مساهمة في إعادة قراءة ماركس


رضا الظاهر
2018 / 12 / 15 - 06:50     





"رأس المال".. تحليل ونقد الاستغلال



لم تكن العقود الأربعة الماضية، على وجه التحديد، هي المفضلة بالنسبة للمهتمين بأفكار ماركس وتحليلاته السياسية. فالانتصار المزعوم للّيبرالية الجديدة، خصوصاً بعد سقوط جدار برلين ونهاية الحرب الباردة، دفع الى الهامش، وعلى نحو متزايد، الجدالات الأكاديمية، بل والعامة. غير أن هذه الصورة المأساوية تغيرت، جذرياً، ما أن بدأت الأزمة المالية أواخر عام 2007.

واذ تطور الانهيار المالي الى أزمة اقتصادية شاملة، حلّت موجة من الاهتمام بتحليل ماركس للرأسمالية، ذلك أن الناس حاولوا أن يحددوا أسباب الفوضى الراهنة. وكما أشارت صحيفة (التايمز) البريطانية فان "نبي الثوريين، وسوط الرأسمالية، يعود من جديد". وكدليل على عودة ماركس، على نطاق واسع، تزايدت حلقات القراءة فجأة، مثل شقائق النعمان في الربيع، كما تزايد عدد المهتمين بقراءة أعظم ابداعات ماركس، أي (رأس المال).

غير أن قراءة (رأس المال) ليست مشروعاً يسيراً. فبينما قد يجد كثيرون (البيان الشيوعي) كتاباً مكثفاً ومتألقاً، أو ربما يقرأون مقتطفات من كتابات ماركس، فانهم يشعرون، ولأسباب مختلفة، بنوع من الاحباط عند قراءة (رأس المال). فالحجم الكبير للكتاب يمكن، للوهلة الأولى، أن يكون مفزعاً. وفضلاً عن ذلك فان سمات منهج ماركس، اضافة الى الأفكار المسبقة الشخصية، تضيف شيئاً الى صعوبة قراءة (رأس المال). ويأتي، هنا، كتاب الباحث الأمريكي القدير ديفيد هارفي، الموسوم (دليل "رأسمال" ماركس) الصادر عن دار (فيرسو) عام 2010، ليكون مرشداً لمثل هذه القراءة (وهو ما سنتعرض له بالتحليل في الجزء الأخير من مقالنا).



نقد للرأسمالية عميق وراهن

يكشف عالم اليوم عن أن شبح ماركس لايزال يطارد رؤساء العمل، وهم يسعون، عبثاً، الى ايجاد مخرج من المأزق الذي خلقه الركود الكبير عام 2008، والذي كلف ما لا يقل عن 12,8 تريليون دولار في الانتاج الضائع، و10 تريليونات دولار في عمليات الانقاذ الحكومية.

ولا غرابة، بالتالي، أن تضطر مجلة (إيكونوميست) الليبرالية الجديدة الى أن تتفحص نظريات ماركس مرة أخرى. ففي مقالة حملت عنوان (العمل محق: لدى ماركس الكثير ليعلّم سياسيي اليوم). وأشارت المقالة الى تركز الرأسمال في أيادي عدد أقل فأقل من الأشخاص، والهبوط في أجور الشغيلة، وانفجار "الاقتصاد المتفوق" الهش، الذي يتسم بعدم الاستقرار، ويؤدي الى بؤس الملايين، وخصوصاً الشباب.

وهذه الحقائق، التي فسرها ماركس، ليست بعيدة عن حياتنا الراهنة. فالفصل العاشر من (رأس المال)، الذي يعالج يوم العمل، يكشف عن ظروف العمل الصادمة، ويسجل التدهور الذي كان يتعرض له الشغيلة باسم الربح. ويظهر كيف أن الرأسماليين يحاولون اطالة ساعات العمل، أو تشديد الظروف القائمة في مكان العمل، وهم يسعون، نهمين، الى جني مزيد من الأرباح. ويجري، في الوقت ذاته أيضاً، تجاهل سلامة العمال وصحتهم العامة.

وقد نشر (رأس المال) بتسع لغات أثناء حياة ماركس وانجلز. وكانت الترجمة الأولى للأجزاء الثلاثة الى الروسية. وانغمر العمال والمثقفون الشباب التواقون في صفحاته. وقرأه ألكسندر، شقيق لينين الأكبر، بحماس، وأوصى لينين بقراءته. لكن من المثير للأسى أن ألكسندر أعدم لاحقاً، كما هو معروف، لمحاولته اغتيال القيصر في عمل فردي يائس، بينما قام الشقيق الأصغر فلاديمير ايليتش، بقراءته ودراسته، ووضعه موضع التطبيق. وكان للينين أن يصف (رأس المال)، في وقت لاحق، باعتباره "العمل الأعظم في الاقتصاد السياسي".

وقام انجلز بعرض الكتاب عام 1867، وكتب يقول إنه "مادام الرأسماليون والعمال موجودين في العالم، فانه ما من كتاب يتسم بمثل تلك الأهمية للعمال قد ظهر".

وكرس ماركس 40 عاماً من حياته لكتابة (رأس المال). وبعد وفاته عام 1883 أخذ انجلز على عاتقه المهمة الاستثنائية لجمع وفك رموز ملاحظات ماركس غير المكتملة، ونشر الجزء الثاني (تداول رأس المال)، والجزء الثالث (الانتاج الرأسمالي ككل وتناقضاته).

وفي أعمالهما في أربعينات القرن التاسع عشر (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي، مخطوطات 1844 الاقتصادية والفلسفية، العمل المأجور والرأسمال، والبيان الشيوعي) بدأ ماركس وانجلز صياغة الفرضيات الأساسية للتفسير المادي للتاريخ، ونظرية الاشتراكية العلمية الناجمة عن ذلك.

في (رأس المال) اكتشف ماركس القانون الاقتصادي لتطور المجتمع الرأسمالي. وفي الجزء الأول يتعقب تاريخ الصراع الاقتصادي للطبقة العاملة، ويوضح دور تشريعات المصانع في هذا الصراع، ويحلل التطبيق الاقتصادي للمكننة.

ويوضح ماركس كيف أن النقود تتحول الى رأسمال، اذ يراكم الرأسمال فائضاً يستثمر لا لسبب سوى الحصول على فائض أكبر في السلسلة المقبلة من الانتاج.

ويطبق التفسير المادي الديالكتيكي للعملية التاريخية على تحليل التشكيلة الرأسمالية. ويظهر أن الاقتصاد الرأسمالي لا يتطور عبر سلسلة من أفعال التبادل الفردية العشوائية، وانما يجري توجيهه، بدلاً من ذلك، عبر قوانين اقتصادية محددة.

ويبدأ ماركس (رأس المال) بتفحص السلع، التي هي منتجات العمل الانساني التي يجري تبادلها. فالانتاج الرأسمالي هو، قبل كل شيء، خلق السلع وتراكمها الهائل.

ولكل سلعة قيمة استعمالية. وهذا يعني أنها تتسم بفائدة لشخص آخر سيشتريها. والقيمة الاستعمالية محددة بالخصائص المادية للسلعة. ولكن لكل سلعة طبيعة ثنائية، اذا لديها قيمة تبادلية.

وبينما تنتج القيمة الاستعمالية في كل عصر، فان مرحلة الانتاج الرأسمالي الاجتماعي تحولها الى قيمة تبادلية، أي السلع التي تنتج لا للاستهلاك المباشر وانما للبيع. وبالتالي فان للسلعة شخصية مزدوجة.

وعلى الرغم من الفوارق المادية فان السلع في السوق، أياً كان استعمالها، يمكن أن يجري تبادلها بسلع أخرى. ولكن كيف يحدث هذا ؟ وما هي الآلية التي يجري تبادل السلع المختلفة عبرها.

ان ماركس هو الذي رأى أن السلك الناظم العام لكل السلع هو انفاق العمل الانساني في انتاجها، وعلى نحو اكثر دقة شراء الرأسمالي قوة عمل الشغيل.

وفي كل فترة معينة، وعبر استخدام معدل العمل والآلات والطرق، تأخذ كل السلع وقتاً محدداً لانتاجها. وهذا يتحكم به مستوى التقنية في المجتمع. وحسب كلمات ماركس فان جميع السلع لابد أن تنتج في وقت ضروري اجتماعياً.

وبالتالي فان قيمة أية سلعة هي مقدار وقت العمل الضروري اجتماعياً المستخدم في انتاجها. ولا يحدد العرض والطلب، في خاتمة المطاف سعر السلعة. فالسيارة ستكون أغلى من المنضدة بسبب مقدار وقت العمل المصروف على انتاج السلعة. والتعبير النهائي عن هذه القيمة التبادلية هو النقود، أي أن السعر هو التعبير النقدي للقيمة.

وفي بيعهم قوة عملهم يعد الرأسمالي عقداً لدفع أجرة العامل. وأظهر ماركس أن قوة العمل هي، أيضاً، سلعة شأن أية سلعة أخرى، وقيمتها تتحدد بوقت العمل الضروري للانتاج. ولكنها تظل سلعة تتسم بالخصوصية. انها، وحدها، قوة لخلق القيمة، مصدر للقيمة، ومصدر لقيمة أكبر مما تمتلكه هي نفسها.

بالنسبة لنا، كما بالنسبة لماركس، تكشف دراسة الاقتصاد السياسي عن القوى الاقتصادية التي تتحكم بحياتنا، وتظهر تفاعلها مع التطورات الاجتماعية، والتاريخ، والسياسة، والثقافة، والصراع الطبقي.

وفي تقييمه (رأس المال) كتب تروتسكي عام 1940 إنه "اذا ما قدرت النظرية، على نحو صائب، اتجاه التطور، وتنبأت بمستقبل على نحو أفضل من النظريات الأخرى، فانها تبقى النظرية الأكثر تقدماً في عصرنا، حتى وان كان عمرها عشرات السنين".

واليوم اذ تسوء سمعة الرأسمالية على نحو أكبر، حيث تواجه مأزقاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، فان العمال في سائر أنحاء العالم، سيدرسون، مرة أخرى (رأس المال) والأعمال الأخرى للماركسية، ويتذكرون، على الدوام، حكمة ماركس الشهيرة من أن "الفلاسفة فسروا، حتى الآن، العالم بطرق مختلفة، بينما تكمن المهمة في تغييره".



كيف نفهم رأس المال ؟

عندما ينظر المؤرخون الى التأثير الذي مارسه (رأس المال) على أحداث العالم فانهم يميلون الى وضعه في سياق يبدأ بـ (نقد فلسفة الحق عند هيغل – 1843) ويتواصل مع (مخطوطات 1848 الاقتصادية والفلسفية)، (الآيديولوجيا الألمانية – 1846)، (البيان الشيوعي – 1848)، (الغروندريسه – 1857)، (موضوعات عن فويرباخ – 1886)، و(رأس المال - الجزء الأول 1867، والجزءان الثاني والثالث – 1893 – 1894). وما تشترك فيه هذه المؤلفات هو الاعتقاد بأن التاريخ ظاهرة تتحرك الى أمام، حيث تؤدي كل مرحلة، كما هو متوقع، الى الأخرى.

وما كان يميز ماركس عن أسلافه، خصوصاً هيغل، هو كيف ولماذا سيزول النظام الرأسمالي. لقد استخدم هيغل ديالكتيك الأفكار ليتوصل الى موضوعته من أن مستقبل البشرية يكمن في النضوج التدريجي لـ(الروح)، التي ستغرس في الانسان القوة الدافعة للتغيير. وقد اتفق ماركس مع هيغل في ما يتعلق بالحاجة الى قوة دافعة، لكنه اختلف بشأن هذا الدافع. فقد تصور ماركس عالماً من مادية تتطور باستمرار، وترغم الكائنات البشرية على البقاء في صراع أبدي. وكنتيجة لذلك فقد أعلن بجرأة في (البيان الشيوعي) وفي (رأس المال) أنه وجد هيغل واقفاً على رأسه وقرر أن يوقفه على قدميه. ويشكل هذا الفعل أساس الأجزاء الثلاثة لـ(رأس المال)، كما يرى الباحث الأميركي مارتن أسينر.

واذا كان استياء البروليتاريا سيتعاظم، في مرحلة معينة، الى الحد الذي يجعلها تتجه الى الاطاحة بالبنية الراسمالية القائمة، واستبدالها بنظام مجتمع لاطبقي حيث تتحقق المساواة والعدالة للجميع، وهو ما يرتبط بالتحول المديد عبر قرون من الاقطاع الى الرأسمالية الى الاشتراكية، وقد جرى التنبؤ باعتباره تطوراً محتوماً.

فلماذا اذن نهتم بقراءة ماركس الآن، كما يتساءل أسينر، ليجيب أنه بات من الجلي أن كل بلد يسمي نفسه ماركسياً إما أن يكون قد أخفق كما فعل الاتحاد السوفييتي عام 1991، أو يعاني من ضيق اقتصادي حاد كما هو حال كوريا الشمالية وفيتنام وكوبا. والمفتاح هنا هو عبارة "التي تسمي نفسها ماركسية". فما يثير الجدل أنه ما من أحد من تلك البلدان الفاشلة التي تسمي نفسها ماركسية تستند، حقاً، على مبادئ ماركس الأصلية.

ونمتلك اليوم، في الواقع، عالماً يتميز بقيمة العمل مباشرة، من قاطف القطن وهو ينجز عمله مقابل دولار أسبوعياً أو ربما أقل، حتى المدير التنفيذي لشركة كبرى وهو يجني دولاراً مع كل نبضة قلب أو حتى أكثر. ويصعب على عمال العالم أن يحاولوا أن يتوحدوا، ذلك أن الشخص الذي يستخدم المكنسة في مصنع في الولايات المتحدة لايزال يحصل على مبالغ أكبر من الشخص الذي يستخدم المكنسة في مصنع للألبسة في فيتنام.



كم راهن رأس المال اليوم

انه لأمر مدهش أن يبقى (رأس المال) حياً، وتعاد طباعته باستمرار خلال القرن والنصف قرن الماضي. فهذا الكتاب الكبير (ما يزيد على ألفي صفحة في ثلاثة أجزاء)، لا تزال فيه فصول لم تكتمل حتى الآن. وأفكار الكتاب معقدة وليست يسيرة على الفهم، وحتى في أفضل الترجمات تبدو الكتابة مكثفة وصعبة. وفي كل حال يهدف الكتاب الى أن يصف الواقع الاقتصادي والاجتماعي في شمال غرب أوروبا في القرن التاسع عشر، وهو بالتأكيد سياق يختلف عن سياق زماننا.

وهذا كتاب ظل يُعلَن عن موته أو كونه بات مهجوراً في الكثير من المرات، لكنه يستمر، شأن مؤلفه، على العودة، ارتباطاً بآخر انتعاش في الفائدة والمبيعات، وعلى وجه التحديد، بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008.

اذن لماذا ما يزال كثير من الناس في مختلف أنحاء العالم يقرأون (أو يحاولون قراءة) كتاب ماركس (رأس المال) في أيامنا ؟ هكذا تتساءل الباحثة الهندية جاياتي غوش، لتقول إنه من الجلي أن فيه ما هو راهن، أو في الحقيقة إنه ما يزال يقدم اطار عمل مفيداً لفهم السمات الجوهرية للرأسمالية، ولا يهم كيف تختلف تجلياتها المعاصرة.

لنتأمل في طائفة من الأفكار، المسألة الرئيسية بشأن رأس المال: بالنسبة لماركس هو ليس مجرد مصدر بحد ذاته، عامل من عوامل الانتاج مماثل للأرض والعمل، وانما هو تعبير محدد عن العلاقات الاجتماعية للانتاج. ان العلاقة بين رب العمل والعامل هي ما يمكّن الانتاج الرأسمالي من أن يحدث. وهو ما يتطلب من العمال أن يكونوا "أحرارا" بمعنى مزدوج: "أحرار" في أن يبيعوا قوة عملهم الخاص، و"أحرار" من أية ملكية لوسائل الانتاج، بحيث أنه ليس لديهم خيار سوى أن يبيعوا قوة عملهم من أجل بقائهم المادي. وحتى عندما تبدو الأمور أكثر تعقيداً بسبب "سيادة العقود قصيرة الأجل"، واستخدام أنواع أخرى من التعاقدات لصالح رب العمل الرأسمالي، فان هذه العلاقة الاجتماعية الأساسية تبقى حاسمة.

ان تركيز وسائل الانتاج في أيادي حفنة قليلة هو، فعلياً، ما يمكّن الرأسمال من ممارسة دوره في الانتاج. ولكن هذا التركيز كان يعتمد، بالضرورة، على مصادرة الملكية من أولئك الذين كانوا يملكونها في السابق، مثل الفلاحين وصغار الحرفيين، ممن كان بوسعهم أن ينتجوا بمفردهم. وكان هذا "التراكم البدائي" عملية عنيفة، ولكن يمكنها أن تظهر، وماتزال تواصل ظهورها، بطرق أخرى أكثر تعقيداً، بسبب التطور المتفاوت للرأسمالية في مناطق مختلفة وقطاعات مختلفة.

وهناك مفهوم رئيسي، مايزال فعالاً، هو مفهوم "صنمية السلعة": الوضع الذي تصبح فيه العلاقات بين الناس تتوسطها العلاقات بين الأشياء: السلع والنقود. والسلع (البضائع والخدمات المنتجة للتبادل) هي ليست مجرد أشياءلأنها تمتلك القيمة الاستعمالية (تلبي الحاجات الانسانية)، والقيمة التبادلية (كشيء يمكن مقايضته بشيء آخر). ولكن القيمة ينظر اليها، من ثم، كشيء جوهري بالنسبة للسلع أكثر من كونها نتيجة للعمل، وتبادل السلع والتفاعل المستند الى السوق، ينظر اليها باعتبارها السبيل "الطبيعي" للتعامل مع كل الأشياء أكثر من كونها تشكيلة محددة تاريخياً من العلاقات الاجتماعية.

وبصورة عامة فان صنمية السلعة هي الوهم الناشئ عن مركزية الملكية الخاصة في الرأسمالية، التي تحدد، من ثم، لا الكيفية التي يعمل بها الناس ويتفاعلون حسب، وانما، أيضاً، الكيفية التي يدركون بها الواقع ويفهمون بها التغير الاجتماعي. ان حافز الاستحواذ، وهاجس الاشباع المادي للحاجات، وترتيب الرفاهية من حيث قدرتها على الهيمنة على السلع المختلفة، يمكن وصفها، جميعاً، باعتبارها أشكالاً من صنمية السلعة. ويعتبر هاجس نمو اجمالي الناتج المحلي بحد ذاته، بين صناع السياسة والجمهور العام، مثالاً بالغاً ومنتشراً على صنمية السلعة اليوم.



وقد شخص ماركس ثلاث "حقائق جوهرية" للانتاج الرأسمالي:

1. تركز وسائل الانتاج في أيادي حفنة قليلة، حيث تتوقف، وفقا لذلك، عن الظهور باعتبارها ملكية العمال المباشرين، وتتحول الى طاقات انتاج اجتماعي.

2. تنظيم وتحويل العمل الى عمل اجتماعي: عبر التعاون، وتقسيم العمل، وتوحيد العمل مع العلوم الطبيعية.

3. خلق السوق العالمية.

والسمة الثالثة هي ما نسميه، اليوم، العولمة، وهي النتيجة الطبيعية لميل النظام الى الانتشار وتعظيم نفسه، لتدمير ودمج الأشكال المبكرة من الانتاج، وتغيير وتحويل التكنولوجيا والمؤسسات باستمرار.

وتتسم الرأسمالية بديناميكيتها، اذ تخلق، على الدوام، أنماطاً جديدة من تنظيم الانتاج والمؤسسات الاقتصادية: ليس فقط نظام المصانع، وانما الترتيبات الأحدث، والهياكل والمؤسسات المالية، والأنظمة التشريعية. ويحدث تراكم الرأسمال انتاجية أعلى، ويحول الأنظمة، ولكنه مرتبط، أيضاً، بالتطور المتفاوت، الذي لا يتحدد في ميدان واحد، وانما يسم كل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية.

وهكذا فان هناك توتراً متأصلاً بين توسع القوى الانتاجية وقدرة النظام الاقتصادي على خلق طلب كاف على البضائع المنتجة. وهناك تفاوت بين القطاعات التي تنشأ في عملية التراكم. هناك تطور متفاوت جغرافياً يخلق، في الوقت ذاته، مناطق "متطورة" و"متخلفة". ويمكن أن يمتد هذا لتفسير الامبريالية، التي يمكن فهمها باعتبارها الصراع من أجل الهيمنة على المناطق الاقتصادية ذات الأنماط المختلفة. وان اختلال التوازن بين النقود كمحيط للتبادل والنقود كمعيار للقيمة يتضخم عبر تطوير الائتمان والتمويل، خالقاً ميلاً أعلى للأزمة.

ان النظام يخلق صراعات وتناقضات كثيرة، يبلغ بعضها أوجه في أزمات دورية. ومادامت الدوافع الأساسية للرأسمال هي، في الوقت ذاته، تعظيم نفسه، وافقار الطبقات الأخرى مثل العمال والفلاحين، في داخل وعبر البلدان، فانه يخلق، على نحو جلي، صراعات طبقية تتخذ تجليات مختلفة، وتخلق، أيضاً، ما سماه ماركس فوضى السوق والميل المحتوم للأزمات. ان فيض الانتاج من ناحية السوق (حتى عندما لا تكون هناك ضرورة لاشباع الحاجات الانسانية لكل الناس في المجتمع) هو سمة مميزة ببساطة بسبب الطريقة التي يتصرف بها الرأسماليون الفرديون في السوق لجني مزيد من الأرباح. وكنتيجة فان عملية التراكم لن تكون سلسة. وفي الواقع فانها متفاوتة وتتخللها أزمات. وهذا، جزئياً، نتيجة النجاح ذاته للرأسمالية في تحقيق مزيد من النمو والتقدم التكنولوجي.

وهذه الأزمات الدورية هي سبيل لحل التناقضات المتأصلة في ديناميات الرأسمالية، وان يكن بطريقة حادة وربما عنيفة. وبسبب أن اختلال التوازن الأساسي هو، عادة، أحد تجليات فيض الانتاج (ارتباطا بالطلب وليس بالحاجة) فان مثل هذه الأزمات تشمل عادة تدمير التناسب المهم للمنتجات القائمة وقوى الانتاج. وبالنسبة لماركس فان الأزمات في ظل الرأسمالية هي ليست "مالية" أو "نقدية" بحتة، وانما تعكس اختلال التوازن الحقيقي، وعدم التناسب، والتطور المتفاوت، وهي سمات أساسية للتراكم الرأسمالي، حتى عندما يجري التعبير عنها في سياق مالي. ان ماركس لم يتحدث عن النهوض في هيمنة المال، ولكن يمكن توقعه من هذا التقدم، وتعاظم الموارد المالية يمكن أن ينظر اليه باعتباره توسيعاً للعمليات الرأسمالية الى ميادين حياة أكثر فأكثر.

ان سمة أساسية للنظام الرأسمالي وصفها ماركس، وهي تتسم بأسس فلسفية واجتماعية معقدة، هي الاغتراب. وهذا لا يشير الى تجربة معزولة لشعور الشخص الفردي بالنفور من المجتمع أو الجماعة، وانما لحالة معممة للجماهير الواسعة من العمال المأجورين. واذا تحدثنا ببساطة فانه يمكن التعبير عن ذلك باعتباره فقدان سيطرة العمال على عملهم. واغتراب العمال هذا يعني انهم يتوقفون، على نحو فعال، عن أن يكونوا كائنات انسانية مستقلة بذاتها، لأنهم لا يستطيعون التحكم بأماكن عملهم، والمنتجات التي ينتجونها، أو حتى الطريقة التي يرتبطون عبرها ببعضهم البعض. وبسبب أن هذا يحدد، جوهرياً، شرط وجودهم، فان هذا يعني أن العمال لا يمكن أن يصبحوا كائنات انسانية واجتماعية مستقلة، ومحققة لذاتها في ظل الرأسمالية.



دليل (رأسمال) ماركس

ظهرت، في العقود الأخيرة خصوصاً، كتب وأبحاث تدرس انجاز ماركس الأعظم، كتاب (رأس المال). ولعل من بين أهم هذه الكتب (دليل "رأسمال" ماركس) الذي ألفه ديفيد هارفي، أستاذ الأنثروبولوجيا والجغرافيا في جامعة السيتي بنيويورك، والذي قام بتدريس موضوع (رأس المال) لما يزيد على أربعة عقود. وهذه التجربة شكلت كتابه المهم الصادر عام 2010، وفيه يعالج الجزءين الأول والثاني من (رأس المال). أما كتابه المهم الأخير الموسوم (ماركس، رأس المال، جنون العقل الاقتصادي) فهو دليل موجز للأجزاء الثلاثة من (رأس المال)، وفيه يعالج اللاعقلانية الجوهرية للنظام الرأسمالي.

فماذا بشأن جنون النظام الرأسمالي، وهو توصيف استعاره هارفي من (جنون العقل الاقتصادي) للمفكر الفرنسي جاك دريدا ؟

يرى هارفي أن المعيار الأفضل لذلك هو النظر في ما يحدث في الأزمة. ان الرأسمال ينتج الأزمات دورياً، وان احدى خصائص الأزمة هو أن لدينا فائض العمل – أناس عاطلون عن العمل لا يعرفون كيف يعيشون – وفي الوقت نفسه هناك فائض من الرأسمال لا يبدو أنه قادر على ايجاد مكان يتوجه اليه للحصول على معدل كاف من الفائدة. أمامنا، اذن، هذان الفائضان جنباً الى جنب، في وضع تكون فيه الحاجة الاجتماعية مزمنة. ونحن نحتاج، كما يرى هارفي، الى أن نضع الرأسمال والعمل سوية كي نخلق الأشياء فعلياً. لكننا لا نستطيع القيام بهذا لأن ما نرغب في القيام به لا يحقق لنا الربح، ومن هنا عجز الرأسمال عن القيام بذلك. وبالتالي فاننا نجد فائض رأس المال وفائض العمل جنباً الى جنب، وهذه هي ذروة اللاعقلانية. ويضيف هارفي قائلاً: لقد علمونا ان النظام الاقتصادي الرأسمالي عقلاني تماماً، لكنه ليس كذلك. انه، في الواقع، يخلق لاعقلانية خارقة.

ويتساءل هارفي: لماذا انفصل ماركس عن الاشتراكيين الأخلاقيين من أمثال برودون، فورييه، سان سيمونن وروبرت أوين ؟ ويقول إنه في المراحل الأولى من التطور الرأسمالي كانت هناك مشكلات واضحة في ظروف العمل. وبدأ الناس العقلاء، بمن فيهم المحترفون والبرجوازيون، ينظرون الى هذا الأمر برعب. وتطور نمط من النفور الأخلاقي ضد نظام التصنيع. وكان الكثير من الاشتراكيين الأوائل أخلاقيين، بالمعنى الايجابي لذلك المصطلح، وعبروا عن غضبهم بالقول إنه يمكننا أن نقيم مجتمعاً بديلاً، يستند الى الرفاهية العامة والتضامن الاجتماعي وأشياء من هذا القبيل.

ونظر ماركس الى الوضع وقال ان المشكلة مع الرأسمال تتمثل في انه فاقد لأي حس أخلاقي. واتخذ ماركس نظرة أكثر علمية بشأن الرأسمال، وقال اننا نحتاج، الآن، أن نستبدل النظام بأسره.

ولكن لنتحدث عن تناقضات العملية الرأسمالية. كان ماركس، كما هو معروف، ناقداً لا يرحم الرأسمالية، لكنه كان، أيضاً، معجباً بقدراتها على الهدم الابداعي. فقد فكر، على سبيل المثال، أن الراسمالية كانت تقدماً كبيرا على الاقطاع. فكيف يتعين علينا أن نفكر بهذه القدرات التهديمية اليوم ؟ الكثير مما تهدمه الرأسمالية جلي تماماً. فنحن نحتاج، من ناحية، الى أن ناخذ بالحسبان الدخول المرتفعة في أماكن معينة مثل الصين والهند، وهذه العملية الهائلة لاقامة البنية التحتية التي تجري في مثل هذه البلدان. فكيف نقارب هذه العمليات المتناقضة ؟

يقر هارفي بصحة هذا الواقع، مشيراً الى أن ماركس لم يكن، ببساطة، ناقداً للرأسمالية حسب، وانما كان معجباً ببعض ما أقامته الرأسمالية. فقد شيّد الرأسمال طاقة الانتاج القصوى تكنولوجياً وتنظيمياً لخلق عالم أفضل. ولكنه يفعل ذلك عبر العلاقات الاجتماعية للهيمنة وليس للتحرير. وهذا هو التناقض الرئيسي. وفي سياقه يتساءل ماركس: لماذا لا نستخدم كل هذه الطاقة التكنولوجية والتنظيمية لخلق عالم تحرري بدل عالم الهيمنة؟

ان التناقض ذا العلاقة يتمثل في الكيفية التي يتعين بها على ماركس التفكير بشأن الجدل الراهن حول العولمة، الذي بات أكثر ارباكاً وتشويشاً. فكيف يتعين على اليسار، مثلاً، أن ينظر الى حمائية الرئيس الأمريكي ترامب بطريقة تختلف عن التيار الاقتصادي العام الذي يتوقف عند حدود التحذير؟

لقد أقر ماركس، في الواقع، العولمة. ففي (البيان الشيوعي) هناك حديث مدهش عنها. انه يرى فيها سمة تحريرية محتملة. ولكن، مرة أخرى، لماذا لم يجر تبني هذه الامكانيات التحريرية ؟ لماذا تستخدم كوسيلة لهيمنة طبقة على أخرى ؟ أجل، انه لصحيح أن بعض الناس يحسّنون دخولهم، لكن ثمانية أشخاص يمتلكون ثروة تزيد على ثروة ما يقرب من نصف سكان العالم.

يقول ماركس ان علينا أن نفعل شيئا بشأن هذا الواقع. غير أننا عندما نقوم بهذا لا نمارس الحنين الى الماضي لنقول: نريد أن نعود الى الاقطاع . يتعين علينا أن نفكر في المستقبل التقدمي، مستخدمين كل التكنولوجيا المتوفرة لدينا، لغاية اجتماعية وليس لمراكمة الثروة والسلطة في أيادي حفنة قليلة ممن يمارسون الاستغلال وجني الأرباح.