نحو حل لقضية المساواة في الميراث


أشرف حسن منصور
2018 / 11 / 28 - 14:17     

حلاً لقضية مساواة الرجل والمرأة في الميراث، ورداً على من يقول إن النص القرآني صريح في أن للذكر مثل حظ الأنثيين، تعالوا نقرأ الآية من أولها لنرى ماذا تقول:
يوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْن (النساء 11)
الآية تبدأ بكلمة "يوصيكم". إنها إذن وصية، أي نصيحة أو طلب أو رجاء، وهي ليست أمراً أو فرضاً أو إلزاماً. وحسب التكليفات الشرعية الخمسة (الواجب والمندوب والمكروه والمحظور والمباح)، فإن هذه الآية تدخل في باب المندوب، والمندوب هو مجرد دعوة لفعل شيء خير وجيد وصالح، وليس فرضاً أو واجباً أو أمراً، وتركه ليس معصية وليس مكروهاً، إذا كان هذا الترك نحو المساواة وهو زيادة في الخير والإصلاح، بمعنى أن الصعود من النصف كنصيب للأنثى إلى مساواتها بالذكر ليس خروجاً عن الآية أو مخالفة لها، بل هو استمرار في رعاية المرأة وحمايتها وهو مقصد الآية كلها وهدف الإسلام كله. فالعرب لم تكن تورث الأنثى، وجاء الإسلام على هذه الخلفية وأراد أن يجعل للأنثى نصيباً في الميراث، فلم يستطع في ظل ذلك المجتمع القائم آنذاك إلا أن يوصي لها بالحد الأدني وهو نصف نصيب الذكر. لم يكن الإسلام ليستطيع إدخال المساواة الكاملة بينهما نظراً لعدم استعداد المجتمع العربي المعاصر للرسالة والذي سيطرت عليه البداوة والذكورية، والذي لم يشهد حضارة أو ثقافة بعد. فأراد الإسلام أن يرتقي بالمجتمع الجاهلي قليلاً وحسب طاقة هذا المجتمع وقدرته على تحمل الإصلاح الجديد، وإلا لن يقبل ولن يحتمل مثل هذا المجتمع تغييرات كبيرة جذرية في بنيته الاجتماعية. الآن مجتمعاتنا مختلفة وهي أكثر تطوراً بكثير من المجتمع البدوي الجاهلي الذي نزل فيه الإسلام، ومن الضروري استلهام مقصد الشريعة في الدفاع عن حق المرأة. نصيب النصف للمرأة كان هو قدرة المجتمع البدوي على التحمل، فقط، أما الآن فالمجتمع تغير ومن الضروري استئناف مقصد الشرع بتطويره حتى المساواة، فالمساواة في الميراث لن تغضب الله ولن تخالف الشرع، وهي ليست خروجاً عن الآية لأن الآية في باب المندوب، وراعت حال مجتمع النزول، ولذلك كانت مقيدة بما كان يمكن أن يتحمله هذا المجتمع.
أما من يعترض على هذا التفسير بقوله إن آخر الآية يذكر أنها فريضة، فردي عليه هو التالي:
تقول الآية:
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۚ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ۚ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ۚ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ۚ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ۚ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (النساء 11)
وردي على الاعتراض بأنها فريضة لورود عبارة "فريضة من الله" في آخرها، فهو:
وردي على هذه الاعتراضات هو الآتي:
1) أن عبارة "فريضة من الله" المذكورة في آخر الآية يجب أن تُفهم على أساس كلمة "يوصيكم" في أول الآية، فهي فريضة مشروطة ومقيدة بالتوصية التي يوجهها الله للناس، وليست مطلقة. وكونها فريضة مشروطة ومقيدة بالتخيير الأول يجعلها تدخل في باب المندوب لا في باب الواجب أو الفرض. إن كلمة "يوصيكم" تفيد التخيير بين الفعل والترك، وهي تتضمن الدعوة لفعل شيء صالح ونافع فقط دون إجبار، لكن بما أن التخيير يتضمن كذلك الترك دون لوم أو عقوبة منصوصة، وبما أن الشرع أقرب إلى أن يجعل للأنثى نصيباً في الميراث، فقد قيد الله التوصية في بداية الآية بكلمة "فريضة" في آخرها، كي يجعل التوصية تتمتع بشيء من الإلزام، لأنها في ذاتها غير ملزمة وتتضمن التخيير دون عقوبة على تركها. نصيب الأنثى المنصوص عليه في الآية هو الحد الأدنى الذي رضى الله أن يكون لها والذي لا يجب على المجتمع أن ينزل دونه، لكن إذا رضي المجتمع بأكثر من ذلك وتوجه نحو المساواة فلا لوم عليه، لأن الحد الأدنى المنصوص عليه في الآية كان هو المناسب لمجتمع البداوة الجاهلية الذي نزل فيه الإسلام، ولأن مقصد الشرع هنا هو نصرة المرأة وتعزيز مكانتها في المجتمع، وإذا كانت هذا التعزيز وهذه النصرة تتحقق بالمساواة، فلن تكون المساواة مخالفة للشرع بل ستكون متماشية مع مقاصد الشرع. وليس معنى عبارة "فريضة من الله" أن الأنصبة المنصوص عليها في الآية ملزمة أو مفروضة، بل هي في إطار التخيير أيضاً، طالما لم ينزل المجتمع عن الحد الأدنى المنصوص عليه في الآية، وإذا أراد الأب أن يوصي بتقسيم ميراثه بالتساوي بين أبنائه وبناته فلن يلومه أحد ولن يكون بذلك مخالفاً للشرع ولا مخالفاً لهذه الآية بالذات، لأنها تدخل في باب المندوب كما قلت.
2) الآية 13 من نفس السورة تقول "تلك حدود الله...". وتؤخذ كلمة "حدود" على أنها تعني قطعية الأنصبة وإلزامها المطلق، لكن هذا غير صحيح. الحدود هنا تعني الحد الأدنى. حدود الله في المواريث بالذات هي الحد الأدنى الذي لا يجب النزول دونه، أما الذي يزيد في نصيب الأنثى نحو المساواة فهو لا يتعدى حدود الله، لأن هذه الحدود تمنع النقصان من النصيب، لكنها لا تمنع الزيادة نحو المساواة.
3) هناك أحكام قطعية في القرآن صريحة في كونها فروضاً لكن لا يتم العمل بها الآن، مثل حد قطع يد السارق (وهذا أيضاً رد على من يستشهد بعبارة "تلك حدود الله"): وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (المائدة 38)؛
والصدقة للمؤلفة قلوبهم، ولم يعد في عصرنا مؤلفة قلوبهم: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة 60)؛ والملاحظ أن الآية تكرر عبارة "فريضة من الله" الواردة في آية المواريث، وعلى الرغم من أنها فريضة من الله، إلا أن أوجه صرف الصدقات لم يعد بها مؤلفة قلوبهم.
والشهادة حسب الشرع هي رجلان أو رجل وامرأتان، ولم يعد هذا النظام معمولاً به الآن، فالرجل والمرأة متساويان في الشهادة: وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى (البقرة 282)
وهناك آيات كثيرة تعترف بملك اليمين، ولم يعد لدينا الآن ملك يمين، أي النساء اللاتي يتم أسرهن في الحروب أو شرائهن في سوق العبيد ويكون من حق مالكهن معاشرتهن: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ (النساء 3)
وختاماً، فإن الأمثلة التي ضربتها هنا توضح أن المجتمعات البشرية تتقدم بحيث تتجاوز المستوى الثقافي والحضاري والعقلي لمجتمع نزول الرسالة. ولا يمكن أن يكون من مقاصد الشريعة أن تقف في وجه التقدم البشري، بل كان مقصدها هو الارتقاء بمجتمع النزول بالدرجة التي تناسبه في زمانه.