الرمال المتحركة من أفغانستان إلى السودان


طارق المهدوي
2018 / 12 / 22 - 02:15     

1- في إبريل سنة 1978 تسلم الحزب الشيوعي الأفغاني حكم بلاده بعد انقلاب ناجح على نظام محمد داوود خان الفاسد المستبد التابع للأطالسة برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية والمتداخل مع الحكومات والجماعات الإسلامية في السعودية وباكستان ومصر والسودان وغيرها، وبعد فشل عدة محاولات انقلابية دبرتها الإدارة الأمريكية ضد الحكم الأفغاني الشيوعي الجديد شكلت واشنطون في يونيو سنة 1979 التحالف العالمي لمكافحة الشيوعية برئاستها، مع عضوية واسعة ضمت فيمن ضمتهم بريطانيا والصين وعدد من الحكومات والجماعات الإسلامية في السعودية وباكستان ومصر والسودان وغيرها، فاستنجد الحكم الأفغاني الشيوعي الجديد بحليفه الاتحاد السوفيتي الرئيس الرسمي للحركة الشيوعية الرسمية على امتداد العالم والذي سارع في ديسمبر سنة 1979 بإرسال جيشه لحماية حلفائه الأفغان.
2- استمرت الحرب بين الجانبين حتى اعترف الاتحاد السوفيتي بهزيمته أمام التحالف العالمي لمكافحة الشيوعية وبدأ الجيش السوفيتي في مايو سنة 1988 ينسحب من أفغانستان بالتدريج حتى أكمل انسحابه نهائياً في فبراير سنة 1989، تاركاً التمكين الميداني المحلي للتحالف العالمي الذي أطاح بحكم الحزب الشيوعي الأفغاني في إبريل سنة 1992 لصالح توابعه الإسلاميين الأفغان، بعد أن كانت مصر قد أسهمت في التحالف بمئات الآلاف من الإسلاميين السياسيين والدعويين والجهاديين تحت القيادة الميدانية للإخوان المسلمين إلى جانب مساهمتها بسلاح الدولة والإعلام الموجه من قبل الدولة.
3- عمل الإسلاميون الأعضاء داخل التحالف العالمي لمكافحة الشيوعية ميدانياً ضد الشيوعيين الأفغان والسوفييت جنباً إلى جنب مع حكام الدول الإسلامية الذين يسعى الإسلاميون لتنحيتهم والحلول محلهم، دون أن يتوقف الإسلاميون عن محاولات إقناع الأطالسة رؤساء التحالف العالمي وأسياد الطرفين بأنهم الأجدر بحكم بلدانهم وهي المحاولات التي زادت عقب الانسحاب السوفيتي من أفغانستان باعتبار أنهم يستحقون مكافأة على عملهم داخل التحالف، ورغم أن الإسلاميين كانوا آنذاك يطلبون حكم مصر والجزائر فقد أقنعهم الأطالسة أن يقبلوا مؤقتاً بحكم السودان إلى جانب أفغانستان مع إمكانية إعادة النظر في طلبهم الأصلي مجدداً على ضوء حسن إدراتهم لهذين البلدين بالنظر إلى مدى وكيفية مراعاة مصالح الأطالسة هناك.
4- في يناير سنة 1977 كانت بداية علاقاتي التنظيمية الرسمية داخل صفوف الحركة الشيوعية المصرية حيث توليتُ عدة مسؤوليات كان بعضها يختص بالإعلام وبعضها الآخر يختص بالعلاقات الخارجية في التنظيمات الشيوعية الأربعة الكبرى 8 يناير والعمال والانتصار والتجمع تباعاً، حتى استقلتُ منها جميعاً باستقالة منشورة في فبراير سنة 1989 ضمن دراسة لي معنونة "أزمة الحركة الشيوعية المصرية المعاصرة" نشرها نائب وزير الثقافة ونائب رئيس حزب التجمع آنذاك محمد أحمد خلف الله على صفحات مجلته "اليقظة العربية"، في نفس الوقت الذي كانت بعض مسؤولياتي المهنية تختص بعملي في إعلام الدولة الموجه تحت قيادة وزير الإعلام الداهية وضابط المخابرات السابق صفوت الشريف، الذي حاول الاستفادة من أزمتي مع الحركة الشيوعية بتعييني رئيس القسم السياسي للإذاعة المصرية الموجهة باللغة البشتونية إلى أفغانستان وهي الإذاعة التي كانت ذات صلة مباشرة بالتحالف العالمي لمكافحة الشيوعية، حيث استمر تعييني في هذا الموقع منذ فبراير سنة 1989 حتى سقوط الحكم الأفغاني الشيوعي في إبريل سنة 1992 قبيل توجهي إلى السودان كمستشار إعلامي لمصر مقيم هناك.
5- نظراً لأنني كنت في دراستي المنشورة بمجلة اليقظة العربية قد دعوتُ الرفاق الشيوعيين العرب إلى الإفادة بتجاربهم في التعامل مع الأزمات الشبيهة كنوع من المساعدة على انتشال الحركة الشيوعية المصرية من أزمتها فقد تجاوب بعضهم مع دعوتي، حيث تولى رئيس تحرير المجلة محمد أحمد خلف الله تنظيم اللقاءات مع الشيوعيين العرب المتجاوبين في محل جروبي الكائن بميدان طلعت حرب في حي قصر النيل القاهري فالتقينا مع بعض الرفاق العراقيين والمغاربة واللبنانيين، ثم كان موعد لقائنا مع الرفاق السودانيين صباح يوم الجمعة الموافق 30/6/1989 وهو نفس اليوم الذي كان العقيد السوداني عمر حسن أحمد البشير قائد اللواء الثامن مشاة قد نفذ في فجره انقلاباً عسكرياً أطاح برئيس الجمهورية ورئيس الحزب الاتحادي أحمد الميرغني وبرئيس الوزراء ورئيس حزب الأمة الصادق المهدي.
6- لم يكن عمر البشير سوى قائد الجناح العسكري لجماعة الإخوان المسلمين السودانية التي كان يرأسها آنذاك حسن الترابي وزير خارجية الحكومة المنقلب عليها والنائب العام السابق والذي وجه البشير نحو انقلابه، كما وجهه أيضاً نحو مناورة خبيثة هادفة إلى كسب الدعم العالمي تمثلت في قيام البشير باعتقال رئيسه الترابي نفسه لإظهار إنه لا ينتمي إلى الإخوان المسلمين، وهو ما التقطته مجموعات المحطات الاستخباراتية المصرية العاملة هناك والراغبة في تسوية فواتير مالية لمصروفات بمبالغ طائلة عن السنوات السابقة فادعت أن تلك المصروفات هي التي أسفرت عن هذا الانقلاب الذي لابد أن يكون موالياً لمصر، وهكذا تلقى الرئيس المصري حسني مبارك عدة تقارير معلوماتية غير صحيحة تفيده بموالاة انقلاب عمر البشير لمصر.
7- إلى جانب معلوماتي السابقة المستمدة من داخل التحالف العالمي لمكافحة الشيوعية خلال عملي كرئيس القسم السياسي في الإذاعة الموجهة باللغة البشتونية إلى أفغانستان، فقد قدم الرفاق الشيوعيون السودانيون خلال لقائي معهم بحضور خلف الله في محل جروبي تحليل طبيعة مرحلة محكم ومختصر يؤكد حقيقة أن البشير ما هو إلا قائد الجناح العسكري للإخوان المسلمين السودانيين وطلبوا توصيل هذه الحقيقة إلى القيادة المصرية العليا، وعدتُهم بتنفيذ طلبهم وانسحبتُ من اللقاء متجهاً لضاحية المهندسين القاهرية حيث منزل ممدوح البلتاجي رئيس هيئة الاستعلامات في رئاسة الجمهورية المصرية والمتحدث الإعلامي باسم الرئيس مبارك آنذاك وسلمتُه تقرير مقابلة يتضمن الحقيقة التي طلب الشيوعيون السودانيون رفعها، اتصل البلتاجي أمامي بوزير الإعلام صفوت الشريف ثم بالرئيس مبارك حيث قرأ لهما تقريري حرفياً دون تعليق منه، ورغم أن الشريف الذي كان يعرفني شخصياً صدقني فإن مبارك قال إنه لا يستطيع تجاهل المعلومات الواردة من كل مجموعات المحطات الاستخباراتية لتصديق معلومة واردة من جروبي، وعلمتُ لاحقاً أنه سأل رؤساء الأجهزة الاستخباراتية عما جاء في تقريري الذي رفعه له البلتاجي فور انتهاء مكالمته معه فاستخفوا به قائلين إنني كشيوعي أتبنى وجهة نظر الشيوعيين السودانيين المعادين لمصر.
8- على ضوء التقارير المعلوماتية غير الصحيحة أعلن مبارك تأييده لنظام الحكم الانقلابي السوداني الجديد كما استمر يدعمه ويروج له وسط اصدقائه الإقليميين والعالميين حتى وقعت اشتباكات حدودية بين الجيشين المصري والسوداني أسفرت عن قتلى وجرحى، على خلفية بيع الحكومة السودانية حق التنقيب عن النفط في المياه الإقليمية لمثلث حلايب المتنازع عليه إلى شركة كندية في بداية سنة 1992، هنا فقط صدقني مبارك فأقال رؤساء أجهزته الاستخباراتية ومساعديهم المسؤولين عن الشأن السوداني وقام بتعييني كمستشار إعلامي لمصر مقيم في السودان ومسؤول عن ملف المعلومات الميدانية السودانية، تحت متابعة قاهرية من صفوت الشريف الذي ينوب عنه عند الضرورة ممدوح البلتاجي ومن عمر سليمان الذي ينوب عنه عند الضرورة محسن النعماني، وهي المسؤولية التي جلبت لي عداوات محلية وإقليمية وعالمية لا طاقة لي بها لاسيما أنها حتى اليوم ورغم مرور ثلاثة عقود زمنية لم تتوقف بل مازالت تجذبني نحو الأسفل كالرمال المتحركة!!.