نقد العقل المحض لكانط وتاريخية الأفكار الفلسفية


عبدالرحمن مصطفى
2018 / 12 / 13 - 23:17     

الأفكار هي موقف من الحياة او الكون وعلى الدوام كان لكل فكرة طابع تاريخي او بنى تاريخية صبغت هذه الأفكار بملامحها ورؤاها ..وكذلك الفلسفة فالميتافيزيقيا هي موقف من الكون هذا الموقف او البناء النظري يرتكز على اساس الملاحظات التجريبية او الموقف العلمي في ذلك الوقت ففلسفة ارسطو الميتافيزيقية كانت تستند على اساس تصنيفي لعالم الحيوانات والنباتات كانت تصنف هذه الكائنات على اساس الإختلاف الكيفي والجوهري فيما بينها فكان يتوهم ان الإنسان كائن عاقل او حيوان ناطق وعلى اساس هذا يفترق مع بقية الكائنات ولكل كائن طابع مميز فالحصان صاهل والاسد زائر ..الخ ..وعلى اساس هذا التقسيم كان لاسماء هذه الكائنات في اللغة دور اكثر من كونها رموز اصطلح عليها البشر فكانت تعتبر بمثابة حقائق تكشف من خلالها جوهر او حقائق تلك الكائنات فعلى هذا بنيت الميتافيزيقيا الأرسطية بعد ان اعتبرت كلمة موجود (كأسم عام او اسم كلي) فتم الإنتقال من الموجود الجزئي او الموجود الأكثر محدودية الى الموجود المطلق اللامحدود ..حتى جاءت الفلسفة الإسمية وعارضت هذه الانطولوجيا بإعتبار الكلمات كرموز ورموز فقط ولاتحمل في طياتها اي شيء يمكن ان تكشف من خلاله عن الواقع وكذلك نظرية التطور التي حطمت اوهام الإفتراق او الاختلاف الكيفي بين الكائنات وان الإنسان العاقل Homo sapiens ماهو الا نسخة جديدة مننسخة سابقة Homo habilis وان الإختلاف بين هذه النسخة وتلك لايعني ان هناك فاصل جوهري انما التصنيف هو محض عملية اجرائية (كما اعترض دوكنز على علماء التصنيف لمحاولتهم التفريق بين نسخ الإنسان او مايسمى الإنسان) ..كذلك فلسفة ليبنتز وديكارت الميكانيكية ماهي الا انعكاس للعلم الميكانيكي في ذلك العصر نيوتن وقبل نيوتن..وكذلك فلسفة راسل او نظرته للكون فليس هناك كيانات ثابتة انما هناك احداث ونسق احداث ليست هي بالمادية الصرفة ولاهي نتاج تام لتخيلات الإنسان فنحن لانتعامل الا مع احداث ولا نعرف جوهر الأشياء (وهذه هي عين الطبيعة المزدوجة لثنائية المادة-الطاقه) وكذلك لتكاملية نيلز بوهر فالاشياء تظهر بمقدار ما ندركها واننا مشاركين في عالم الكوانتم ولسنا فقط متابعين عن بعد..نفس هذا الموقف ينعكس على الامور الاجتماعية والإنسانية ففي فترة الفلسفة اليونانية المتقدمة (ارسطو (افلاطون..) كان هناك امور مفضلة على اخرى السكون على الحركة ..الحركة الدائرية على المستقيمة (الحركة الدائرية تعني الازلية والدوام والثبات لا التغير والاندثار ) ..والتأمل العقلي الصرف على الأفكار التجريبية والتجربة ؛فالتجربة كانت مقتصرة على العبيد او طبقة الرقيق ..هذا على عكس تماما الفلسفة الحديثة حيث نجد فولتير يشنع على المتصوفة المنعزلين المتأملين للعوالم (الالهية) في كتابه رسائل انجليزية او رسائل فلسفية .. وكذلك سيادة الفلسفات الميكانيكية والتعامل مع عالم الظواهر فقط..وكذلك فكرة الحتمية التي سادت وانعكست على مختلف نواحي الحياة في القرن التاسع عشر (المادية الجدلية والمادية التاريخية والمثالية الالمانية...) ..وكذلك فكرة تفكيك الإنسان وتبيان طبيعته المحايثة لهذا العالم وان الارادة الحرة وهم (فرويد وداروين..وشوبنهاور ونيتشه وماركس..) ..كذلك فلسفة كانط فكانط ما هو الا امتداد لاولئك الفلاسفة الذين حاربوا الـامل العقلي او التأمل العقلي المحض في سبيل الإيمان والغيب (كأوكام مثلا..) ..وهناك فلسفات تبقى معاصرة او تخاطب المستقبل (كفلسفة ديفيد هيوم) او فلسفة راسل حتى ..او اجزاء عديدة من بعض الفلسفات ..هكذا الأمر في الحياة فالحياة لاتحمل في ذاتها اي معنى انما البشر يقرون مايشائون من المعاني ثم تتبدل هذه المعاني بعد ان يخرج بضع افراد عليها ثم يلحقهم الجموع فيما بعد..وهناك مجتمعات تبقى متكلسة على رجعيتها وتأبى التطور والانعتاق ..

فلسفة كنط في نقد العقل المحض..
وفي هذا المبحث يتناول كانط كلا من حدسي الزمان والمكان ..فالزمان هو انعكاس للحساب الرياضي فالرياضيات قبلية وليست تحليلية (كما سيرى الوضعيون فيما بعد) وهي قبلية على اساس انها كلية و ضرورية وكذلك المكان فما هو الا انعكاس للهندسة (الإقليدية) والمكان قبلي فالهندسة الإقليدية التي يستند عليها لاتستمد ضرورتها من عالم الإستقراء ونقصان اليقين وكذلك الهندسة ليست تحليلية (تحليلية بمعنى ان المحمول متضمن في الموضوع كما كان يقول ارسطو في السابق مثلا ان الإنسان حيوان ناطق فهذه المفاهيم ليست زائدة على الإنسان كفكرة كون انسان معين اسود مثلا ) فالمثلث يساوي زاويتين قائمتين (المثلث قائم الزاوية) وكانط هنا كان يتحدث بالنيابة عن الهندسة الإقليدية فالهندسة الإقليدية في ذلك الوقت كانت هي الهندسة الوحيدة وكانت الهندسة تعتبر بمثابة معبر عن الواقع وليست بناءات منطقية او بناءات من مقدمات ونتائج كما سيحدث لاحقا ..وكذلك الرياضيات فكانط كان يتعامل مع اعداد معبرة عن الواقع والرياضيات تستمد ضرورتها من كونها قبلية فواحد زائد واحد يساوي اثنان وليست تحليلية لأن مفهوم الواحد ليس متضمن ب 2 وعلى هذا الأساس هذه المفاهيم القبلية هي المكونة او المقولبة لمدركاتنا الحسية فعندما نرى التفاح مثلا نراه في مكان معين وفي زمان معين ..وهذا المكان والزمان ليس مطلق كما قال نيوتن لأن الزمان والمكان مفاهيم نسبية تبعا لادراك الشخص (موقعه وزمانه) او هي مفاهيم قبلية وفقط وهذا قريب من النسبية الخاصة ..لكن كانط يستند على فكرة ان الهندسة ضرورية وكلية وهي ليست كذلك فهي ليست كلية لانه تم ابتداع انواع مختلفة من الهندسة كهندسة ريمان التي تخالف مصادرة التوازي لاقليدس وكذلك هندسة لوباتشيفسكي التي كان يظن في السابق انها ليست مستقلة عن المصادرات الاخرى وبالتالي هي ليست مصادرة(لتجاوز هندسة اقليدس) لكن هندسة ريمان ولوباتشيفسكي اثبتت انها مصادرة وانه يمكن اقامة هندسات مختلفة وان النظام الهندسي لايستمد صحته من الواقع (كانط كان يرى ان الكون اقرب لهندسة لقليدس نظام المستوى لكن مع النسبية العامة تم اثبات ان هندسة ريمان اقرب..) بل من المسلمات والمصادرات والنظريات او النتائج فعدم التناقض بين المقدمة والنتيجة هو الاساس في النظام الهندسي لذلك فطنت الوضعية المنطقية لهذا ورأت ان القضايا الهندسية والرياضية تحليلية ونفس الامر ينطبق على الزمان او ممثل الزمان الرياضيات فالمنهج الرياضي الحديث هو منهج اكسومي axiomsوليست الرياضيات ضرورية بمطابقتها الواقع وليست كذلك كلية فيمكن ان نبدأ من اي مسلمات او من اي عدد كما بين بيانو ..وعلى ذلك ليس هناك بديهيات بالذات او بديهيات مطلقة انما نحن نبتدع البديهيات ونبيني اي نظام عليها وعلى هذا الأساس يوضع كلام كانط ضمن نطاق تاريخي معين او على اساس الموقف العلمي في عصره...وكذلك لكانط ادلة اخرى على قبلية الزمان والمكان منها اننا لانستطيع ان ندرك المحسوسات بمعزل عن المكان والزمان او اننا ندركها دائما متمكنة ومتزمنةبينما يمكننا ان نجرد المكان من المحسوسات وكذلك الزمان واذا جردنا المكان والزمان فنحن نحصل على مكان وزمان لانهائيين ..وهذا قد يصعب تصوره لان الإنسان لايستطيع ان يكون كائن في ذاته وان لايتعاطي مع اي مدرك واقعي لذا يصعب تصور دليل كانط هذا..وكذلك لكانط دليل آخر على بطلان كون الزمان والمكان قضايا تحليلية وبالتالي الهندسة والرياضيات علوم تحليلية وهي ان الزمان والمكان يتكونان من اجزاء لانهائية فلو والمفاهيم معبرة عن اشياء محدودة وليست لانهائية لكن دليل كانط هذا يتناقض مع رفض كانط لفكرة الزمان والمكان اللانهائي كونه رفض واقعية الزمان والمكان ..وهنا يتضح ان بعض الفلسفات قد يعتورها بعض التناقضات المنطقية الى جانب تاريخيتها في العديد من الجوانب الاخرى ..

التحليل الترسندالي ويحتل هذا الجزء القسم الأكبر من الكتاب وفيه يشتق كانط المقولات القبلية للعلوم الطبيعية من المنطق ومن المنطق العام تحديدا فمقولات الكم (الوحدة الشخصية والكثرة والوحدة العامة) تم اشتقاقها من اسوار القضايا (كل وبعض والقضية الشخصية) والكيف (الاثبات وعدم الاثبات) (من السلب والايجاب) والإضافة (الجوهر والسببية والتعلق او الارتباط في الجوهر) من القضايا (الحملية والشرطية المتصلة والمنفصلة) وكذلك مقولات الجهة (من مادة القضايا حيث يمكن ان يكون المحمول ممكن في حمله على الموضوع او م مستحيل او ضروري..الخ) ..ومن اشتقاق هذه المبادئ تم اثبات او تدعيم العلوم الطبيعية واثبات يقينيتها فالسببية مثلا مستخدمة في الطبيعة وهي مستندة على الحدس الداخلي (الزمان) فهي يقينية وضرورية في العلوم الطبيعية وكذلك الموضوع والجوهر فهناك شيء ما في الطبيعة والاعراض (المحسوسات) ليست الا مظاهر للجوهر فقط ...وهكذا بقية المفاهيم..وما يهم هنا هو مفهوم السببية فكانط يرى ان السببية ضرورية على اساس ذلك الإشتقاق واساس مطابقتها للطبيعة ويعارض هيوم في هذا الذي دلل على ان السببية مشتقة من تداعي المعاني وليست بالمفاهيم الضرورية ولاتعكس الواقع ..وهذا هو الأصح فالسببية ليست الا اداة معرفية نستخدمها وكثيرا ما يستعاض عن التفسير السببي في سبيل تفسيرات اخرى كالعلاقات الطردية والعكسية بين ظواهر الطبيعة مثلا وليس فقط (علاقة التتابع السببي) ومنذ انهيار الفيزياء الميكانيكية لم يعد للتفسير السببي اي معنى فنحن لاندرك قوانين الطبيعة كما هي انما نضع ما يناسب فهمنا للطبيعة فعقلنا المحدود لاينفذ الى جوهر الاشياء او ان جوهر الاشياء هذا سراب وليس حقيقة فطبيعة المادة او الكون ليست معروفة ان كانت موجية ام جسيمية (فالطاقة تتحول الى جسيمات كما الجسيمات تفنى وتتحول الى طاقة كما يحدث في تجارب المصادمات في جزيئات كالبروتون والبوزيترون والنيترون ...) لذلك اي معرفة ماهي الا حاجة وهذه الحاجة تنم عن محاولتنا لتبسيط فهمنا للكون والطبيعة فقط ..وعلى اساس يتبين الطابع التاريخي للنصوص الكانطية وكذلك فكرة الكيف الاثبات او النفي فهناك انواع من المنطق تدلل على امكانية وضع نسب امكان لامتناهية للظواهر فليس هناك ثالث مرفوع ونظرية الكوانتم واستخدامها للإحتمال تدلل على هذا وحتى لو رأينا ظاهرة معينة فما نثبته ه اثبات بالنسبة لادراكنا ونحن نثبت شيء في سبيل هدف او غاية معينة فليس اثبات مطلق او الامكان والضرورة والامتناع ليست بالضرورة بهذا التقسيم بل قد يكون الامكان او نسب امكان وفقط ..لذلك يبقى كلام ديفيد هيوم اقرب للصواب او اكثر مطابقة للعصر وسأفصل هذا اكثر في الفقرة التالية ولكل عصر معرفة خاصة فقد تهدم اسس الكوانتم الحالية لتستبدل باخرى لكن ليس بالضرورة لتعود الى معرفة سابقة كما تجاوزت النسبية ميكانيكيا نيوتن.. ..

الجدل الترسندالي..

وفيه يبطل كانط يقينية الميتافيزيقيا فنحن لانستطيع اثبات وجود الروح مثلا ودليل ديكارت (انا افكر اذن انا موجود) لا يدلل على الضرورة الانطولوجية بقدر تدليله على الضرورة الابستومولوجية او المعرفية فقط ..وكذلك في محاولة كانط لنفي الميتافيزيقيا الكونية او هل الكون ازلي ام غير ازلي وينفي كانط دليل الازلية استنادا الى لو ان الكون او المادة ازلية لما وجدنا نحن لان الازلية تلزم حركات او تغيرات لانهائية فلو كان الكون لانهائي لما وجدنا لان اللانهائي لاينفذ ..والحقيقة ان رد الفلكي جيمس جينز في كتابه (الفيزياء والفلسفة) على هذا الدليل لهو ابلغ رد فهو يقول ان الحركة ليست مجزأة وان سلسلة التغيرات ليست مجزأة فالحركة واحدة لكننا نلجئ للتجزأة من تلقاء ذاتنا كما انننا مثلا ننسب اشعال النار الى انسان معين لكن نجاحه في هذا يكون تبعا لعوامل منها حركة الرياح واتجاهها مثلا وهكذا حتى نصل الى حوادث في الفضاء ..او حتى رغبة الانسان في اشعال هذه النار للدفئ او غير ذلك فنحن ننسب المسبب الى سبب معين تسهيلا لحياتنا (لغاية عملية) لكن التدقيق ينفي هذا ..وهذا تقريبا نفس مضمون ابن رشد على الغزالي في كتابه تهافت التهافت لكن بطريقة اخرى وكذلك نفي امكانية التجزأة او النزول في مستويات المادة الى مالانهاية فهذا الفهم كان الانسب تحت ظل العلم الكلاسيكي لكن مع نظرية النسبية وبيان ان المادة طاقة تسقط هذه الاشكالية فليس هناك مادة صرفة او قانون حفظ الكتلة ليس سليما ...واخير ينفي كانط امكاني التدليل على وجود الله تبعا لكون السببية مطبقة على عالم الظواهر فقط وكذلك فكرة الوجود لايلزم عنها وجود اللامتناهي كما اراد بذلك القديس انسلم ..ودليل النظام الذي يعكس تخيل الإنسان لوجود صانع لعالمه تبعا لرؤيته الاشياء المصنوعة في عالمه المنظور الخ..
هذا ملخص عام لأهم ما جاء في الكتاب ..والخلاصة ان كل فلسفة معبرة عن عصرها وقليل من الفلسفات التي تجتاز اللحظة والآن لتعبر عن المستقبل فالأفكار هي نتاج عوامل اجتماعية وتاريخية وهذا الذي قد يكون الاكثر اهمية في تشكيلها