لمرحلة معينة من تاريخ شعب عبر الملحمة او الأسى والظلم الذي يتعرض له الشعب. ومن هنا يكون دور الفنان والمثقف كممثل لطبقة او لشعب للتعبير عن روح المجتمع الذي تفسخ بفعل الحرب او الاستبداد والاستغلال. فنذير العاصفة مثلا يتميز بوحدة الهجاء والانفعالية الثورية الرومنطيقية التي تؤدي الجو المترقب للعاصفة عشية ثورة 1905. وقد كشف لينين في مقاله قبل العاصفة واستخدم "نذير العاصفة" وسيلة لتربية الجماهير تربية ثورية حيث قال نحن نقف الان على عتبات نضال عظيم... وهذا يدل على ان التقويم الانفعالي الصوري للحياة في الاعمال الفنية هو انعكاس للواقع الاجتماعي التاريخي.
ان تحول الشخصيات الزمني بالعمل الفني والروائي هو يعكس التغيير للعنصر الذي يتحول من حالة العبودية والاذلال والذهاب الى الشاطيء الى حالة النضال من اجل الشعب وقضية ما. مثلا في رواية الام لغوركي كيف تصبح الام مساهمة وقائدة مع الشباب المتحمس للتغيير والثائر بعد ان كانت عرضة للأهانة والتهميش والأنكسار. ان هذا التحول بأي عمل فني يعكس تطور الشخصية بفعل الواقع المتصدى له تاريخيا حيث ينتج ابطال مستقبليين. فالواقع هنا هو المستقبل الذي يفتح الفنان نوافذه بصورة واضحة غير مشوشة ومترددة. ان كثيرا من الوقائع الحياتية اليومية تمر امام اعيننا كانها طبيعية. ولكن عندما يصورها فنان ما بعمل فني ما... سواء كان لوحة او قطعة ادبية او مشهد مسرحي تعبيري او صوري، نتفاعل معها وكاننا هناك بداخل هذا العمل الفني وترانا نجلس بقاعة مظلمة نتطلع الى الشخصيات الفنية من بعد كمشهد حياتي يضيف لوعينا ويصحح ذاكرتنا وينضجها، لتفهم مجريات الحياة تفهما اعمق وتكون احيانا اساسا لتعميمات اجتماعية كبيرة. وكثيرا منا من يقرء رواية او يشاهد مسرحية ليتغير تفكيره تغييرا كليا تجاه نظرته التقليدية للحياة التي كانت سائدة عبر التقاليد والتكرار والتخريف والتخويف. حيث تتوقد شرارة واعية هي منطلق لوعي جديد بفكر جديد يساهم بالتغيير والتطور. يقول برخت الفنان والتربوي "ان الفن يحرر نفس الانسان: وان مسرحنا يجب ان ينمي لدى الناس متعة الفهم والادراك، ويجب ان يدربهم على الاغتباط بتغيير الواقع. لايكفي ان يسمع متفرجونا كيف تحرر بروميثيوس, بل يجب ايضا ان يتدربوا على تحريره والاغتباط بهذا التحرير. يجب ان نعلمهم في مسرحنا كيف يشعرون بكل الفرح والرضا اللتين يشعر بهما المكتشف والمخترع، وبكل النصر الذي يستشعره الفائز على الطغيان".
يجب ان تطهر فكرنا مشاعرنا الانانية التي انتجها النظام الربحي الراسمالي والفردانية وعملقتها واللامبالاة تجاه الاخريين. وتكون الادوات والسلع والتراكم هي الغاية وليس بناء الانسان الاجتماعي.
ان وجود الانسان هو سلطته على الطبيعة ولكن بالتاريخ تسلط على اخيه الانسان وبدل ان يكون الانسان اخو الانسان بات الانسان اسيرا لاطماعه وثروته وتابع للأداوت وليس لسيطرته عليها لتوضيف الطبيعة والاكتشافات لخدمة رفاهه. ومن هنا انقسم الفن وتنوع تبعا للصراع السائد بين البرجوازية وسائر المضطهدين. وانتج تيارات للتعبير والتهكم والسخرية من الحياة بادارة الراسمالية وحروبها وانهيار الروح البشرية وخلق اليأس والعدمية والاستسلام. كل الفلسفات هي تصب لمصلحة طبقة وسلطة ضد اخرى. وبات الفن من البنى الفوقية وعقيدة تبث روح الطبقات المسيطرة والمتصارعة وكان الفن احدى اداوتها ووسائلها للتضليل والتنويم والاتكال. وخلق وهم واحلام خارج الواقع كي يعيشها جمهور الفقراء والحفاة منها الذاتية والتخيل والتامل خارج الواقع والرومانسية او المستقبلية واللامعقول والعبثية والسريالية، التي تنمي الذات الانا وتغلبها عى روح التنظيم الجماهيري وبث روح الحياة وتلاحم البشر. باتو وبمساعدة هذه الفنون ان لايواجهوا بل يتكلون على قواهم مواهبهم الذاتية وكل شيء ينبع من الفرد ونشاطه وليس هنالك صراع طبقي يجب ان نخوضه معا ولذاتنا، بل كل بمعزل عن الاخر ونتصارع في سبيل تحقيق سعادتنا الفردية على حساب اي شخص وتعميق اللامبالاة ودور الفرد والبطل بالتغيير. وكذلك تنشيط الخرافة والسحر وسلب امال الجماهير وتركها لرحمة الاقوياء والتكنلوجيا.
ان الجيش المنتصر هو ذلك الجيش الذي لايؤمن بالهزيمة. هكذا قال ادلر العالم السايكلوجي ليؤكد ان العزيمة والتعاون البشري والتنظيم في سبيل اي قضية تحرر او خلاص من اسر واستغلال، هي ممكنة عبر الارادة الجماهيرية والابمان بالتغيير والكشف عن عوالم جديدة يخلقها الانسان نفسه عبر العمل والتضامن. وكل هذا هو احدى مهمات الفن الثوري الذي يلهب الجماهير ويحرض بأن الانسان هو طاقة وارادة لاتموت، كلما كانوا معا ويقررون معا ويرسمون مستقبلهم معا. وهذا يتطلب وعي واكتشاف فنون تدفع بهذا الضياء والأمال الكبيرة والطاقات الجبارة للأنسان وكل كيانه وأدواته ويده ودماغه وسحره وهيمنته على الطبيعة عبر التخطيط المسبق والتفكير وتوزيع المهام بين افراد المجتمع.
لقد انبثق مسرح الحفاة من هذا الفهم لدور الفن وخاصة بسبب الاحتقان السياسي وعودة التاريخ نفسه عبر الاحتلال والتشويش والتحميق وسلب ارادة الانسان وقهر العلم واشاعة الخرافة. ليتصدى بمسرحه لنقد كل تلك الاشكال والمظاهر السياسية بجرأة وثقة ليبث روح الحق والعدل والنقد لدى الجمهور، وتحويل الافكار الى قوة مادية والحث على ممارسة الجماهير لوضعها الحياتي السياسي الاقتصادي ورسم مستقبلهم بارادتهم، والمساهمة بالبناء دون الاتكال والانتظار.
ان مسرحية الاسلحة والاطفال لمسرحة شعر الجواهري والسياب هي تذكير بان التاريخ الفاشي يعيد نفسه بشكل جديد وبنفس المضمون، انه تجهيل المجتمع ومصادرة واهانة العلم والابقاء على الفساد والفاسدين ووضع الجهلاء عبر الاستزلام والمحفليات والعلاقات الاثنية وسيطرة العوائل ورفع من شان الدين والخرافة ضد العلم والثقافة. وهي دعوة ايضا للعودة للنضال والثقافة والوعي والتحرر والكف عن التجهيل واغتيال العلم والعلماء، كما حدث للعالم الفاضل والفيزيائي عبد الجبار عبد الله في عام 1963ومازال التاريخ يعيد نفسه، حيث يتصدر للواقع العراقي شلة فاسدين ومتملقيين وتبعية وسطحيين للسياسة والثقافة والتربية والتعليم. ان تحويل السياسيين الى اسطورة، ورجال الدين وعملقة النصر القومي والطائفي من خلال الفن والمسرح هو الابقاء على العقائدية اللاعلمية والتي تستغل عواطف الجماهير الدينية واستغلال انفعالاتهم تجاه الظلم السائد. وهكذا تدوير البؤس من خلال السحرية الذهنية والعاطفة والغاء العقل النقدي او بنائه.
ان مسرح الحفاة يؤمن بالتعاون وبث النقد وماهية الانسان الكلي التام وحقيقته وواقع الفرد الحر الذي يعي علاقاته ااجتماعية ويعيش في مجتمع حر ملء الحرية.