الإمبريالية تضعف الإستراتيجية الأمريكية


المنصور جعفر
2018 / 12 / 21 - 16:05     

نوعاً ما تسمح التناقضات داخل الإدارة الأميركية بتطور تغييرات الشرق الأوسط الكبير والسودان، فبعد فترة سنتين أو مئتي سنة من التباين الأميركي في تقديرات وأعمال إدارات "المخابرات" ووزارات "المالية" و"التجارة" و"الخارجية" و"الدفاع"، ولدت أزمة الإستراتيجية الأميركية الامبريالية ونظامها الليبرالي في العالم، إنهياراً داخلياً أميركياً جديداً، وذلك باعلان الرئاسة الأميركية إستقالة الجنرال جون ماطيس وزير الدفاع الأميركي (ستنفذ في فبراير) وفي ذات الوقت يتوقع كثيرون أن يذهب الرئيس الإسلامي السوداني إلى مزبلة التاريخ بعد ثلاثون سنة من قيادة التحكم الرأسمالي في معيشة السودان قضاها في الخراب والفساد بإسم المشروع الحضاري الإسلامي الذي نظر معالمه الهلامية د. حسن عبدالله الترابي (ت 2016) إمام الحركة الإسلامية في السودان، وهي حركة تعد من أقوى حلفاء أميركا والغرب (الصليبي والصهيوني) ضد كل معالم الإشتراكية والنقابية والشيوعية في السودان منذ سنة 1954 إلى هذه الأيام رغم كل الإذلال الأميركي لها.



جاءت هذه الاستقالة بعد إستقالة عشرات من كبار المسؤولين في مجالات الرئاسة، الأمن، العدل، المالية، الخارجية، المخابرات، التجارة، والداخلية، .. إلخ، حيث أعلنت الرئاسة الأميركية رسمياً إستقالة وزير الدفاع الأميركي الجنرال ماطيس وذكرت الآراء في وسائل الإعلام ان الاستقالة كانت نتيجة تراكم الخلافات مع الرئيس ووزير الخارجية ومديرة المخابرات حول كل شيء تقريباً. ويشير هذا الإختلاف بين كبراء الإستراتيجية إلى أنهم بلا إستراتيجية وان أهداف الكونجرس وترتيباته الإستراتيجية المزعومة ليست متناسقة بين المجالات بل متنافرة حتى داخل المجال أو الموضوع الواحد ! كذلك مثلما أدت الأثار غير المباشرة للتوجيه الرأسمالي العالمي لإقتصادات الدول الضعيفة الحجم إلى إنتفاضات أسقطت الحكام المعادين للشيوعية، فإن مدن السودان قد بدأت إنتفاضة في هذا الشهر ديسمبر 2018 تجعل مصير الحكم الإسلامي المتذلل لأمريكا وروسيا في مهب الريح.


بعض تناقضات نشاط الاستراتيحية/السياسة الأميركية في السودان والعالم:
1- خلال العهود الأميركية والسودانية المختلفة الرؤساء، تحقق دعم أميركي لديكتاتوريات السودان العسكرية في الخمسينيات إبان حكم الإميرآلاي إبراهيم عبود، وفي السبعينيات ونصف الثمانينيات أيام المشير جعفر نميري، وخليفته المشير عبدالرحمن سوارالدهب، الذي سلم سلطة الحكم للإسلاميين والطائفيين بإنتخابات معطونة. كذلك قدمت أميركا في التسعينيات والألفينات دعوماً أقل لحكم المشير الإسلامي عمر البشير.

2- أما ديكتاتوريات السودان المدنية ذات الزعامة الطائفية بين آل المهدي وآل الميرغني فقد دعمتها أميركا في الخمسينيات وفي الستينيات وفي الثمانينيات بالأموال وبالمعونات وصمت الإعلام الإمبريالي عن جرائمها .

3- رغم تنافر شكل الرئاستين العسكري والمدني إلا أنها كلها كواجهات عسكرية الرئاسة أو وأجهات مدنية الرئاسة كانتا مجرد غطاء لديكتاتورية السوق وتحكمه في معيشة الناس، وشبه لهذا حدث من سياسة أميركا في باكستان، لكن التناقض الأكبر ان هذا الإسناد الأميركي زامنه أو تلاه نوع من الصخب أو العويل الأميركي على حقوق الانسان، يختلف عن موقف أميركا إزاء فيتنام.

4- التناقض بين قيام أميركا بممارسة خنق اقتصادي وسياسي وإعلامي على دول العالم في نفس الآن الذي تدعو فيه تلك الدول إلى تبني قيم الحرية والانفتاح ! تقصد بهما الخضوع والتبعية.

5- منذ تسعينيات القرن الماضي بلغت التناقضات الإستراتيجية الأميركية حالة في باكستان والسودان واليمن زدول أخرى سمتها اميركا "الشراكة الإستراتيجية في الحرب على الإرهاب" وفي نفس الآن اتهمت أمريكا الدول الثلاث الشريكة لها بـدعم "الإرهاب"!

6- بتناغم أميركي فرض صندوق النقد الدولي على السودان سياسة "تركيز الموارد"، و "خفض الصرف على مشروعات الحكومة" (=التنمية)، و"خفض الإنفاق الحكومي على التعليم، العلاج"، وبعد كل هذا التركيز الذي قادته أميركا على السودان أتي الأسف من الجهة الأميركية رافضاً "التهميش"، و"إحتكار الموارد" !


إختلاف تكوين ومهمة ومصالح المسؤولين يهدم الإستراتيجية:
هذا الوضع المتناقض إزاء السودان أو مع بعض دول العالم الثالث يُقرأ مع التخبط الملحوظ للقرارات الأميركية في العالم والشرق الأوسط ويدل بصورة نسبية إلى إختلافات وشكوك وتناقضات بين بعض أفراد فئات العاملين في سفارات أميركا مثل: فئة "القائم بالأعمال" وطاقمه، وفئة "الملحق العسكري" وطاقمه، وفئة "ضباط الإتصال السياسي/المخابرات" وطاقمه، والتباين بينهم، وكذا التباين مع بقية فئات الموظفين في كل بعثة ديبلوماسية أميركية. وحدث ولا حرج عن الخلافات مع "السفير" وطاقمه، ومع "رئيس قسم إسرائيل" وهو قسم متمركز داخل كل سفارة أميركية في كل دولة من دول الشرق الأوسط، وكذا الإختلافات بين ومع المستشارين المحليين، وتضارب آراءهم في كل مسألة تقريباً، إضافة للخلافات مع الفئات المماثلة في بعثات حلف الناتو وأوروبا.


بعض مولدات وأشكال الهدم:
إجمال هذه الاختلافات في تأهيل وخطة ومسؤوليات كل موظف ورؤوساءه ان كل هؤلاء الموظفين ودولتهم الأميركية يعانون من "فوضى في التقييم الأولي"، و"فوضى في التقييم الأخير"، و"فوضى في طبيعة تعامل كل منهم في بلد البعثة مع بعض عناصر الأزمات الداخلية فيها، وكذلك إختلاف درجة تركيز كل منهم على الجزء المالي، أو العسكري/السياسي، أو الشخصي/السياسي"، .. إلخ من عناصر الأزمات، خاصة مع اختلاف أوليات كل منهم في العناية ونوع العناية بكل عنصر من هذه العناصر، وكذا تنوع وحتى إختلاف قراءاتهم وإستجاباتهم لنشاط الدول الأخرى المؤثرة في البلد المعني أو المتأثرة به دعك عن مسائل الرشى والإمازات والعلاقات مع كبار رجال الديبلوماسية، والأمن والجاسوسية والمال في أي من البلدين بشفافية أو بمحسوبية، من البلد الباعث أو البلد المبعوث إليه، ومدى ارتباط كل ديبلوماسي أو ملحق أو ضابط برشاو خليجية أو غير خليجية مؤجلة إلى ما بعد نهاية الخدمة.


السبب الرئيس لتناقضات الإستراتيجية الأمريكية وسياساتها:
يرتبط جزء كبير من أزمة الإستراتيجية الامبريالية الأميركية في العالم بطبيعة الهيكل الإداري لهيئاتها ولعموم مؤسسات الدولة الأميركية وما فيه من تناقض بين أوليات مؤسساتها الرأسمالية والتناقضات المحلية والعالمية لقطاعها المصرفي في ذاته الداخلية في أمريكا الضخمة الأقتصاد، أو في تعاملاته الخارجية.

الاستراتيجية الأميركية إستراتيجية ليبرالية قوامها حرية السوق في التحكم في معيشة المجتمعات والدول، وحرية كبراء السوق في التحكم في كل شيء وتتعلق إستراتيجية أميركا الليبرالية بالتحكم في توفر الطاقة في العالم وشراءها بالدولار الأميركي، وإيداع أكثره في البنوك الأميركية لتخدمه في ديون داخلية وأخرى خارجية تزيد بها تحكمها في العالم (بترودولار# ديون). وبهذا البترودولار تتحكم أميركا بشكل غير مباشر فى أسعار النفط، وفي قيمة الدولار، وبالتالي في سعر ومخزون الذهب وفي كمية وسعر كثير من البضائع الأخرى، وهو تشابك يؤثر على تدفقات الأموال وأسعار الفائدة في داخل وخارج أمريكا وغرب أوروبا ومتوالياتها أستراليا وكندا.


النتيجة من جنس العمل:
بهذا التوالي تؤثر هذه التناقضات على أوضاع دول العالم الثالث والصين وروسيا وأوروبا الشرقية والوسطى، بل سمحت بتطور علاقات الصين بصورة تجارية ضخمة مع حوالى 150 دولة! منها أكبر دول شمال غرب أوروبا ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، الحليفة لأميركا منذ الحرب العالمية الثانية، ولشمال غرب أوروبا علاقات كثيرة في العالم ونشاط مع أو ضد روسيا، وبالتالي فإن جهجهة أميركا لها يجهجه طبيعة الإستراتيجية الأميركية العظمى في السيطرة على العالم ويجعل حصار الدول الصغيرة الحجم أضر بأميركا ويعجل بسقوط الأنظمة التي تحكمها أياً كانت خشونة السياسات الأميركية أو نعومتها، ما يجعلها إمبراطورية في حالة تلاشي ويجعل القرى والمدن والدول الصغيرة في حالة نهوض يحقق النصر لإرادة مجتمعاتها ضد الإرادة الإمبريالية الأميركية المتآكلة !



الأزمة والحل:
الواضح على الأزمة في السودان والعالم ان أمورها (خربانة من كبارها)، وان حلها والانتصار عليها معقود بنضال الجماهير ضد كل السياسات التي تكرس الإنقسام الداخلي، وتعزل الناس عن السيطرة على مواردهم ومعيشتهم.