بين عدوانين


عديد نصار
2018 / 12 / 7 - 10:16     

تقع بلادنا العربية تحت وطأة عدوانين شرسين: العدوان الصهيوني والعدوان الإيراني.
بداية لا بد من الإشارة إلى أن العدوان الإيراني هو عدوان نظام، نظام مافياوي امبراطوري النزعة متخلف وفي منتهى الرجعية، يتلفع العباءة الدينية، وهو شديد العدوانية ليس لشعوب المنطقة فحسب بل للشعب الإيراني نفسه. لذلك فإن مواجهته لا تكون الا بالتضامن والتحالف مع الشعب الإيراني.
وإن أردنا فعلا مواجهة هذين العدوانين، فلا يمكننا ذلك بدون فهم طبيعة كل منهما وأين يتصادمان وأين يلتقيان. وما هي مآلات كل منهما، تبعا للأسلحة والإمكانيات التي يمتلكانها مادية كانت أم غير مادية.
وبالطبع، فإن شعوبنا تمتلك، بل ينبغي لها أن تمتلك المقدرة على التصدي لهذين العدوانين بنفس الكفاءة، حين يتعمم الفهم المادي لهذين العدوانين وتنكشف وسائلهما ومخططاتهما المعادية. وآن لهذه الأمور، بعد كل هذا الخراب، أن تتضح.
العدوان الصهيوني هو مشروع امبريالي صريح منذ البدء. الهدف منه خلق كيان غريب مهمته فرض وتأبيد التجزئة التي أريد للبلاد العربية أن تخضع لها. ولا غرابة أبدا في التزامن تقريبا بين اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور، فكلاهما نتاج الذهنية ذاتها والمصالح ذاتها التي ترى في وجود كيان عربي موحد وقوي في المنطقة يجمع مصر والسودان وبلاد الشام خصوصا، وربما أكثر، خطرا على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، المصالح القائمة على السيطرة وعلى نهب الموارد وتسخير الامكانيات المحلية أو تعطيلها.
لم يكن "الوطن القومي لليهود" مطلبا يهوديا في أية مرحلة، بل كان مشروعا بريطانيا أوروبيا جسده لاحقا وعد بلفور، وزير خارجية بريطانيا، في غمار الحرب العالمية الأولى، ليكون مكملا لاتفاقية سايكس بيكو المنعقدة بين فرنسا وبريطانيا والتي رسمت حدود سيطرة كل منهما في المشرق العربي. ولم يكن اليهود الذين "شحنوا" الى فلسطين، إلا وقودا لحروب الحركة الصهيونية على شعوب المنطقة من أجل الهيمنة وتأبيد تخلفها وتجزئتها الى كيانات يستحيل أن تواكب العصر.
بهذا، كان العدوان الصهيوني على بلادنا عدوانا خارجيا سافرا، يقوم على استخدام السلاح والإرهاب المباشر والتفوق التقني والعسكري، ويعتمد بالكامل على التمويل والتسليح الخارجيين الذين تولتهما الامبرياليات المتعاقبة على الهيمنة، بداية بريطانيا ثم لاحقا الولايات المتحدة.
ولأنه عدوان خارجي، ولأنه يعتمد كليا على القوة المسلحة، فإن هذا العدوان كان دائما ما يقوّي المناعة الداخلية لمجتمعاتنا ويوحدها في مواجهته، بصرف النظر عن سياسات الأنظمة المسيطرة في بلداننا التي لم تقدم لهذه المجتمعات سوى النكبات والنكسات والهزائم المتكررة.
فإذا راجعنا مرحلة الثورة الفلسطينية الأولى، قبل استتباع فصائلها للأنظمة العربية، نجد أنها كانت تشكل، في نظر الصهاينة، التهديد المصيري على هذا الاحتلال. أما انتفاضات الشعب الفلسطيني الأعزل، التي جاءت ردا على تراجع العمل الفلسطيني وعلى تمادي الاحتلال في عدوانه، من انتفاضة الحجارة الأولى 1987 والتي استمرت أكثر من ثلاث سنوات، الى الانتفاضة الثانية التي انطلقت عام 2000 واستمرت لعدة سنوات، وكانت المعبّر الحقيقي عن مصالح الشعب الفلسطيني وآماله وآلامه، فقد كانت في حينها ورقة الضغط الحقيقية على الاحتلال الصهيوني الذي بات عاريا أمام الرأي العام العالمي.
وكانت جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية بإمكاناتها التسليحية البسيطة والمتواضعة قد هزمت الاحتلال الصهيوني للبنان وأرغمته على الانسحاب من غالبية الأراضي التي اجتاحها عام 1982، المقاومة التي كانت وطنية جامعة تحضى بدعم ومساندة كل اللبنانيين والعرب، طبعا اذا استثنينا القوى المسيطرة والأنظمة، والتي مثلها في معاداتها النظام الأسدي.
اذٍ، فالعدوان الصهيوني، لكونه عدوانا خارجيا صريحا، فمن الطبيعي أن يعزز جهاز المناعة لدى المجتمعات فتتوحد لمواجهته مهما كان شرسا ومهما كانت إمكانيات هذه المجتمعات متواضعة.
أما العدوان الإيراني، الذي تغول على الساحة العربية بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، فقد استفاد من دروس الحرب العراقية الايرانية التي استمرت لثماني سنوات، والتي أثبتت أنه لا يمكن للنظام الإيراني، مهما استخدم من مقولات إيديولوجية، ومهما حشد من قوة، ومهما طال الزمن، أن يحقق أهدافه في السيطرة أو الهيمنة على البلاد العربية بواسطة الحروب التقليدية. فهذه الحرب وحدت المجتمع العراقي خلف جيشه، وكان قتال الجنود العراقيين في الجبهة لا يتفاوت بين جندي سني وآخر شيعي، بل كان الجميع على نفس الهمة والاستبسال في الدفاع عن وطنهم.
فالحرب التقليدية فشلت. هذا هو الدرس الذي فهمه جيدا نظام الملالي. من هنا انتقل الى استراتيجية مختلفة تماما، استراتيجية تقضي بتدمير جهاز المناعة الداخلي لمجتمعاتنا وضربها من الداخل، من خلال استغلال التنوع المذهبي الذي استمر لمئات السنين فيها بدون أن يمثل في حد ذاته أداة أو سببا لحرب أو نزاع أو استئصال. وكانت القضية الفلسطينية شماعة لجعل هذه الاستراتيجية قابلة للتطبيق.
من هنا بدأ نظام الملالي، ومن هنا كانت أولى قلاعه في قلب مجتمعاتنا حزب الله اللبناني، الذي نُظّم وسُلّح وأدلِج على يد الحرس الثوري الإيراني، هذا الحزب الذي بدأ نشاطه في الجنوب اللبناني بتصفية جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية بالتضييق والملاحقة والاغتيال الذي طاول كبار المفكرين اليساريين والكوادر الوسطى وخاصة في الجنوب.
كانت الخطة تقضي أن يحتكر حزب الله المقاومة، ثم أن يستخدمها في مصلحة فرض الهيمنة الإيرانية على المجتمع بكامله، هيمنة عنصرية تقوم على العنصر المذهبي الملتحق حصرا بولاية الفقيه، أي بنظام ملالي طهران المافيوي.
وفي العراق، وفي ظل الاحتلال الأمريكي، تغلغلت أدوات نظام الولي الفقيه وحرسه الثوري ليمارسا أوسع عمليات تصفية ضد الضباط والطيارين العراقيين الذين شاركوا في الحرب العراقية الايرانية، وخصوصا الشيعة منهم. كما طاولت التصفيات العلماء وأساتذة الجامعات وكثيرا من الأدمغة. قد يكون للموساد الاسرائيلي دور في تلك التصفيات، وهذا ليس غريبا، ولكن الغالبية الساحقة من عدد الاغتيالات الكبير كانت على يد نظام طهران.
وتحت أنظار الاحتلال الأمريكي وأجهزة مخابراته، وفي وجود ومعرفة الموساد الاسرائيلي وسواه من أجهزة الاستخبارات العالمية، استغل النظام الإيراني واقع العراق المدمر والأزمات المريعة على المستويين الانساني والمعيشي الناشئة عن الحصار المديد للعراق وعن واقع الاحتلال والخراب الذي أصاب المؤسسات، وفي وجود قوى قابلة للبيع والشراء، تمكن هذا النظام من بناء منظومة مليشياوية وسياسية تابعة تمكنه من ضرب، ليس فقط جهاز المناعة في المجتمع العراقي، بل نسيجه الاجتماعي والوطني.
ولا يختلف الأمر في اليمن وفي سوريا رغم الفروقات، بل ان السياسة نفسها مارسها العدوان الايراني، السياسة المبنية على تمزيق المجتمعات من الداخل لجعلها لقمة سائغة للسيطرة والهيمنة.
لماذا تَرك الاحتلال الأمريكي والعدوان الصهيوني الأبواب مشرعة للعدوان الإيراني، رغم أنهما كانا قادرين على وضع حد له متى شاءا؟ لماذا تُرك قاسم سليماني يسرح ويمرح في العراق، ويؤسس المليشيات الطائفية ويحركها كما يشاء في ظل الوجود الأمريكي الدائم هناك؟ لماذا تُرك الحوثيون يجتاحون اليمن وينقلبون على مخرجات الحوار الوطني، في حين كانت طائرات الدرون تلاحق وتقتل قيادات القاعدة هناك؟ أي أن الأمريكان لم يكن يخفى عليهم شيء في اليمن.
لماذا ترك حزب الله ليمحو الحدود اللبنانية السورية وأن يتحرك بجحافله واسلحته جيئة وذهابا عبرها دون عواقب، ويدمر المدن والقرى في سوريا ويحاصر ويقتل ويشرد أهلها؟
ما هي طبيعة العلاقة بين العدوان الصهيوني على بلادنا وبين العدوان الإيراني؟
يتضح مما جرى ويجري في سوريا أن صراعا حقيقيا يدور بين العدوانين على الهيمنة. كما يتضح بصورة جلية أن العدوان الصهيوني قادر تماما على وضع خطوط حمراء ساعة يشاء أمام العدوان الإيراني. فالضربات التي يشنها العدوان الصهيوني في سوريا ترسم للعدوان الإيراني تلك الخطوط.
يمكن الاستفادة مما سلف، أن العدوان الإيراني، شاء أم لم يشأ، يمهد الأرض أمام العدوان الصهيوني من خلال نسف جهاز المناعة في مجتمعاتنا، وكونه عاجزا تماما، لاعتماده الكلي في سيطرته على العنصر الشيعي، الذي تحول الى وقود في حروب سيطرة نظام الملالي، أن ينهي تلك الحروب بالسيطرة التامة.
إن نسف جهاز المناعة لمجتمعاتنا سوف يصب حكما في مصلحة العدوان الصهيوني. خصوصا أن هذا العدوان ليس سوى رأس حربة العدوان الامبريالي مهما كانت الجهة الدولية التي تتزعمه. وهو يحضى تماما بالدعم غير المحدود من مختلف الدول الامبريالية بما في ذلك روسيا. أما العدوان الإيراني، فإن حروبه المتواصلة، ولو بجنود محليين، سوف يصاب بالانهاك، وسيوفر ذلك للعدوان الصهيوني والجهات التي تقف وراءه فرصة، ليس فقط للهيمنة على بلادنا، بل على إيران نفسها، إيران، حيث المجتمع الإيراني يتعرض للسحق نتيجة سياسة نظام مافيا الملالي، وتتعرض مقدراته الى النهب والتبديد على أيدي تلك العصابة المسيطرة باسم الدين.
وإذا كان للعدوانين أن يستمرا كل هذا الزمن، فإن وجود أنظمة الاستبداد والتجزئة والتبعية، وغياب أو تغييب قوى معارضة حقيقية قادرة على المحاسبة أو على قلب الطاولة كان من أبرز أسباب هذا الاستمرار. وهذا يعود في جزء أساسي منه لغياب الفهم الحقيقي لهذين العدوانين ولطبيعة ولاستراتيجية كل منهما.