تحت رايةٍ زائفة - لينين (2)


أحمد البلتاجي
2018 / 12 / 27 - 21:23     

الجزء الأول:http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=621921
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

2

عَنونَ بوتريسوف مقالته "في مرحلة حاسمة بين عهدين". إننا بالفعل نعيش مرحلةً حاسمةً بين عهدين، والأحداثُ التاريخية التي تلوح أمام أعيننا لا يمكن فَهمُها إلا إذا قمنا أولاً، بتحليل الظروف الموضوعية للانتقال من عهدٍ إلى آخر. إننا هنا أمام عهدين تاريخيين مهمين، في كلٍ منهما توجد وستظل موجودةً حركاتٌ فردية وجزئية، تارةً للأمام وتارةً للخلف، توجد -وسيكون هنالك دومًا- انحرافاتٌ عدّة عن النمط الاعتيادي والإيقاع الرئيسي للحركة. لا يمكننا معرفة السرعة ومدى النجاح الذي ستتطور به الحركات التاريخية المختلفة في عهدٍ معين، لكن بإمكاننا أن نعلم -وإننا نعلمُ بالفعل- أيَّ طبقةٍ تقف على قمة عهدٍ ما أو آخر، محددين مضمونها الرئيسي، الاتجاه الرئيسي لتطورها، الخصائص الرئيسية للوضع التاريخي في هذا العهد، إلخ. فقط على هذا الأساس، أي بالأخذ في المقام الأول بالملامح الأساسية المميِّزة لمختلف "العهود" (وليس بالمراحل في تاريخ البلدان المنفردة)، يمكننا أن نطور تكتيكاتنا بدقة. وحدها معرفةُ الملامحِ الرئيسية لعهدٍ بإمكانها أن تشكِّل الأساس لفهم الملامح الخاصة ببلدٍ أو بآخر.

إلى هذا تعود كلٌ من سفسطةُ بوتريسوف وكاوتسكي الأساسية، وخطأهما التاريخيُّ الرئيسي (نُشر مقال كاوتسكي في العدد ذاته من "قضيتنا"Nashe Dyelo)، خطأٌ أوصلهما إلى استنتاجاتٍ ليبرالية-قومية، لا ماركسية.

المشكلةُ أنّ الواقعةَ التي اختارها بوتريسوف، والتي مثّلت "أهميةً خاصةً" له، واقعةُ الحملةِ الإيطالية في 1859 ]الحرب الإيطالية الثانية/الحرب الفرنسية النمساوية-المترجم[، كما هو الحال مع عددٍ من الوقائع التاريخية المشابهة التي سرَدَها كاوتسكي،« بما لا يتعلق بتلك العهود التاريخية»، «عند المرحلة الحاسمة» التي نعيشها. دعونا نطلقُ على العهد الذي ندخله (أو دخلناه، والذي هو في مرحلته المبكرة) العهدَ الراهن (أو الثالث). لنطلقَ على ذاك الذي خرجنا منه عهدَ الأمس (أو الثاني). في هذه الحالةِ سيكون علينا أن نطلقَ على العهد الذي يقتبس منه بوتريسوف وكاوتسكي أمثلتهما، عهدَ أمسِ الأوّل (أو الأول). سفسطائيةُ كلٍّ من بوتريسوف وكاوتسكي المقززة، والبطلانَ غيرَ المحتمَلِ لبراهينِهما، تكمنُ في استبدالهما بظروفِ العهدِ الراهن (أو الثالث) ظروفَ عهدِ أمسِ الأوّل (أو الأول).

سأحاول شرحَ ما أعنيه.

التقسيمُ المُعتادُ إلى عهودٍ تاريخيةٍ، الواردُ بكثرةٍ في الأدبيات الماركسية ومذكورٌ مراتٍ عدة عند كاوتسكي ويعتمده بوتريسوف في مقالته، هو الآتي: (1) 1789-1871، (2) 1871-1914، (3) 1914-...
هنا، بالطبع، كما في كل مناحي الطبيعة والمجتمع، فإنّ خطوطَ التقسيمِ اصطلاحيةٌ ومتغيِّرة، نسبيةُ، وليست مطلقةً. إننا نأخذ أبرزَ الأحداثِ التاريخية اللافتةِ للانتباه بالتقريبِ فقط، كمعالمَ رئيسيةٍ في حركةٍ تاريخيةٍ هامة. العهدُ الأولُ منذ الثورة الفرنسية العظمى حتى الحرب الفرنسية-البروسية هو عهدُ صعودِ البورجوازية، وانتصارُها، عهدُ البورجوازيةِ في نهضتها، عهدُ الحركاتِ البورجوازية-الديموقراطية عمومًا والحركات البورجوازية-الوطنية بالأخصّ. عهدُ الانهيارِ السريع لمؤسسات الإقطاع-الاستبداديّ المندثرة. العهدُ الثاني هو عهدُ الهيمنة الكاملة للبورجوازية وانحلالها، عهدُ الانتقالِ من طابعها التقدميّ إلى رأس المال المالي الرجعيّ، بل شديد الرجعية. هذا عهدٌ تتأهبُّ فيه طبقةٌ جديدةٌ -الديموقراطية الراهنة- وتحشدُ ببطءٍ قواها. العهد الثالث، الذي ابتدأَ للتو، يضع البورجوازية في "الموضعِ" الذي وجد فيه زعماء الإقطاع أنفسهم خلالَ العهدِ الأول. هذا عهدُ الإمبريالية والاضطرابات الإمبريالية، ومعها الاضطراباتُ النابعةُ من طبيعةِ الإمبريالية.

كاوتسكي لاغيرُه، في سلسلةٍ من المقالات وفي كَرّاسِه الطريق إلى السلطة (الصادر في 1909)، هو الذي عرضَ بوضوحٍ تام الملامح الرئيسية للعهد الثالث الذي ابتدأ، وهو الذي لاحظَ الفروقَ الأساسيةَ بين هذا العهدِ والثاني (عهد الأمس)، واعترفَ بالتغيرِ في المهمات العاجلةِ كما في شروطِ وأشكالِ صراعِ الديموقراطية الراهنة، التغيرُ النابع من الظروف التاريخية الموضوعية المُتغيِّرة. اليومَ يُحرقُ كاوتسكي ما قدّسهُ بالأمس؛ تبديلُه لجبهةِ القتال هو أمرٌ مدهشٌ، شائنٌ، وماجنٌ لأقصى حدّ. في المنشورِ المذكور أعلاه، تحدثَ بصراحةٍ عن حربٍ مُقبِلة، وبالتحديد عن الحربِ التي أضحت واقعًا في 1914. حسبنا بسهولةٍ أن نضع جنبًا إلى جنبٍ للمقارنةِ عددًا من مقاطعِ ذاك الكَرّاس ومن كتاباته المعاصرة لنُظهِر بجلاءٍ كيفَ خان كاوتسكي قناعاته وتعهداته الرسمية. بهذا الصددِ فكاوتسكي ليس حالةً فردية (ولا حتى حالةً ألمانية)؛ إنه ممثلٌ نموذجيٌّ لمُجملِ القشرة العليا للديموقراطية الراهنة التي، عند الأزمةِ، فرّت إلى جانب البرجوازية.

تنتمي كل الوقائع التاريخية التي يستحضرها بوتريسوف وكاوتسكي إلى العهد الأول. المضمون الموضوعي الرئيسي لظاهرة زمن الحرب التاريخية، ليس فقط لأعوام 1855، 1859، 1864، 1866، أو 1870، بل وفي 1877 (الحرب الروسية-التركية) وفي 1896-1897 (الحروب بين تركيا واليونان والاضطرابات الأرمينية)، كانت حركاتٍ بورجوازية-قومية أو "ارتجاجاتٍ" في مجتمعٍ برجوازي، يُخلِّص نفسهُ من أيِّ نوعٍ من الإقطاع. حينها لم تكن هناك إمكانيةٌ لفعل مستقل حقيقي من قبل الديموقراطية الراهنة، فعلا من النوع الذي يناسب عهد تقادُم وتحلل البورجوازية، في عددٍ من الدول القياديّة. كانت البورجوازية حينها الطبقةَ المُتسيّدة، حيث كانت آخذةً في النهوض بسبب مشاركتها في هذه الحروب؛ وحدها كان بإمكانها أن تخرج منها بقوةٍ كاسحة ضد المؤسسات الإقطاعية-الاستبدادية. ممثلةً بطبقاتٍ متنوعة من المالكينَ منتجي السلع، هذه البورجوازية كانت تقدميةً بمختلف الدرجات في هذه الدول، حتى أنها كانت أحيانًا ثوريةً (كما كان جزءٌ من الوبرجوازية الإيطالية في 1859). كان الملمح العام لذلك العهد، على أيةِ حال، هو تقدمية البورجوازية، أي صراعها المعلَّق وغير المحسوم ضد الإقطاع. كان من الطبيعي لعناصر الديموقراطية الراهنة، ولماركس كممثلٍ لها، أن يقودهم حينها المبدأ المؤكَّد لدعم البورجوازية التقدمية -أي القادرة على شنّ صراعٍ- ضد الإقطاع، وكان التعامل بالنسبة لهم مع المسألةِ كـ"نجاح أيِّ جانبٍ"، أي أية برجوازية، مرغوبًا أكثر؟. من الطبيعي للغاية أنه ما من سؤالٍ آخر كان يمكن طرحه في تلك اللحظة، عدا التالي: نجاح أيةِ بورجوازية، نجاح أية مجموعةٍ من القوى، فشل أية قوى رجعية (قوى الإقطاع-الاستبداد التي كانت تعيق صعود البرجوازية) سيمنح فسحةً أوسع للديموقراطية المعاصرة؟.

حتى بوتريسوف كان ولايزال عليه الاعتراف، بأن ماركس في "تقييمه" للصراعات العالمية النابعة عن الحركات الوطنية والتحررية للبورجوازية، كانت يوجهه الاهتمام بأنّ أيَّا من هذه الحركات كان نجاحهُ الأكثر قدرةً على المشاركة في "تطوير" حركاتٍ وطنية (مقال بوتريسوف، صـ 74) ، وبالعموم ديموقراطية شعبية. هذا يعني أنه، خلال الصراعات العسكرية الناشئة من صعود البورجوازية للسلطة في مختلف القوميات، كان ماركس -كما في 1848- معنيًّا بالأساس بتوسيع نطاق الحركة الديموقراطية البورجوازية ودفعها إلى نقطةٍ حرجة، عبر مشاركة شرائح أعرض من "العوام" ضمن الجماهير، البورجوازية الصغيرة عمومًا، والفلاحين تحديدًا، وفي النهاية الطبقات الفقيرة ككل. هذا الاعتناء من قبل ماركس بتمديد القاعدة الاجتماعية للحركة وتطورها هو الفارق الأساسي بين تكتيكات ماركس الثابتة في ديموقراطيتها وتكتيكات لاسال المتناقضة، التي انحرفت نحو التحالف مع الليبراليين-القوميين.

الصراعات العالمية في العهد الثالث احتفظت، شكليًّا، بطبيعة الصراعات العالمية في العهد الأول، لكنّ مضمونها الاجتماعي والطبقي تغير جذريًّا. لقد غدا الوضع التاريخي الموضوعي مختلِفًا كليًّا.

الموقع الذي شغله نضال الرأسمال الصاعد، ساعيًا للتحرر القوميّ من الإقطاع، استُحوِذ عليه من قبل الصراع الذي شنّه ضد القوى الجديدة؛ الرأسمال المالي الأكثرُ رجعيةً، صراعُ قوةٍ أُجهدت واستنفذت ذاتها بينما تنحدر إلى التحلل. هيكل دولة البورجوازية-القومية، الذي كان في العهد الأول دعامةً لتطور قوى الإنتاج البشرية التي كانت تحرر نفسها من الإقطاع، أصبح الآن، في العهد الثالث، عائقًا أمام التطور الأبعد لقوى الإنتاج. تحولت البورجوازية من طبقةٍ صاعدةٍ وتقدمية إلى طبقةٍ منحطّة، متفسّخة، ورجعية. طبقةٌ مختلفةٌ تمامًا هي التي تنهض الآن على مقياسٍ تاريخيٍّ واسع.

بوتريسوف وكاوتسكي تخلوا عن موقع تلك الطبقة؛ لقد تقهقروا، مرددين الزعم البورجوازيّ الباطل بأنه في زمننا أيضًا تحدد حركة البورجوازية التقدمية ضد الإقطاع المضمونَ الموضوعيَّ للعملية التاريخية. في الواقع، لا يمكن الحديث عن ديموقراطية راهنة تجيء في إثر البورجوازية الإمبريالية الرجعية، أيًا كان "اللون" الذي يمكن أن تتخذه هذه الديموقراطية.

في العهد الأول، كانت المهمة الموضوعية والتاريخية تتقرر بما ينبغي على البورجوازية التقدمية، في نضالها ضد الممثلين الرئيسيين لللإقطاع المُحتضِر، من "استخدامٍ" للصراعات العالمية لجلب أكبر استفادة ممكنة لمجمل الحركة البورجوازية الديموقراطية في العالم. في العهد الأول، منذ نصف قرنٍ مضى، كان من الطبيعيّ والمحتّم للبورجوازية، المستعبَدة بواسطة الإقطاع، أن تتمنى هزيمةَ المُضطهِد الإقطاعي "خاصتَها"، ذلك وأنّ معاقل الإقطاع الرئيسية والمركزية ذات الثقل الأوروبي لم تكن بتلك الكثرة حينها. هكذا قام ماركس بـ"تقييم" الصراعات: لقد حدد بدقة في أيّ بلدٍ، في أيّ وضعٍ محدَدٍ وملموس، كان نجاح حركة التحرر البورجوازيّ هو الأهم فيما يخص تقويض معاقل الإقطاع الأوروبيّ.

اليوم، في العهد الثالث، لم تتبقى قلاعٌ للإقطاع ذو الثقل الأوروبيّ. بالتأكيد، إنها مهمة الديموقراطية الراهنة أن "تستعمل" الصراعات، لكنّ هذا الاستعمال العالمي -على خلاف ما يراه بوتريسوف وكاوتسكي- لا بد وأن يتوجّه، لا ضد رأس المال المالي القومي الفردي، بل ضد رأس المال المالي العالمي. هذا الاستخدام لا ينبغي أن يُنجَز من قبل طبقةٍ كانت في سبيلها للصعود منذ خمسين أو مائة عامٍ خلت. حينها كانت المسألة تتعلق بـ"الدور العالميّ" (بتعبير بوتريسوف) للديموقراطية البورجوازية الأكثر تقدمًا؛ اليومَ طبقةٌ أخرى هي التي يقع على عاتقها مهمةٌ مماثلة صنعها التاريخ ودفعتها للأمام جملةُ العلاقاتِ الموضوعية.