ابن رشد وقضية التنوير


أشرف حسن منصور
2018 / 12 / 23 - 14:29     

انتشرت في الآونة الأخيرة وجهة النظر القائلة إن ابن رشد لا يمكن أن يؤخذ على أنه تنويري وعقلاني بالصورة التي يقدمها الكثير من الرشديين العرب أمثال عاطف العراقي والجابري ومراد وهبة. هذه النظرة لحدود التنوير والعقلانية الرشدية ليست جديدة، إذ أن كبار المتخصصين العرب في فكر ابن رشد قد سبق لهم أن قدموا هذه النظرة، أمثال محمد المصباحي، وقد سبق لعدد من الباحثين المصريين أن قدمها مثل نصر أبو زيد وعلي مبروك، وأخيرا مدحت صفوت. هذه النظرة جديرة بالاعتبار، لأن ابن رشد بالفعل يعمل على إقامة حدود فاصلة حاسمة بين العامة والخاصة ويقصر الفلسفة على الخاصة، ويعزل العامة تماماً عن الاطلاع على علوم الحكمة، وذلك بسبب أن هذه العلوم يستتبعها تأويل عقلي للنص الديني لا تقدر العامة على استيعابه، وكان ابن رشد دائم التحذير من التصريح بالتأويل للعامة. لكن لي رأي في هذه المسألة. كل من حاول الإقلال من أهمية ابن رشد بالنسبة لقضايا التنوير والعقلانية اعتمد في رأيه هذا على كتابين لابن رشد وهما "فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال" و"الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة". هذان الكتابان لا يكشفان عن حقيق فلسفة ابن رشد ولا يحتويان على أفكاره التي يمكن أن تؤخذ على أنها تنويرية وعقلانية، لأنهما موجهان للجمهور وللفقهاء. أما فكر ابن رشد الحقيقي فيمكن تلمسه في "تهافت التهافت" وفي رسائله الفلسفية وفي شروحه على أرسطو. لقد كانت الفلسفة في عصر ابن رشد تواجه التكفير وكانت كتب الفلاسفة تحرق وكانوا يعانون من الاضطهاد والتكفير، وفي ظل هذه الظروف لجأ ابن رشد إلى إخفاء أفكاره الفلسفية في كتب البرهان غير المتاحة للجمهور نظراً لصعوبتها وتخصصها، وفي الوقت نفسه حاول تقديم فتوى في المشروعية الدينية للاشتغال بالفلسفة في "فصل المقال" الموجه للفقهاء أساساً. إنه أراد حماية الفلسفة والفيلسوف في ديار الإسلام، فقام بفصل القوات وبحماية الفيلسوف من العامة الذين تسيطر عليهم الكراهية للفلسفة والفلاسفة. إذا أردنا إحياء فكر ابن رشد والاستفادة منه في الدفاع عن قضايا العقل والتنوير فيجب علينا تجاوز القيود والحدود التي أقامها أمام العامة لمنعهم من الاطلاع على التأويل العقلي للنص الديني، والانفتاح على مضمون فكره، لكن الخطأ هو أن نضحي بفلسفة ابن رشد كلها بحجة تلك الحدود والقيود التي أراد أن يحمي بها الفيلسوف من تعصب العامة وفقهاء العامة وتكفيرهم للفلاسفة. الهدف هو نقل المعرفة الخاصة التي قصرها ابن رشد على الفلاسفة إلى العامة أو الجمهور، أي إلى المجال العام. لكن السؤال هنا هو: هل المجال العام العربي الإسلامي الحالي مستعد لتقبل التأويل العقلي للنص الديني؟ أم أن سيطرة التيارات الدينية السلفية على هذا المجال العام وتوجيهها للعقل الجمعي سوف يقف عقبة في طريق تنوير المفكرين للجمهور؟ وهل يأمن الفيلسوف حالياً من التهديدات ودعوات التكفير؟ وهل ستكف التيارات الدينية عن الوصاية على عقل الأمة لتتاح للفيلسوف مهمة تنوير الجمهور؟ هذه هي قضية الحرية وسقف الحرية. يجب على المفكرين أن يتمتعوا بالأمان والحماية والحرية كي يستطيعوا تنوير الجمهور.