قصة قصيرة : أين ذهبت يا جعفر ؟


بديع الآلوسي
2018 / 12 / 3 - 01:04     

أخبرنا المسؤول الإداري بصوت جَهوري  : أخيرا ً ، حصلنا على كمية من النفط . صمت ثم اردف مبتسما ً:
ـ من الآن فصاعدا ً ، ستنعمون بالضوء ..
وقتها ، كان المساء في أوله ، وكنا نرقب كتلا ً هائلة ً من الغيوم الرمادية ، دون ان يتصور أي منا بان الزمن الشتوي الموحش سيكون ثقيل التفاصيل لهذه الدرجة ، وأنه سيداهمنا بما لم نتوقع .
فمذ ليال عشر قد هجرت الدعابة روح صديقي ( جعفر الرسام ) ، ولا ادري كيف انه حافظ على رباطة جأشه لتجاوز هشاشة التجربة التي القت بظلالها علينا . مرور عشر سنوات من مكوثنا في تلك الجبال العاصية ، هو الذي جعلنا نتساءل : يا ترى ، ما ستؤول اليه الأمور أو ماذا سيحل بنا في الأيام القادمة ؟ .
تحت سقيفة المطبخ ووسط هذا الكم من الهواجس التي تزامنت مع ضحكات الرفاق واحاديثهم ، نظرت الى جعفر وسالته  :
ــ هل حصتنا من النفط كافية لملأ الفانوس ؟
اجابني باقتضاب .. مبتسما ً :
ــ نعم ، يا أبا نجيب .
فرحت لجوابه ، اذ سنتمكن من التمتع ليلا ً بالضوء لمدة أربع ساعات ومسامرة بعضنا بعضا ً ، داخل تلك الكهوف التي حولناها بمرور الوقت الى أماكن تحمينا من الضواري وقسوة الطبيعة التي لا ترحم .
لكن في هذا المساء اختلف الأمر قليلا ً ، إذ وبينما كنت اتسلى بكتابة بعض الإنطباعات ، كان جعفر مُنحني الظهر يحاول ان يرسم تخطيطا ً لرجل مشنوق ، رفع رأسه وباغتني بسؤاله  :
ــ ماذا تكتب ؟
قلت : هاجسا ً ما .. عن الحرية .
ضحك وأجاب ببرود  :
ــ أشعر اننا لسنا احرارا ً .
كلماته استفزتني بقدر ما صدمتني ، فرحت ابحث تحت وسادتي عن دفتري الأزرق ، الذي يحتوي على عبارات اقتبستها من هنا وهناك ، وحال العثور عليه ، بدأت اقلب صفحاته بحثا ً عن حكمة الحكيم الصيني ( لاو ـ تسو ) ، علها تعيد إلى قلبي الطمأنينة ، واخذت اقرأها  ( عندي ثلاث كنوز أحرص عليها ، اولا ً: الرحمة تقود إلى الشجاعة ، ثانيا ً : نكران الذات يقود إلى توسيع حدود ذاتك ، ثالثا ً : العزوف على صدارة الناس يضع قيادتهم بين يديك ) تركت ثلاثة اسطر فارغة وكتبت تحتها : حان الوقت لأسأل : بعد مرور كل هذه السنين الصعبة ، ماذا حققنا من كنوز( لاو ) يا رفاق التجربة ( يحيى ، جعفر ، أبا سماح ، أبا أديم ، حسام ، خلدون ، أبا مكسيم ، أبا عامر ، زاهد ، اسحاق ، أبا نضال ، شيفان ، أبا داليا ، أبا خليل ، سرور ) ؟
بعدها صارت ذاكرتي تراجع تلك الاستراحات الخلابة التي كنا نقضي فيها اجمل ساعات النهار ، فلكل مكان من تلك الاماكن خصوصيته ، حيث يتغير ويتلون مع تبدل الفصول .
كذلك جالت في ذهني حروبنا الصغيرة التي كنا نخوضها بأيمان وشجاعة ، وكيف كنا نزعج العدو ونجعله مستنفرا ً ، مؤمنين بمبدأ حرب العصابات .. أضرب وأهرب .
يااااه ، كم كنا شجعانا ، يومها كنا في حركة دؤوب ، نتنقل من قرية إلى اخرى للتزود بالغذاء أو لمحاورة القرويين أو الخلود للراحة في بيوتهم .
لكن بسبب الحصار الذي فرضته السلطة ، وشحة الغذاء عند الفلاحيين المحليين ، اجبرنا منذ ستة أشهر على السكن في هذه الكهوف التي اطلق عليها الأكراد ( شكفته دليفان ) .
توقف جعفر عن الرسم وضحك قبل ان يقول  :
ــ ربع بطل عرق ربما ينقذني .
ولأني لا أستطيع ان احقق له هذه الرغبة ، اكتفيت بالقول :
ــ ولم لا ... حاول أن تتخيل نفسك في حانة سرجون الأكدى ؟
بعدها بدقائق لا اعرف لماذا صرت افكر بغربتي التي طالت ، واخذتني سورة من الحنين إلى أهلي والشوق لأخبارهم ..
ما ان ألتفت الى صاحبي حتى رايته يقترب أكثر من الفانوس في محاولة منه لرؤية خطوط ما يرسم ، وسمعته يقول متذمرا ً : متى ستنتهي هذه الحالة من الغثيان ؟
كنت قرب الموقد حين رأيت الانزعاج باديا ًعلى قسمات وجهه ، حاولت أن أخفف عنه وطأة التساؤل ، قلت وانا اتأمل تراقص ألسنة النار :
ــ دوام الحال من المحال يا ..
حياتنا في تلك الكهوف ليست وهما ً ولا زخرفا ً لفظيا ً دون معنى ، فلكل منا له حلمه المؤجل الذي يخبأه في صدره ، الا جعفرا ً فكان في لحظات امتعاضه يسرني بما يجول في خلده قائلا ً :
ـ أن مرور الزمن على هذا النحو الرتيب ، بات يقوض حلمي .
ولطالما يواصل كلامه قائلا ً : الإنسان أهم من الناس .
على الرغم من اختلافي معه ، لكني بدأت اشاركه ذات المشاعر احيانا ، وإلا ما الذي دفعني قبل ايام ان استيقظ متجهم الوجه واكتب في دفتري الأزرق هذه الخاطرة : ( الحلم الفردي لا يأتلف ولا ينسجم مع صوت القطيع )
كان جعفراً لا يشتكي ، لكني أعرف مقدار تشبثه بذلك الحلم ، او الوصول إلى ايطاليا لتحقيق ما يطمح إليه ، لم يصرح بذلك ، لكنه ومنذ اسبوع صار يردد : لماذا أتينا إلى هذا العالم ؟
كنت أنظر إلى عينيه القلقتين من دون ان أعرف بماذا أجيبه ، فانا الآخر صرت أشعر بان الحصار الذي فرضته السلطة علينا ، اصبح يطالني بالوجع ويشتت طاقتي ، مع ذلك وفي أحيان كثيرة كنا نضحك ونفعل المستحيل لنحافظ على توازننا الوجودي .حتى كنت اظن ان جعفر اكثرنا تشبثا بالحياة … في ذا الأثناء نهض من مكانه ، ذهب وتكور في فراشه وغطى جسده حتى كتفيه بالبطانية ، كان ضوء الفانوس يزيد تقاسيم وجهه شحوبا ً.
قال لي وهو يُدَخن  : يا أبا نجيب ، الأنتصار ان لا نبالي بما سيحدث.
لم افهم ما وراء كلماته ، وبينما هو يهرش لحيته ، دخل علينا زاهد ، ذلك الشاب القروي الذي لم يرَ اية مدينة طيلة حياته .. قرفص عند الموقد .. وبعد لحظة من الصمت وجه َ سؤاله الى الرسام مستفسرا ً :
ـ متى سترسم وجهي ؟
جعفر لم يعكر مزاج رفيقنا القروي ، الذي اتسعت عيناه فرحا ً . بعدما سمع ذلك الرد الساخر  : ان لم أمت غدا ً ، سأحقق لك هذه الامنية !!
كانت الأحاديث والذكريات تنساب وتتوالى في رؤوسنا ، لينتقل زاهداً ويجلس على كومة من الخشب ، متشبثا ً بالأمل ، ملتفا ً بمعطفه المهترئ ، لكنه طأطأ رأسه خجلا حينما سمع  جعفراً يقول :
ــ يا لنا من مساكين ، سنموت قبل ان نستمتع بالشفلح ** ….
كتم زاهد ضحكته ، وتغلب على خجلة ، قبل ان يفاجئنا بعبارته المعيبة  : يا للأسف ، ما يزعجني اني وإلى حد الآن لم أضاجع ولو دجاجة ..
على اثرها ، انتابتنا نوبة من القهقهة حال سمعنا تلك العبارة النابية ، نظرت إلى صاحبي ، هو الآخر صار يراقبني ، جالت في ذهني فكرة حاجتنا للحبيبة ، لكن جعفر بادر قائلا ً :
ـ في الواقع ، حتى الحيوانات افضل حالا ً منا .
بدأ زاهد بالسعال فهو لم يتعافَ بعد من حمى التيفوئيد ، لكن ذلك لم يمنعه من ان يسترسل في هواجسه ومخاوفه ، مؤكدا ً أنه لا يعرف كيف سيتدبر أمره في حالة سنحت له الفرصة واختلى بفتاة ما .
وظل الليل يؤجج فينا الثرثرة ، وحزم الضوء الخافت تغرينا للكشف عما في ارواحنا من خيبة وأمل .. بقينا على هذا الحال لساعة تقريبا ً ، تحدثنا عن النساء و البرد والبراغيث وأخيرا ً عن نوايا الجيش بمهاجمتنا ، كاد النعاس ان يداهمنا لكن بصيص الضوء ظل يغمر وجوهنا بالبهجة .. عندها وقف زاهد وخاطب جعفر قائلا ً :
ــ أتمنى ان أراك بمزاج طيب يوم غد .
لكن الرسام اجابه بحزن : لا اعتقد ذلك .
فرددت عليه ، متمسكا بالفرح :
ــ هون عليك ، غدا ً ستشرق الشمس حتما ً.
فرك جعفر كلتا يديه ، وبنبرة ساخطة قال :
ــ ما جدوى الشروق لطيور بأجنحة متكسرة .
ما ان حلت العتمة في مهجعنا حتى انصرف رفيقنا القروي وهو يغني موالا ً كرديا ً . وصرنا نسمع زخات مطر وهبوب رياح عاصفة ، حينها تكورت على نفسي وحاولت ان اطرد وحشة الليل بتخيل نجوم تتلألأ في قبة الكهف .
أما جعفر ... فقد خرج للتبول ولم يعد ... ...

* دليفان في اللغة الكردية تعني : الرحيم أو الرؤوف
* الشفلح : فرج المرأة