بلزاك..(سكرتير) التاريخ! والكوميديا (البرجوازية) بين الادب والسياسة (13-والكامل)


ماجد الشمري
2018 / 11 / 26 - 19:01     

"ان الكتب ليست الا افعالا انسانية في حالة موات"...
-بلزاك-


قبل ان يكمل مخطوط مجلده الاول من(رأس المال) بصيغته النهائية المنجزة عام1867 كتب ماركس رسالة الى انجلس يطلب فيها منه ان يقرأ قصة بلزاك(التحفة المجهولة)والتي وصفها بقوله في تلك الرسالة:"ان هذه القصة هي تحفة صغيرة بذاتها،او تسودها روح سخرية بهيجة".ومضمون القصة معروف للمطلع على نتاج بلزاك الادبي.وهي باختصار: عن رسام سعى من اجل بلوغ الكمال الفني التشكيلي.وبعد عمله لعشر سنوات في لوحته،معتقدا بأنه افلح في انجاز تحفته الكاملة،فلم يجد فيها اخيرا سوى ماقاله:"ليس ثمة معنى"!فهاج غاضبا وطرد صديقيه اللذان حضرا لمشاهدة ابداعه الباهر،واحرق لوحاته ثم انتحر!.وماركس كان يستبطن وهو يقارن بروح نقدية ساخرة بين قصة بلزاك الفلسفية العميقة حول الرغبة والشغف الانساني لبلوغ الكمال الفني -المستحيل،،وبين عمله النقدي والاهم(رأس المال)والتعبير عن مدى قلقه الدائم،وهوسه الموسوس لتحقيق اقصى الكمال والاحاطة عرضا وتحليلا ونقدا لبنية نمط الانتاج الرأسمالي وبيان تناقضاته وازماته.وقناعته بأنه لم ينتهي من وضع اللمسات الاخيرة-بعيدة المنال- لكتابه العمدة في تشريح الرأسمالية ورصد آليات حركتها.وهذا ماقاله حرفيا:"كلا.كلا لم يزل يتحتم علي وضع اللمسات الاخيرة،امس اعتقدت عندما هبط المساء اني انتهيت من كتابته،ولكن عندما طلع ضياء الصباح ادركت اني كنت مخطئا".فماركس لم يصل للرضى التام عن بحثه ذاك،والذي كان في حالة صيرورة ونضوج مستمرة،فهو كان يحذف ويضيف،ويدقق ويمحص ويعيد صياغة نصه، ويملأ مخطوطه بالهوامش والتذيلات والتعليقات!.فرفيق ماركس الدائم كان قلق الرغبة في الكمال والانجاز التام.ومنذ ان شرع ماركس في كتابة رأس المال عام1847 وهو يجادل ناشره الالماني حول تأخره في ارسال مخطوط المجلد الاول،ويعلل تأخره بالمراجعة ووضع الصياغة النهائية للكتاب،ولكنه لم يفعل!.فقد كان حريصا في مراجعته لما يكتب،فيعيد الكتابة بعد كل مايستجد او يطلع عليه من وقائع ومعلومات جديدة تفرض عليه التعديل او التغيير واعادة الصياغةمن حذف واضافة،وقد استغرق هذا ماينيف على عقد ونصف،وكتاب رأس المال لم يكتمل الا مجلده الاول،فهو بعيد عن الكمال كتحفة بلزاك المجهولة والمشوشة!.فماركس كان يرى نفسه كفنهوفر-بطل بلزاك،م.ا- الفنان الطامح للوصول الى الكمال في ابداع تحفته الفنية،والتي تمخضت عن لاشيء بعد ان عمل عليها لاكثر من عشرة اعوام!.كان ماركس يرغب بأن يجعل من(رأس المال)تحفته الفنية في مجال الاقتصاد السياسي لامن حيث المضمون فقط بل من حيث الاسلوب والصياغة والتعبير البلاغي الساحر.وهذا مايثبت بأن ماركس كان متأثرا بالادب والشعر والفن اولا، واكثر من اهتمامه وتأثرة بالفلاسفة والمفكرين،فالادباء والشعراء هم ملهموه،وكان بلزاك واحدا من ابرزهم. في هذا المضمار.- لقد عرجنا على ماركس في هذه المقدمة،في حين ان المقال عن بلزاك ،لنبين اهمية ودور رائد الوافعية الفرنسية في النصف الاول من القرن التاسع عشر على المفكر الابرز لذلك القرن والذي تلاه،وليس من الصدفة ان ماركس كان يفكر بكتابة بحث عن بلزاك، ويتمنى الانتهاء من مااسماه"اللعين الاقتصادي"ل"رأس المال"لكي يتفرغ لذلك البحث،ولكنه مع الاسف لم يحقق ذلك،فهل هذا من سوء او حسن الحظ حتى ينجز كتابه الكبير(الرأسمال) الذي لم يكتمل!-..
ولد اونوريه(هنري)دي بلزاك في 20 مايو عام1799-وتوفي في18 اغسطس عام1850-روائي وصحقي وناشر وناقد ادبي ورجل اعمال فاشل!. -وكما يقول مثلنا الشعبي العراقي:"سبع صنايع والبخت ضايع"!-وهو رائد الرواية الواقعية الى جانب غوستاف فلوبير.كان غزيرا في انتاجه القصصي والروائي والكتابة الصحفية خلال نصف القرن الذي عاشه.كانت اعماله بانوراما كاشفة،وصورة حية،وانعكاس مرأوي للمجتمع البرجوازي الفرنسي ابان عودة الملكية1815-1830-وملكية تموز1830-1848عاصر افول الامبراطورية البونابرتية وثورتان وملكيتان،والمد البرجوازي الطاغي سياسيا واجتماعيا واقتصاديا.وكل ذلك انعكس في ماكتب من روايات كانت تصور الواقع بحيادية وتجرد مع انها تخالف اهواءه ومعتقداته المحافظة.
كتب بلزاك91رواية و137قصة قصيرة على مدى ثلاثين عاما هو عمره الادبي.وحضى بلزاك باهتمام وتقدير الكثير من معاصريه:مفكرين،وادباء،وراديكاليين لما في رواياته من نقد اجتماعي حاد وساخر لحياة وقيم الاقطاع والملكية والبرجوازية الفرنسية الصاعدة دون ولاء او انحياز سوى للحقيقة وحيثيات الواقع المعاش.تلك الفترة العارمة من الغليان والاحتدام والصراع والهزائم التي عاشها،بين حلم الثورات بعالم افضل،والآمال الرومانسية التي تعثرت واندحرت،وبين كابوس الواقع المر لبرجوازية جشعة متعطشة تعبد المال،تنكرت لكل القيم والفضائل الجديرة بالاعتبار ماخلا فضيلة كنز المال وتثميره،وتجاوزت ماضيها وشعارات ثورتها الثورة الفرنسية الخالدة عن الحرية والمساواة والاخاء..
ومن بين الذين اعجبوا ببلزاك اضافة لماركس وانجلس، لوكاش،وهاينه،وبليخانوف،سانت بوف،ستندال،لامارتين،بروست،وغيرهم الكثير ممن عاصره..من الناحية السياسية والدينية كهوى او رأي او ايمان كان بلزاك من دعاة الملكية المطلقة ومن الملتزمين بالكاثوليكية.وكان يكره بشدة ملكية تموز وحكم لويس فيليب"ملك رجال البنوك"-كما كان يلقب-والذي انتهى حكمه في ثورة1848-قبل موت بلزاك بسنتين-وكان بلزاك يفضل حكم الجمهورية على حكم لويس فيليب،ان لم تكن هناك فرصة لعودة الشرعيةللملكية المطلقة.وقد نحقق ماتنبأ به من سقوط مدوي لملكية تموز،وانتشار الدعوة للديمقراطية والاشتراكية ابان ثورة شباط وانتفاضة حزيران عام1848في باريس. وقد اعتبر بلزاك تلك الهبات السياسية الراديكالية كنتيجة لعجز البرجوازية وانانيتها وجشعها المالي على حساب الديمقراطية والغدالة الاجتماعية،ولامبالاتها بسخط وبؤس الكادحين والطبقات الفقيرة..
ليس هناك من مفكر او روائي كتب او دون مجريات المخاض العسير والمؤلم لتاريخ حقبة طويلة من تاريخ فرنسا واوضاع الطبقات في الفترة الانتقالية وصعود النظام الرأسمالي اقتصاديا وسياسيا،والتدهور والانحطاط القيمي والروحي,والذي لوث كل الطبقات العليا والدنيا،كما فعل بلزاك بقلمه-مبضعه في ملحمته البشرية"الكوميديا الانسانية".كان بلزاك حزمة من التنافر والغموض والتناقض،فهو كان انسانا منشطرا في اهواءه بين الملكية المطلقة والكاثولوكية في آراءه السياسية والدينية،وبين امانته وصدقه في ابداعه الروائي القاسي في واقعيته، تلك الواقعية التي كانت تفرض نفسها عليه وهو يجابه يوميات مايحدث في قلب المجتمع الهادر بتحولاته وصراعاته،وايضا تصوراته الرومانسية وشطحاته الخيالية في قصصه السوداء،وبين رغبته الملحة في الصعود الاجتماعي والاغتناء والوجاهة.
كان بلزاك يكره الثورات وصراعاتها وفوضاها.ولكنه عبد مآلها وانقلابها العسكري،برمزها السياسي التاريخي المشخص بنابليون بونابرت الذي اعتلى بقايا الثورة،لينتج منها مسخها الامبراطوري!.لقد كان بلزاك برجوازيا صغيرا نموذجيا في تذبذيه الفكري وخياراته السياسية،وكان يتطلع بحماس للانسلاخ من طبقته والارتقاء لمرتبة ارقى طبقيا.وهو غارق في وحل الحاجة والديون،فكانت تتجسد فيه كل تناقضات وتلون وتذبذب طبقته النغلة وانتهازيتها وانانيتها ومصلحتها الممزقة والحائرة بين احلامها الوردية المستحيلة،وحقيقة بؤسها القاتم الدائم لتقف في برزخ العذاب كطبقة مرعوبة من البروليتاريا ومسحورة بالبرجوازية!.ولكن بلزاك يبقى من الناحية الادبية رائدا نزيها ومحايدا في نقل الواقع وهو يبدع في شخصيات رواياته الواقعية والامينة في عرضها لاوضاع المجتمع البرجوازي الفرنسي لتلك الفترة.
وصف انجلس بلزاك ومدى اهميته بالنسبة لماركس قائلا:"ان ماركس كان متحمسا لل"الكوميديا الانسانية"،هذا العمل الادبي الذي يعكس ويصور مرحلة تاريخية بكاملها".وماركس بدوره اقر بذلك عندما قال:"لقد تعلمت من هذه"الكوميديا الانسانية"اكثر مما تعلمته من جميع المؤرخين المحترفين والاقتصاديين والاحصائيين في هذه الفترة".وقد أبن فكتور هيجو بلزاك عند قبره واصفا اياه بقوله:"فأن شاء ام ابى،فمؤلف هذا العمل الجبار والفذ-يقصد الكوميديا الانسانية.م.ا-ينتمي الى النخبة الممتازة من الكتاب الثوريين".وعن الكتاب الذين جاءوابعد بلزاك اشار لهم بليخانوف بهجاء قاس قائلا:"انهم لم يكونوا اطفالا جديرين بأبيهم".وقد مدحه تولستوي معترفا بفضله عليه،وانه تعلم الكتابة بعد ان قرأ بلزاك.وكان الشاعر الالماني الثائر هنريش هاينه من الذين اعترفوا مبكرا بعظمة واهمية ادب صديقه بلزاك.وعن بلزاك قال غوركي:"انه شفاه من رومانيكيته المضطربة".وكان اسم بلزاك وادبه هو راية الهجوم التي رفعها نقاد الادب الماركسيين في فرنسا وغيرها من بلدان ضد ادب اميل زولا،ومنهجه الطبيعي المبتذل،وغيره من الكتاب الذين لم ينعكس الواقع الصادق في مرارته في ادبهم ابدا.وهكذا نجد ان بلزاك بهذه الشهادات المهمة بحقه التي تثبت بأنه كان فنارا مضيئا لسفن الادب التائهة!.كان بلزاك أميناً جداً و صادقاً في عرضه السردي لماهية و طبيعة المجتمع الفرنسي: أجتماعياً - اقتصادياً و سياسياً من خلال نتاجه الادبي - الروائي الواقعي المشخص نقدياً ، و لم يكن راغباً لا بتجميله و لا امثلته بخيال مجنح . فقد دون روائياً و بحرفية فذة كل تفاصيلها الدقيقة حتى التافه منها، و عكسه بكل قبحه و لا انسانيته. و قد لمس انجلس ذلك ايضاً بادراكه أن بلزاك أدان ارستقراطيته الغالية الغاربة بوعي و رغم انفه! . و التي :" تعتبر احدى الانتصارات الكبرى للواقعية " - على حد قول انجلس - فبلزاك كان اقرب لباحث منه لأديب روائي . باحثاً في مختبر المجتمع يسعى لاقصى قدر من الدقة العلمية في وصفه لظواهر عيانية ملموسة و مدروسة بتجرد علمي و حياد محض ، بعيداً عن العواطف و الهوى . و هذا ما وصف به بلزاك نفسه، فهو يرمي لكتابة :" فلسفة لطبيعة المجتمع". كما انه اراد ان يصبح :" عالم الطبيعة للرواية ". او كما وصفته الكاتبة ( جورج صاند) قائلة :" انه اراد ان يكون ناسخاً فقط، و مخلصاً في تسجيله الى اخر حد " . أو كما قال هو يوماً معلناً عن طموحه :" لو كان المجتمع الفرنسي كاتباً للتاريخ ، فسأكون السكرتير فقط " . لم يكن بلزاك يهدف لكتابة ملحمة أو تأليف سيمفونية أو ابداع كوميديا او تراجيديا ، بل كان كل طموحه ان يكون مجرد ناسخاً للحقيقة ، و مرآه جلية تعكس صورة الواقع الفرنسي بكل عريه و فظاظته. فهو لم يكن يعير وزناً لمكانته كأديب ، و ما كان عليه ككاتب روائي أن ينزع لصقل اسلوبه و لغته البيانية . فقد أرسل لشقيقته لور دي سورفيل مخطوطة روايته ( طبيب القرية) لتقوم بتنقيحها لغوياً و أسلوبياً قائلاً لها: " لو أمكن كتابة جملتين في جملة واحدة ، فأرجوا ان تحاولي تركيب الجملة من جديد" . فلا الموهبة ، و لا التمكن من الكتابة الادبية ، و لا البلاغة اللغوية ، و لا الشكل الادبي الرفيع المتميز ، كل هذا لم يشكل هماً أو قيمة او قلقاً لديه بقدر ما كان يبغي الدقة لحد التزمت في نقل ادق التفاصيل للواقع المعاش ، و حيثياته حتى الهامشية منها بأمانة نقل فوتغرافي، و الغوص في أغواره العميقة ، و بسط الخفايا السايكلوجية لشخصياته الغنية و المتنوعة و كشف بواطنها ، و فضح ما تخفيه . هذه هي حقيقة ادب لزاك ، و ما كان يؤمن به كرسالة خاصة به كمؤرخ و عالم نفس و فيلسوف في الطبيعة الشخصية و السلوكية للبرجوازية الفرنسية . فهو كان المستكشف الدؤوب لجوهر العمل السردي ، و الذي لم يكن يتبع فيه منهج و نمط المدرسة الطبيعية في الرواية كما هو الحال لدى أميل زولا، فهو لم يكن معنياً أو مهتماً بسرد قصص الحب و الفضائح الملكية و الشذرات التاريخية و الفولكلور و الحكايا الشعبية ، بقدر ماكان يسجل بحياديته الحقائق الاجتماعية العامة المستترة و السافرة ، برصدها و تسجيلها و كأنها نسخ توثيقي أمين لمجريات دراما حيوات شخصياته البرجوازية الحية في البيوت و داخل المكاتب و الغرف الخاصة ، و هو حاضر معهم كمراقب صارم يدون ما يراه!. فهو يقول في مقدمة :" الكوميديا الانسانية " :" لابد للمجتمع ان يحمل في داخله قانون حركته كما هو معروض ". هذا المجتمع الذي كان يمور بالحراك و التغيير المتصاعد و يخضع في علاقاته المتناقضة و صراعاته و تأثيراته على الافراد و الطبقات ، و شرائح من الطبقة الاجتماعية البرجوازية المسيطرة ، و مستجدات العلوم و التطور التكنلوجي و تطبيقاته الصناعية ، فيصهر كل هذا في مرجل الرواية لتخرج معبرة بموضوعية كوثيقة تاريخ ، و وقائع زمنية لتلك المرحلة التاريخية المهمة و التي عاشها المجتمع الفرنسي. و كل هذا كان مركزاً و مكثفاً في مضامين رواياته كلها . و ما ان ادرك بلزاك ان مخططه لتنفيذ مشروعه الادبي الكبير - انتاجه الروائي - لتأرخة حقبة غنية من تاريخ البرجوازية الفرنسية و سيروريتها التي تبدو بلا نهاية في النصف الاول من القرن التاسع عشر المحموم، و ان عناصر عمله السردي العملاق و المتلاحم لايمكن اعتباره عملاً متكامل الوحدة و ناجزاً كلياً ك " الكوميديا الانسانية" حتى حاول - و لكن دون ان يفلح - ان يقسم عمله الروائي الى " فصول من الحياة الخاصة " و " فصول من الحياة الباريسية " و " فصول من الحياة العسكرية" .. الخ من اسماء و عناوين لتلك الفصول شبه المستقلة في موضوعاتها ، و ظل هذا التقسيم المتعمد لأوجه و عناصر مشروعه منزلقاً لا يركن لثبات نهائي ، لأن بلزاك كان دائماً ما يغير في تلك العناوين الفصلية مع كل طبعة جديدة لرواياته المنشورة . فقد كان شيئاً بالغ الارباك و التشتت أن تقرأ عن الحياة العسكرية دون الالتفات أو الربط مع الحياة السياسية ،او الحياة الخاصة و العامة . فكل الجوانب و الظواهر المجتمعية كانت ملتحمة و مترابطة دون فكاك . و كما يتعذر مثلاً : فصل علم الاجتماع عن الفلسفة و علم النفس ، او الفيزياء عن الكيمياء ، و البايولوجيا عن الفيزيولوجيا ، كان الامر كذلك في الحياة الاجتماعية ، الاقتصادية و السياسية ...الخ . كما ان بلزاك لم يترك اي ثيمة أو موضوع الا و طرقه متناولاً اياه بتفصيل و تفحص و امعان ، و جعل فيه مادة للتشريح و العرض مهما كان محرماً او منفراً أو لا اخلاقياً أو مرفوضاً في عرف و تقاليد مجتمعه و ثقافته السائدة فنجده في رواية " سارازين " يحلل بدقة و فطنة قضية الشذوذ الجنسي !. و في رواية " الفتاة ذات العيون الذهبية" يعالج موضوعة السحاق!. و في رواية " ابنة العم بت " عرض لسايكولوجيا الشبق الجنسي و الاثارة المجنونة!. و في روايتي " عائلة مزدوجة" و " الزنبق في الوادي" كشف خبايا و اسرار المخدع الزوجي و الخصوصيات الحميمية !. و كان لا يتورع في الغوص عميقاً في خفايا و مجاهيل الانحراف و الشذوذ و الممارسات و الحالات غير الطبيعية ، و غير المعروفة او المستساغة في المجتمع الفرنسي ليجعل منها موضوعاً و مادة لنص ادبي يكتبه سريعاً .
لم تكن هناك محددات أو عوائق تردعه عن الجرأة في انتهاك كل التابوات أو المقدسات و التقاليد الاجتماعية القارة ، و التي تميز والتزم بها ادبياً و فكرياً أدباء ك : مارسيل بروست ، فيكتور هيجو، غوستاف فلوبير ، اندريه جيد. فبلزاك كان رجل علم و مختبر الواقع بكل مفاصله و خفاياه ، فهو عد رواياته بمثابة بحث علمي دقيق بارع في سرده الوصفي ، و عميق في شرحه لمظاهر الحب الفيسيولوجية و النفسية . و هذا مادعى جورج صاند لوصفه ب " العجوز الوقح" !. و لكن هذه المميزات الفريدة لدى بلزاك لم تكن طبعاً رذائل لا اخلاقية ، او خروج عن المعايير الاجتماعية ، او مرضاً نفسياً ، او شذوذ في التفكير و الذهنية لديه . و لكنها بكل بساطة واقعيته المتطرفة في نقل الواقع بكل مافيه من غرائبية تفوق الخيال وتصدم ببريتها الاذواق المرائية و المنافقة . فبلزاك كان مستعد للتخلي عن حياته المستقرة و عن عشيقاته اذا ماتطلبت الضرورة مقابل التفرغ لعمله السردي و اختزالها-حياته- في الكتابة فقط!.كانت تحفة بلزاك الادبية " الكوميديا الانسانية " متخمة بعناصر الحياة المعتادة و المألوفة لطبقة البرجوازية الفرنسية و شرائحها المتعددة ، و كان الحب واحداً من تلك العناصر ، و التي تناولها بلزاك بشفافية و اعتدال دون مبالغة أو افراط غير ضروري . فعلى العكس من الادباء الذين كتبوا حول موضوعة العلاقات العاطفية ، و الحب بشكل رومانسي تقليدي : ليالي القمر ..نجوم الليل.. هدير البحر.. تنهدات الاحبة ، و العاطفة الجياشة لدى العشاق المغرمين. نجد بلزاك و بوعي باهر و واقعية باردة يقر بحاجز التفاوت الطبقي و التراتب الاجتماعي كعائق رئيسي و سد شاهق أمام علاقات الحب و التقارب بين الجنسين ، و صعوبة بل و ندرة تجاوزه و خرقه الطبقي . وأن الافراد من الجنسين يخضعون لقوانين الطبقات الاجتماعية سواء داخل الارستقراطية أو البرجوازية ، لا لقانون الحب و العواطف!. فالحب الذي يكسر الطبقة أو يخترقها كان هراءا و سخف ساذج بالنسبة اليه ، و لايتحقق قطعاً الا في الاحلام المثالية و الروايات الغرامية الرومانسية الساذجة . فالحب و العاطفة العشقية كانت هامشية أو مسألة ثانوية بالغة التفاهة في العرف الاجتماعي الطبقي الصارم و الحريص على نقاءه من التطفل الطبقي ، و الغاء الفوارق حتى في مجال الحب . صحيح ان بلزاك عالج ثيمة الحب في رواياته، و لكن قليلاً ، و بشخصيات فريدة و معدودة مثل : " حب اوجيني غرانده" و حب " بيريت" و " اوغوستين" و حب " جاستون" .و قد كان قمة في تصويره لهذه الحالات من الحب ، و عرضه للعاطفة الانسانية بأصدق تجلياتها و حضورها ، الا ان بلزاك : رجل العلم الطبيعي الادبي لم يقم وزناً. للاعراق الارستقراطية النقية ، و لا للقيم السامية المحلقة ، و لا للحب المثالي البري ، و دوافع السلوك المستقيمة . فشخصيات " الكوميديا الانسانية " سواء انحدرت من طبقات عليا نبيلة او برجوازية او من طبقات القاع الاجتماعي او كانت ذكية ماكرة او غبية ساذجة، فهي جميعاً و بشكل عام خضعت لمبضع "مشرط" الجراح العلمي العقلاني الذي لا يسمح لنفسه بأن يسرح مع الخيال المنفلت و هو يتعامل مع جسد حي . كانت خلفية بلزاك الفكرية و الدينية هي كهنوتية محض ، و عقيدته الدينية هذه هي سياسية عملية خالصة بقشرتها اللاهوتية . فقد كان واعياً و مقتنعاً بالعامل الديني كأديولوجيا متجذرة في المجتمعات ، و كان يدرك جيداً دور الدين و الكنيسة أجتماعياً و سياسياً و سايكولوجياً و ثقافياً . فقد كتب في عام 1832 يقول:" أليس الدين هو أقوى وسائل الحكم لأفهام الشعب على تحمل آلامه و عمله الشاق مدى الحياة ". و كتب أيضاً :" الله و الملك : هذان هما القانونان الوحيدان اللذان يوقفان الفئة الجاهلة من الشعب عن حدود الصبر و الاستسلام " و رغم الطابع الفظ و الرجعي في مايقوله بلزاك ، و هو كريه حقاً و غير مقبول و معادي للشعب ، و يشبه جداً ما قاله كازيمير بيرير بعد ثورة عمال النسيج في ليون و هو يخطب في الحشد العمالي :" ليعرف العمال ، ليس لهم من امل سوى الصبر و الاستسلام ". هذه الكلمات التي تتضمن الاعتراف بأن الطبقة الاخرى ( غير الجاهلة ) و التي لاتعرف بؤساً و آلام ، و التي ليس عليها ان تتجرع مرارة الصبر و عذاب الاستسلام و ذله - و السيد بلزاك ضمنها طبعاً!- تستطيع ان تعيش بدون حاجة لأوهام الدين ، فهو حاجة و ضرورة لتخدير العمال! ف " الدين هو رابطة جميع القوانين المحافظة التي تسمح للاغنياء بأن يعيشوا بهدوء ". - بعيداً عن ازعاج الرعاع!- و " الدين مرتبط بصورة لا انفصام فيها مع الملكية". هذه السخرية الفاضحة في رواية " دوقة لانجيز " تمر عبر قلم بلزاك تثبت بأنه كان ينظر للدين بموضوعية و عقلانية ، و يعرف دوره الكابح للجماهير المحرومة. أما ابطال و شخصيات بلزاك الايجابية في رواياته و هو معهم ايضاً ، فلا تنطلي عليهم و متحررين من شباك اللجم و الضبط الديني بقيودها هذه ، فهم شخصيات مرحلتهم الملحدة أو ضعف الايمان الديني و أفوله في عصر البرجوازية التي لاتؤمن بغير المال فهو الاله الجديد المجسد !.. في رواية " المطعم الاحمر " و عندما يكون على فكتورين أبنة تايلفر الوحيدة ان تتزوج دون دفع مهر ذلك الزواج مع ان مصدر اموال المهر هو من تلك الجرائم التي قام بها الاب ، ثم يبحث اباها عن وسيلة تكفير عم جرائمه ، فيفكر في التبرع للاعمال الخيرية الدينية ، لكنه يتراجع بسهولة و برود ، و ليطرح تلك الفكرة الغبية جانباً و هو يبرر ذلك قائلاً :" اننا نعيش قبل كل شيء في منتصف القرن التاسع عشر "! و كان تايلفر صادقاً ، فلم تعد البرجوازية تفرط بأموالها من اجل ترهات الدين و الاعمال الخيرية!. لو بحثنا في كل نتاج بلزاك الروائي فلن نجد اي مظهر أو سلوك يدل على الايمان الديني الحقيقي في تقواه و صدقه ، و تخلو رواياته من اي شخصية تقية في ممارسة العبادة فتصلي بحرارة و أيمان روحي من الاعماق. حتى في روايته " قسيس من تورز"، فقدسية الحياة الزوجية و عفتها لم تعد تبعث الاحترام أو تثير الاعجاب لدى اي فرد في عالم باتت فيه الحياة الروحية مبتذلة و سوقية ، و امراً مألوفاً و سائداً كنفاق اجتماعي يمارسه بأدعاء البر و الفاجر ، و ينعدم الفرق بينهما .. و أكثر من ذلك و أبعد يقدم بلزاك في رواياته : المسيحي الكاثوليكي كأنسان بليد و فاسد اذا توفرت الظروف ، في حين يجعل من الملحدان بيانشو و ديسبلان على النقيض تماماً فهما اشرف و أنبل شخصيات " الكوميديا الانسانية " . و ما لدى هيجو الرومانسي الذي يرفض استغلال الله من قبل الكهنوت ، و بذلك ينزه و يعترف بوجود الله و سموه ، لانجده لدى بلزاك ، بل العكس تماماً فهو ينفي هذا التمييز و يرفضه فليس من تناقض أو تنافر بين الايمان و سوء استغلاله ، فكلاهما يدعمان بعضهما ، و لا ايمان بدون استغلاله و توظيفه لمصلحة الكهنة . فبلزاك يقول : " لنعترف فيما بيننا ، فلو لم يكن الله موجوداً ، لكانت القوانين بالنسبة للمحتالين أمراً رائعاً " هذه العبارة الاخيرة هي من رواية " بيريت " المؤلمة و ماتعنيه بالضبط هو : ان الله على مايبدو هو اكتشاف مخفف من آلام ضحايا قانونية الاشياء التي تخدم في النهاية قضية واحدة فقط ، الا و هي اعطاء كل الحرية للمحتالين و حمايتهم!.هكذا كان بلزاك..فموقفه وفلسفته هي بالضبط موقف وفلسفة برجوازي صغير نموذجي.وينتمي فكريا لثقافة وقيم تلك الحقبة الزمنية للقرن التاسع عشر،وبداية الصعود الظافر لمثله الاعلى الاقتصادي:البرجوازية الفرنسية.ان الايمان الديني الذي كان يمضي نحو التلاشي،ليحل بدله الدين البرغماتي النافع،منح السماء آلهة ارضية جديدة.وكما قدم العلم الذهب،فالبرجوازي هو وريث الموسوعيين الوحيد،بأعلانه العقل ربه الجديد المسيطر على كل شيء في هذا العالم.لان العلم وتراكم المعرفة هو المحفز الرئيسي ومهماز التقدم العلمي-الصناعي-التكنيكي،وهو الذي يزيد من تنمية وتثمير ثروة البرجوازي وتراكمها مع الربح عبر دورة الانتاج والتجارة وتوسيع الاسواق.لذا نجد ان "الكوميديا الانسانية"لم تكن مجرد عمل روائي محض وعابر لكاتب فقط،بل كانت اكبر من ذلك بكثير.فهي ترجمة حرفية لسيرورة طبقات اجتماعية داخل المجتمع الفرنسي.فبلزاك وعمله السردي الطويل-وكما وعى ذلك جيدا-هو عمل هائل لعالم اجتماع مادي ،ومحلل سايكولوجي فهم النوازع النفسية التي تحرك الافراد.فنبذ كل المفاهيم والقيم التقليدية،وآلهة الزيف العقيمة،وكل ترهات الاوهام واللامعقولات،ليتصدى للمادي الملموس الذي يراه محركا لكل الفعاليات داخل المجتمع.فقد عرض الواقع الاجتماعي بكل وضوح وجلاه من اي تزويق مثالي او رتوش تضبب ملامحه،لتضلل القاريء باوهام وخيالات.فلا الحب ولا الايمان الديني ولا الاخلاق ،ولاكل علاقات البشر الانسانية كما يجري تصويرها او تصورها،وهي خلاف ماهيتها في حقيقتها في مصهر الواقع العياني واتونه الملتهب بالصراع والتنافس..عرض بلزاك حقيقة التناقضات الطبقية،ومصائر الافراد والشرائح الاجتماعية بشكل مباشر وامين،سواء في المدينة او الريف-كما في رواية الفلاحون.م.ا-.لم يكن بلزاك مخترعا او متخيلا لشخصيات رواياته،ليس من رأسه،بل كان يغرف شخوصه من بيئته وزمنه وناسه ماشاء من ذوات يجعلها حية تدب في تاريخه الروائي.وكان فعلا كما قال عن نفسه:سكرتيرا للتاريخ!.فهو يستحق بجدارة ان يطلق عليه:مؤرخ المجتمع الفرنسي،او كاتب التاريخ الاجتماعي،وجراح الواقع!.ففي كل ماكتبه حاول اثبات صفاته تلك،والظهور او الاطلاع بهذا الدور،بتأكيد هدفه المعلن من الكتابة،بنقل وعكس الواقع الصادق الحي في مدونته الموسوعية الميتة بين دفات الكتب!.وفعلا وبكل امانة مرآوية وموضوعية فعل ذلك.ففي قصة"موريست فينو"والتي كتبها بأسلوب المؤرخ الموضوعي،والمخلص لواقعيته الاجتماعية،كتب قائلا:"ان على كاتب الرواية ان يستخدم الوسائل الفنية،وهذا حق طبيعي مسموح به،فالطبيعة اباحت لنفسها دائما وابدا ان تكون اكثر ابداعا منه،فكما ترى،الطبيعة سمحت لنفسها هنا ان تعرض القصة بصورة تبدو اكثر تشويقا من الرواية".لم يكتب بلزاك الا عن اشياء وموضوعات واشخاص رأهم وعرفهم وعايشهم،استلها من الواقع العياني لحقائق ومجريات وقضايا تاريخية حدثت دون شك.فهو لم يتصدى او يتناول في كل اعماله الادبية:الموضوعات الغيبية،او الماورائيات وشؤون الالهة والروحانيات،بل رصد وراقب وسجل الاحداث والشخصيات والتفاصيل اليومية الملموسة كبيرها وصغيرها،فهو كان مطلعا وعارفا بكل شيء اجتماعي في كل ماكتبه،بسرده اللاقط لحيثيات ودقائق الواقع باطنها وظاهرها.حتى انه ولدقته التسجيلية الحرفية كان يستند على التوثيق التاريخي لمجريات ماكان يرويه،وعندما تعوزه الوثائق وتكون ناقصة،يلجأ للاحتمالات،ويعتمد على خبرته وصدق حدسه لما يقارب الحقيقة.وهنا نجد لدى (كاتب التاريخ)-بلزاك-استخدامه الواسع لكلمات عدم اليقين والشك مثل:"ربما"و"من المحتمل"و"اظن"و"اعتقد"!.ومن تلك المستندات التي كان بلزاك يعتمد عليها ويستخدمها في توثيقه:سندات الملكية،وحسابات الانفاق المنزلي،ونصوص الوصايا والارث،الخ.فقد كان يضع حزمة براهينه على واقعيته امامنا كمسجل عقود او كاتب محكمة،كرسالة بلونده في بداية رواية"الفلاحون" والتي عثر عليها بالصدفة!.ووثيقة الاتهام التي تكشف سر مدام دي لاشانتري،ورسالة الرجاء للمركيز ديسبار في رواية"الحرام"وكالتزام صارم بالصدق الواقعي،كان بلزاك ينقل بصورة حرفية حتى الصيغ القانونية الجافة والمملة،وكليشهات الجمل المكررة من كثرة استخدامها،بل واكثر من ذلك،ففي رسالة ناتالي دي ماندفيل الى زوجها التعيس في رواية"عقد زواج"والتي تنتهي بهذه الكلمات:"خذ ثانية القبل التي اضعها لك في المربع الفارغ في الاسفل...ناتالي".-يوصي بلزاك بطبع مربع صغير تحت توقيع ناتالي عند نشرها!.وفي رواية"اوهام ضائعة"يورد بلزاك حسابات مدونة كوثيقة،وهي وثيقة دقيقة مؤكدة وحرفية،فحتى مشتريات الدعاية لعطر الوجه وكريم السلطان للجمال حاضرة في تفاصيل الرواية!.فبلزاك كان يسجل الواقع بكل دقائقه وحتى غير المهم دون كلل او ملل.فهو وكما يقول:"يريد ان ينافس سجلات مكاتب الزواج"!.انها اكثر من منافسة بكثير،فهو يطمح لهتك كل الاسرار والخفايا والتفاهات واليوميات المضجرة والكئيبة،والتي نجدها عبر طيات اوراق موسوعته الروائية"الكوميديا الانسانية".فنحن نلتقي الشخوص الروائية كألاب جوريو،ولكن بأسمائهم الحقيقية مثل:نابليون،وتاليران،وفوشيه،ولويس الثامن عشر،وحتى خياط بلزاك الخاص-بويسو-كلهم اشباح واقعية تحوم في"الكوميديا الانسانية"وفيها ليس هناك من خيال،فقط الواقع الجاثم الصادم بواقعيته.وليس بأمكان بلزاك ،-عندما كان يحاول في بعض روايات"الكوميديا الانسانية"ان يغير او يبدل في بعض الشخصيات والاماكن بغرض تمويه اصل الشخصية-ان يظلل القاريء الحصيف ويخدعه،الاا ن القاريء المطلع وخصوصا الفرنسي الذي يعرف تاريخه جيدا ان يتعرف وبكل سهولة على تلك الشخصيات الحقيقية المموهة بأسماء اخرى في هذا السفر الادبي الكبير.كان بلزاك في سرده الروائي معنيا بالتواصل مع قراءه،وكأنه يتحدث اليهم-الينا،كما نتحدث نحن انفسنا الى غيرنا بعد مشاهدتنا او معايشتنا لحدث او واقعة بكل دقة وتفصيل.هذه الدقة والتفصيل في السرد...هذه التسجيلية والتوثيق في عرض ونقل الواقع حرفيا،هي ضعف شنيع وقصور في عالم الكتابة الابداعية،فهي تقتل روح الادب اسلوبا وشكلا،وتحوله الى تاريخ ميت،جثة هامدة!.وهذا هو بالضبط ماكان بلزاك يرومه ويسعى لتجسيده في رواياته.فهو يصبو لجعل المسافة بينه كأنسان حقيقي،وبين شحصياته الحية الحقيقية،كالمسافة التي تفصل بلزاك الكاتب-الروائي عن نماذجه-شخصياته المتصورة ادبيا،اي المنسوخة او المبتدعة؟فنحن لانستطيع ان نفرق او نميز بين الشخصية الخيالية -الادبية وقرينها الواقعي الحي الذي استلهمه بلزاك،فهما متماهيان لحد التطابق.ان عظمة فنه تكمن في قدرته الفذة على الفصل وخلق تلك المسافة بين الفنان ونموذجه،رساما كان او اديب روائي.،او كما يقول الرسام:انه يجعل الهواء الذي يحيط بالنموذج يرتعش بأستمرارّ.ان البنية العامة لل"الكوميديا الانسانية"تسمح بالانتقال من رواية الى اخرى،وانتقال الشخصيات الاقدم الى الاحدث ايضا دون تكلف او اخلال وارباك في الاتساق والمضامين والسرد المتتابع والمنساب دون فجوات عبر الروايات المفتوحة على بعضها،فنهايات وبدايات التسلسل الروائي متداخلة في مزيج متجانس يضم كل الموسوعة السردية.وهي ليست مقصودة او مفبركة كما يعتقد البعض،بل هي نوع ادبي غير معقد،وانسياب متدفق متطرف الواقعية،وتصويرا مرآويا مطابقا للاصل-الواقع.وهذا المنهج الادبي الثابت لهيكلة وبنيان روايات المجموعة"الكوميديا الانسانية"الذي انفرد به بلزاك عن غيره من ادباء جيله،هو الذي اتاح له ومكنه من وصف وعرض كل الجوانب اليومية وحتى التافه من حيوات ابطال اعماله بتلك السهولة،وذلك اليسر العفوي المسيطر عليه،وتلك الدقة المتناهية النادرة النظير!.فالحركة المتناغمة في سيرورة الروي البلزاكي كانت هي الرابط المتين بين صوره المتعددة والمختلفة والمتطورة لكل الشخصيات التي خلقها وانتقاها من واقعه وحياته.كل المشاهد والثيمات الفوتوغرافية الملتقطة سرعان ماكانت تدب فيها الحياة وتبدأ في الحركة والنشاط في طول وعرض جسم الرواية.فتتعدد الابعاد والزوايا المتباينة،وتتشابك الخيوط في العلاقات مابين شخوصه في مابينها كذوات،وبينه كمبدع لها.وبالرغم من كون سفره السردي الضخم"الكوميديا الانسانية"عملا روائيا شبه مستقل ومتداخل الا اننا نستطيع الفصل بين رواية واخرى دون صعوبة.وكما تكون بعض من اوجه ذواتنا خافية او مجهولة عن اصدقائنا واقرب الناس الينا،ليشكل ذلك انطباعا او فكرة جزئية او سطحية مبتورة عنا،كذلك هو الامر بالنسبة لقراء بلزاك.بين:قاري لرواية واحدة ،فتكون علاقته بأدب بلزاك علاقة سطحية وواهية لانها غير كافية للحكم على ادبه او على شخصياته حكما صائبا ودقيقيا،وبين قاريء متبحر بكل مجموعة ال"الكوميديا الانسانية"والمتمكن والمحيط بكل ابعاد وجوانب تلك الشخصيات وادراك تناقضاتها الداخلية وصراعاتها وهي تتطور داخل العمل الروائي ككل.كان هاجس بلزاك الدائم هو تثيبيت الحقائق ورصفها كما هي بكليتها وحركتها الدائبة،وسيطرة الواقع الموضوعي الذي ينظم ويتحكم بتلك الحركة للواقع اليومي المعاش.ان واقعية بلزاك الراصدة-المراقبة-المدققة تتميز بالقدرة الفذة على الاقناع والقبول بان كل رواياته هي مستمدة من واقع عياني ملموس،ونتاج تجربة حياة-وليس كما يتصور البعض-نتاج مخيلة خصبة لاديب مثالي.رغم صعوبة سبر اغوار الشخصيات سايكولوجيا بشكل جلي من قبل القاريء المتوسط..ففي رواية"ابنة العم بت"يسلب البارون أيولو شرف الفتاة أتالا،ورغم هذا"الانحراف الخلقي والتردي في الرذيلة،فان أتالا بريئة كل البراءة".يقول الناقد الادبي"اميل فاجي":ان لغة بلزاك هي لغة خاطئة عندما يقول على لسان بطلته:"أبي اراد ذلك..ولكن امي لم توافقه،فكنت موضوع نزاع مستمر بين أبي وامي".فيعلق الناقد فاجي على هذا الحوار قائلا:"ان هذا التناقض البين يكشف لنا عدم تصديق هذه الشخصية،وان أتالا هذه لاوجود لها"!.ان بلزاك ليس فنانا بقدر ماهو كاتبا للتاريخ،وليس هناك اسوء منه فنيا-ادبيا.وكان هو نفسه يدرك ذلك،ويعي حقيقته تلك،ويتذمر منها،ولكنه في نفس الآن ينسى-مع الاسف-قدرته الادبية على الروي في اغلب الاوقات،فهو يقول مثلا في رواية"اورسول ميروي"عند محاولته تصوير حبه وتعلقه بالطبيعة:"لابد ان تكون للفرد مصلحة مادية عندما يريد استنشاق عبير الريف"!.ويقول في رواية"الفلاحون":"كم تبدو الطبيعة فقيرة المفاتن عند مقارنتها بصورتها على المسرح"!.وعندما يحاول بلزاك الكتابة يصورة"جميلة"واستخدام اسلوب ادبي مجنح،ويأخذنا بعيدا بأستعمال الجمل والكلمات الشاعرية المدعاة،فيبدو وكأنه:فتاة تضع طبقة من مساحيق التجميل وتلطخ وجهها بشكل منفر ومبالغ فيه!.وفي هذا المجال نجد الكثير من شطحات بلزاك"الجمالية"في متون رواياته.ومع ذلك يجب ان لانعير التفاتا لزلاته تلك،فبلزاك لم يدع يوما او يزعم بأنه يقدم اعمالا مثالية او نموذجية مدهشة في كمالها تبهر قراءه.فما اراده حقا هو تدوين سرديات غنية بالمفاهيم والوقائع التي تحفز التأمل وتدعو الى التفكير العميق غير المنقطع،وتجبر قراءه على الاستغراق والاندماج في اجواء موضوعات ومضامين نصوصه.على هذه الشاكلة كان بلزاك هو:الروائي الاشكالي..بلزاك المفكر الانسان..الاديب الواقعي التقريري.واكثر شخصياته واقعية هو نفسه بالذات:بلزاك،فمن ذاته استمد شخوصه،ومنه نبعت صفاتها وسايكولوجيتها وسلوكها.ولكن لماذا استمر الدافع الاهم للكتابة لدى بلزاك،بهذا الهوس،وتلك الغزارة،والروح المثابرة المحمومة لدرجة الجنون،والتي لم تتوقف الا بموته؟!.كان يفعل ذلك وببساطة لهدف وحيد اوحد هو:بلوغ الغنى وامتلاك المال!وما تبقى هو تحصيل حاصل.ان يصبح غنيا من خلال نشره لاعماله الروائية المتتابعة دون توقف،فهو كان يحب ويسعى للجانب العملي النفعي المفيد لمردود نتاجه الادبي،كان متلهفا لما ماتدره رواياته المنشورة والمباعة من نقود!.ففي حديث له مع ناشر كتبه"فروه"عن امور تتعلق برواياته،يقول له منزعجا:"اننا نتحدث ومنذ ساعة في امور لاتجدي نفعا،وهكذا خسرت مائتي فرنك"!.وقت بلزاك لم يكن يقاس بوحدات الزمن بل يقاس بالفرنكات!.
من المعروف ان بلزاك فكر جديا ولمرات بترك العمل الادبي-الروائي والصحفي،ان يكف عن الكتابة ويتجه لممارسة عمل اخر اكثر جدوى،اكثر نفعا ومردوددا من الناحية المالية.فالبرجوازية يفتنها تقسيم العمل حسب الاختصاص،ولاتعتقد بوجود روابط بين النشاط الاقتصادي والسياسي،وبين النشاط الادبي او الفني.وبلزاك كان يفكر كذلك فهو برجوازيا ايضا!.فالبرجوازية تصنف الافراد حسب مايزاولوه من اعمال واختصاصات ،فعمال المناجم خبراء في استخراج المعادن،ورجال المال والصناعة والسياسة خبراء في ادارة الاقتصاد والحكم لذا فنقاد هذه الطبقة_البرجوازية_ينظرون الى بلزاك"رجل الاعمال"كطرفة مضحكة او نكتة سمجة!فشتان بين الادب وادارة الاعمال والمال!ولكن مع ذلك لم يكن بلزاك واهما او حالما،او حتى خياليا بالحد الادنى في المشاريع والافكار المبتكرة حول جني المال وتحصيل الثروة.فلم يكن هناك في زمانه ،وليس ايضا في زماننا اي روائي مثل بلزاك من امتلك نصف معارقه وخبراته ومشاريعه الاقتصادية-التجارية،والادارية.فقد بذل الكثير واستنفر طاقاته من اجل الارتقاء الطبقي،والصعود الاجتماعي،وامتلاك الثروة والمقام الرفيع.ولكن الحظ وظروفه النكدة لم تسعفه في تحقيق اهدافه.فكان ينتقل من كارثة وفشل مالي،الى افلاس وخسارة باهضة،ليعود من جديد كرة تلو اخرى مجربا حظه الرمادي من جديد!.فقد اشترى مطبعة،ومصنع لصب الحروف ايضا،لكي يوفر في النفقات وتكاليف الطباعة،وايضا حتى يتمكن من نشر كتبه بنفسه،والتحكم بسعرها،وزيادة ارباحه،ككاتب وناشر في نفس الوقت.وقد اطلق بلزاك لاحقا على مشروعه الضخم هذا:"الاحتكار العمودي"في النشر!.لم يكن مشروعه بأدارة مطبعة،ومعمله لصب الحروف مشروعا فاشلا في حينه،بل على العكس كان مجديا اقتصاديا ومربحا لو كان غيره قد اداره، من يملك حظا اوفرمن بلزاك!.فبعد عقود من موته سيغدو مصنع صب الحروف من المصانع المهمة في اوربا تلك الفترة.بعد ذلك قفز عقل بلزاك النشط نحو فكرة اخرى جديدة وغريبة،وتعلق بالتعدين المنجمي،وافترض بأن وسائل استخراج المعادن الحديثة اكثر انتاجية وتطورا من الوسائل البدائية القديمة في التعدين واستخراج الخامات،وافترض ايضا-وكان على صواب-بأن المناجم التي استغلت قديما لم تستنفذ مابداخلها تماما،ولازال هناك في باطن المناجم الكثير من المعادن الثمينة التي تستحق الاستثمار وبذل الجهد،ولابد ان تكون حاوية على كنوز من الذهب والفضة،وبكميات كبيرة لم تستخرج او تستغل بعد..فسافر الى صقلية لشراء مناجم الفضة هناك والتي لم يستغلها الرومان!.ولكن هنا ايضا خانه حضه الخائب،فقد سبقه احد الرأسماليين،واشترى حقوق استغلال تلك المناجم قبل وصول بلزاك الى صقلية،وضاع ثراء بلزاك المنتظر!.وقد اغنت تلك المناجم وراكمت من ثروات اجيالا واجيال من مالكي اسهمها.ونقرأ ايضا في الرسائل التي كتبها بلزاك اثناء وجوده في اوكرانيا ضيفا عند مدام"هانسكا"عن فكرته التي خطرت في ذهنه التجاري هناك حول موضوعة الخشب كمادة تجارية مرغوبة ومربحة.فخشب البناء في اوكرانيا وكماهو معروف كان رخيصا جدا،ويستطيع المرء ان يربح اموالا طائلة فيما لو قام بشراء وتصدير الخشب الاوكراني وبيعه في فرنسا الى شركات السكك الحديد لتستعملها قي مد خطوط سككها.ورغم ايمانه وعزمه على تنفيذ الفكرة،الا انه سرعان مانسى فكرته الاقتصادية هذه لينشغل بغيرها!.ومن اجل معرفة عقلية بلزاك الاقتصادية-التجارية السديدة،فيكفي ان ننظر الى احصائيات تلك الفترة لنتأكد فعلا وبيقين ان فرنسا استوردت كميات هائلة من خشب روسيا!.وهذا مؤشر ودليل قاطع على المعرفة والخبرة الاقتصادية الواقعية،وعن جدوى وعقلانية المشاريع التي فكر بلزاك بقسم منها،وحقق القسم الاخر،ولم يفلح لاسباب غديدة منها حظه النكد!.لم يكن بلزاك عليما ومبتكرا في افكاره عن التجارة الرابحة والصفقات الذكية فحسب،بل كان خبيرا في الطبيعة والسايكولوجية البشرية ،وايضا خبيرا في عواطف واهواء وتقلبات النساء !وقد وصفه نقاده المعاصرين ب"الخبير بقلوب النساء"!.ولم يكن هذا الروائي الكبير خياليا لافي انتاجه الادبي،ولا حتى في مشاريعه التجارية الكثيرة،والتي نسى بعضها،وفشلت اخرى في تحقيق ماكان يرجوه لها من نجاح.فكان واقعيا في الادب لحد التزمت،وكان عمليا في مافكر وانجز من اعمال مبتكرة وذات جدوى اقتصادية ومردود مالي هائل فيما لو تحققت بالكامل ولم تتعثر.وفي هذا الصدد يقول بلزاك عن نفسه متفاخرا:"ان من يجمع فتات افكاري يستطيع تكوين ملكية صغيرة".وكما قلنا :لاحب الشهرة،ولا الرغبة بالامتياز الاجتماعي والمعنوي،اوغيرها من اسباب:المكانة..النفوذ..الاستحسان،وذيوع الصيت،كل هذا لم يشكل دوافع ومحفزات لانتاجه الروائي الكثيف،شاغله الوحيد الاوحد هو :المال!..ببساطة:حب المال!المزيد المزيد من التالر!.وهذا هو عين ماكانت تطمح اليه-قدوته في الثراء!- الطبقة البرجوازية الفرنسية:الربح المالي ولاشيء غيره.وبسبب هذه النزعة الراسخة لحب المال،وحمى جمعه،نرى بلزاك يكتب:كراسات المتعة،ويمتلك مطبعة،ومصنعا لصب الحروف،وان يكون روائيا غزير الانتاج،ومديرا صحفيا،وباحثا عن الذهب،وكاتبا مسرحيا،وناقدا ادبيا،وعضوا في البرلمان...الخ..وبسبب حبه الوحيد للمال،امسى بلزاك مشرعا دون قناعة،وكهنوتيا دون ايمان!وملكيا دون اخلاص!وكان مستعدا لبيع وخيانه امه واصدقاءه وعشيقاته وادبه،كما كان يفعل مجرمو،واوغاد رواياته بالضبط.فقد اتصف بلزاك بكل دناءة ورذيلة وقسوة برجوازية زمانه،كما اتصف ايضا بطاقتها وعزيمتها الحيوية،وحبها للمال والعمل،وارادتها الصلبة،واخلاقياتها اللااخلاقية.حاول بلزاك لاشعوريا ان يكون حكيما ومصلحا بنقد وتقويم اعوجاج الواقع من خلال نتاجه الادبي،وكان يرى من مصلحته وواجبه ايضا في فعل ذلك،ولكنه لم يفلح وفشل في تحقيق ذلك ادبيا-لان تيارالواقع كان جارفا-كما فشل في كل مشاريعه التجارية.ففي معظم الحالات كان بلزاك ساذجا،بل غبيا في محاولاته تلك لبذر وانبات الاستقامة والقيم في ارض وواقع البرجوازية المتفسخ،والمتهافت اخلاقيا وقيميا وسلوكيا.لذلك كان المنتصر لديه هو رجل التاريخ العام و الواقعي،على رياء ونفاق رجل المصلحة المتهافت على احراز النجاح المادي في حياته الشخصية الخاصة.ومن هنا كان بلزاك وفي حقيقته اعظم روائي فرنسي انجبه عصره وبيئته ان لم نقل في العالم الصاخب تلك الحقبة.في روايته"الزنبق في الوادي"والتي يجسد فيها روح امرأة مؤمنة مستقيمة وهي تموت كزوجة مسيحية مخلصة ومثالية،ونموذجية في عمل الواجب،ولكنها تقول قبل موتها:"ان كل شيء في حياتي كان كذبا...امن الممكن ان اموت رغم انني لم اعش؟".بهذه الجملة البليغة المعبرة عن زيف تلك الحياة المستقيمة النخرة،والاسى والندم على ماضاع من عدم العيش،ينهار كل مابناه بلزاك في تلك الرواية من صور الفضيلة النموذجية،وتلك المقدمات الجميلة في عرض نمط الزوجة التقية الوفية التي عاشت وهما واكتشفت خواء حياتها في لحظة موتها.كان الواقع بثقله يجبر بلزاك على الانصياع له وسرده بكل مافيه من عيوب وزيف ولاانسانية.كان بلزاك نخبويا متعاليا في سلوكه وعلاقاته الاجتماعية،فقد كان يعامل الدهماء والعامة من الناس الفقراء بكل احتقار وترفع!.فهو لم يكن شعبويا حتى بالحد الادنى.فتبجيله واحترامه كان موجه للدوقات والكونتات والبارونات،من الارستقراطية الفرنسية رجالا ونساء.فكان معجبا جدا بنخبة الهرم الاجتماعي الفرنسي،نلمس ذلك بوضوح في رواية"حفلة سكو الساهرة"والتي تعد كترنيمة غنائية من المديح وتمجيد البرجوازية التجارية والمالية.ولكن على الضد من ذلك،والعكس تماما مانراه في رواية"عائلة مزدوجة"والتي تتسم بالصدق الواقعي،والترجمة الامينة والتعبير الشجاع الدقيق عن حقيقة الحياة الزوجية في الوسط البرجوازي،ولكنه ما ان ينتهي من ادانته واستنكاره لتلك الحياة،حتى نجده يتراجع ويسأل على لسان رجل الاعمال الذي يقول:"اليس من الخطأالتحزب للحب ضد برودة زيجة قانونية وزوجة مؤمنة؟".كما يضيف بلزاك الى ذلك ايضا وقائع صادمة وغير متوقعة تماما حين يجعل من ابناء مسيو جراندفيل غير الشرعيين مجرد مومسات واشرار!.بينما ترتمي امهم في احضان اول رجل تصادفه!.كان بلزاك يتصف بسمة غريبة وفي نفس الوقت طبيعية في حالته،الا وهي:الازدواجية والتناقض،ذاتيا وموضوعيا،مابين:البرجوازي غير الشريف،وبين مؤرخ البرجوازية غير الشريفة!.فهو على المستوى الذاتي وكبرجوازي،كان يطمح لان يكون غنيا مترفا،اسوة بطبقته وعلى غرارها،لكنه موضوعيا،وكمؤرخ لطبقته ومجتمعه البرجوازي،ملزما وملتزما بواقعية فظة في عريها،وتصويره لاساليب ووسائل ودوافع افراد تلك الطبقة وخسة مآربها للوصول الى الثروة مهما كان الثمن!.لذلك كان بلزاك غير مقتنع بمواهبه وملكاته الادبية كروائي،فهو مدرك جيدا بأن مايسرده في اعماله الادبية-الروائية معروف لديه،ومنذ زمن بعيد،ـوبكل حقائقه وحيثياته الموصولة، وتفاصيله الدقيقة،وليس من جديد.فهو لم يترعرع بأحضان الحماية والعناية الاسرية الدافئة والناعمة والآمنة كفكتور هيجو مثلا!او في ظل القمع والطغيان والجندية المنفر والكئيب كالفرد دي فيني!ولم يكن فتى القرن كالفرد دي موسيه!ولم يكن مثل جوستاف فلوبير البرجوازي المثالي كاره البرجوازية،ولم يكن حتى قريبامن ستندال الرومانسي مقدس النساء!.فبلزاك كان نسيج وحده،فقد ولد وسط بيئة برجوازية صغيرة من التجار وارباب العمل الصغار:فقد جاء والده الى باريس معدما من قريته البعيدة منتعلا حذاءا خشبيا،واصبح ثريا فجأة!.اما والدته فقد كانت من اسرة تجارية من برجوازية باريس الصغيرة.اما بلزاك نفسه،وكما قالت عنه احدى عشيقاته الكثيرات:كان بلزاك يؤمن بأن الذهب وحده هو الاله القادر على كل شيء!.وهذا مايؤمن به ويقرره كل برجوازي،وليس بلزاك وحده.فهذا هو قانون المال والثروة الذي خضع له الملوك والحكام،والامبراطوريات والممالك والجمهوريات.في"رسالة عن العمل"كتبها بلزاك عام1848-ولم تنشر الابعد نصف قرن!-لخص فيها بلزاك قانونه المالي الذهبي الثابت،هذه الحقيقة الحجرية الصلدة التي تخترق الازمنة بحكمها الصارم:"لاحاكم اقوى من المال"!.وليس سواه من حاكم مطلق يتحكم بالمجتمعات قديمها وحديثها.وبلزاك محقا في ماقاله-على الاقل في الفترة التي عاشها-وطيلة القرن والنصف الذي اعقب موت بلزاك ولازال هذا القانون مهيمنا على العالم.فجميع الثوريين هم طوباويون وحالمون!والديمقراطيون هم شخصيات ديماغوغية،خادعة ومنخدعة!وان جميع التعاليم والاعراف والوصايا الدينية والاخلاقية والسياسية هي هراء،ووسائل ايديولوجية لا اهمية لها ولاتأثير الا للسيطرة،وهي وسائط مستغلة بذكاء من ذوي النيات الوصولية،ونهازي الفرص،الانتهازيون،لتحقيق مآربهم ومصالحهم الشخصية الانانية والجشعة،وان جميع اشكال الحكم:يمينا ويسارا ووسطا،ستخضع حتما وتستسلم لتلك القوة الجبارة،كلية القدرة والنفوذ،الا وهي:المال..فقط المال ولاغيره.هذا مالمسه بلزاك، وشاهده على الطبيعة وفي الحياة الواقعية، وآمن به دون شك،وطيلة حياته..لايمكن اعتبار آراء بلزاك السياسية والدينية،وطروحاته ويقينياته الفردية بالملكية المطلقة،واللاهوت الكاثوليكي،كأفكار رجعية او محافظة في مضمونها الجوهري،اولا لانها لم تؤثر او تتبدى في نتاجه الادبي فتلوث واقعيته بمثاليته السياسية المنحازة.وثانيا لانها لم تكن فاعلة،ولم يحارب من اجلها او يروج لها،او يأخذها على محمل الجد.وثالثا لانها في جانب كبير منها،عكست بمرآوية ناصعة حقيقة وطبيعة قيم البرجوازية -طبقته الحبيبة!-الظافرة،وسيادة نمطها الانتاجي،واقتصادها الحيوي النامي،ومجتمعها المسعور في تنافسه وبحثه الصراعي والمستمر من اجل الربح والتراكم.كان هناك شرخا بين الهوى السياسي البلزاكي،وبين نتاجه الادبي،و جديته والتزامه في نقل الواقع بكل قبحه.هذا على الاقل ماعبر عنه بلزاك،وكان اصدق واقعيا مما بشرت به التعاونيات والاشتراكيات الطوباوية الحالمة بمجتمعات مساواتية خيالية بعيدة المنال والتحقق.هذه الفلسفة البرغماتية الاثيرة لدى بلزاك،لم تكن مؤثرة او مستحوذة على ذهنيته وتفكيره الفلسفي.فنحن وفي كثير من الاحيان نجده وهو يشيد بفوريه وسان سيمون وبيير ليرو!.واشرف السياسيين وانبلهم في"الكوميديا الانسانية"كانوا من ذوي العواطف والقلوب الانسانية الحرى،والاكثر اخلاقية وقيما،تؤمن بالعدالة الاجتماعية،والمزايا الايجابية للجمهورية.من المعروف عن بلزاك انه لم يكن يعير اهتماما او يقيم وزنا للافراد ومصيرهم،فكان يتطلع لطبقته مزهوا بظفرها النهائي،فالمجتمع البرجوازي كان مسيطرا ويخضع الجميع لنظامه وارادته ومنهجه.والوعي الثوري البرجوازي كان يحتضر،فقد ولت شعارات الثورة القرنسية واصبحت مجرد ماضي منسي!.والفكر البروليتاري الاشتراكي الثوري لم يكن ناضجا بمافيه الكفاية ليحتل مواقع متقدمة.كما ان وعي الفرد كان غائما ومبلبلا،وبوصلته الهادية كانت شبه معطلة او قلقة مابين:دعم البروليتاريا التي كانت في طور النمو،والانتقال من طبقة في ذاتها الى طبقة لذاتها،وكان مصيرها غامضا وسوداويا وهي غارقة في مستنقع البؤس والحرمان والاغتراب،ومفتقرة للترابط العضوي،وغياب التجانس بين افرادها،وتفاوت مستوى الوعي داخلها،تحت ظل عودة الملكية وملكية تموز.كانت الطبقة العاملة الفرنسية ترزح تحت ثقل الاستغلال والاضطهاد والقمع،فيوم العمل في معامل النسيج بين15و17ساعة في اليوم!.انخفض لاحقا في السنين التي ازدهرت فيها الرأسمالية،وكان معدل الاعمار للعمال بين25و30عام!.وفي عام1840 جرى تشغيل الاطفال في معامل النسيج،ولم تكن اعمارهم تتجاوز السابعة او السادسة!.وكانت الاضرابات وحركات التضامن والكفاح العمالي عرضة للبطش والتنكيل والتصفية والملاحقة والاعتقال،وحتى الصحف كانت صفراء ومنحازة لارباب العمل والمال.وقد كتبت احدى تلك الصحف تصف اضراب عمال النجارة عام1840 بأنه عبارة عن"دسائس خارجية"تجعل من العمال وسائلها!.اما الصحف المستقلة فكانت اصدق في وصف حالة العمال ومعاناتهم،فكتبت واحدة منها تقول عن اضراب عمال النسيج الحريري في ليون،الذين قرروا"ان يعيشوا من عملهم او يموتوا في النضال".لقد كان السادة انفسهم يطلقون النار على العمال-عبيدهم- وكانوا يموتون برصاص(الحرس الوطني)والذي ليس صدفة ان غالبيته من التجار وتابعيهم!.
كانت الاوضاع الاجتماعية-الاقتصادية الفرنسية في تلك الفترة التي عاصرها بلزاك-النصف الاول من القرن التاسع عشر مكفهرة وخطيرة،ففي عام1840كان تعداد سكان فرنسا حوالي35مليون نسمة،واكثر من 9ملايين منهم كانوا تخت خط الفقر،وفي عوز وبؤس دائم بين:تشرد وتسول وجريمة وبغاء وبطالة وجوع!.فتكاليف المعيشة كانت فوق طاقة وتحمل الجماهير الفرنسية الفقيرة حتى بحدودها الدنيا.ونتيجة للثورة الصناعية ودخول المكننة الآلية في الانتاج على نطاق واسع،جرى تسريح وطرد عشرات الألوف من العمال ورميهم الى الشارع للجوع والفاقة،فأدى ذلك الى مآسي مرعبة،وتفاقم الفقر المدقع وموت الاطفال،وانتشار الدعارة!.فعمت ظاهرة البطالة السرطانية الدائمة،وانتشر الجوع والخوف من الغد القاتم.وقد كتب احد المتعاطفين مع اوضاع العمال العاطلين ومحنتهم قائلا:"الحياة بالنسبة لهم:هي عدم الموت"!.والامر بالنسبة للفلاحين ايضا لم يختلف عن ذلك كثيرا،اولئك المزارعين المعزولين في بؤسهم الريفي بعيدا عن المدن الصاخبة.وقد صور بلزاك حال الفلاحين بصدق في روايته"الفلاحون".لم تكن الطبقة العاملة-وبالرغم من الهبات والانتفاضات والثورات-قوية ومتحدة وصلبة حتى تستند عليها وتستعين بها جماهير الفلاحين الفقيرة الضعيفة سياسيا،والتي كان هدفها الاوحد هو:اشباع جوعها للارض،ذلك الهدف وتلك الرغبة،لم تتمكن كل الثورات من تحقيقها!.على الطرف الآخر،كانت الارستقراطية النبيلة-التي عشقها بلزاك سياسيا وعاطفيل وبشغف!-تشهد انحلالها وزوالها،وقد وصفها بلزاك بواقعية حزينة في روايته"غرفة المخلفات الأثرية"هذه الطبقة الآفلة والمحتضرة،والتي كانت تجاهد مستميتة من اجل البقاء،في محاولة يائسة للتكيف ومصارعة الظروف،والاندماج بالطبقة البرجوازية الغريمة اللدود،والتي ارتقت عرشها الاقتصادي-السياسي من خلال الزيجات والمصاهرة وعقد الصفقات،وهي تطلق"صرخات أثرية منخورة"!حسب الوصف البلزاكي.وقد أشار انجلز الى"الارستقراطيين العزيزين"على قلب بلزاك!.فهل كانت الارستقراطية الفرنسية عزيزة حقا على قلب بلزاك؟!.الحقيقة تقول خلاف ذلك،فبلزاك كان يرى ويعي جيدا ان طبقة الارستقراطية والنبالة القديمة هي طبقة زائلة،ولى زمنها،وغربت شمسها،ولم تعد الا موضوعا للسخرية والرثاء والاسى والتندر،طالما ظلت على اصرارها،وعدم اعترافها بالواقع الجديد الذي لم يرحمها،الواقع المختلف،وعدم اقرارها بالتطور التاريخي الثوري الذي كلل خصمها الطبقي بالنصر المؤزر:البرجوازية،ومدها الجارف الذي لايمكن لاي قوة ان تقف في وجهه.فمكابرتها ونرجسيتها وانحيازها لنفسها،كان وهما باطلا فهي الان ليست اكثر من:مخلفات اثرية مكانها المتحف والانتيكات وايقونات الماضي السعيد الآفل!.ان البرجوازي الصغير الطموح:المسيو انوريه بلزاك المدعو"دي بلزاك"لايحلم الا بالوصول الى اعلى الطبقات الاجتماعية السائدة،الطبقة الاولى السيدة في المجتمع الجديد:البرجوازية المالكة للمال والسلطة والنفوذ.ومع ذلك،او بالرغم من ذلك،فان الارستقراطية يبقى الهوى والمثال والماضي الاسمى عند بلزاك سياسيا وقيميا،وسدرة منتهاه الغالية والتي قطعتها البرجوازية بوحشية وجعلت منها حطبا لموقدها!.ومع ان ايمان بلزاك بالافكار(الرجعية)الماضوية للنبالة الاستقراطية والملكية المطلقة،هو ايمان وتفكير عاطفي خاطيء وضال من طرفه،ولكنه لم يخطيء ابدا في تشخيص وتقدير قوة"الاستقراطية"كقوة مضمحلة وذابلة ومتلاشية،ومأساوية مصيرها،ورغم حبه وتمجيده لها كطبقة عزيزة عليه!.قلبه معها،وقلم نقده عليها!.يقول صاحب مصنع العطور"كريفي"وهو يتحدث بخبث مع البارونة الطاهرة"ايولا":"انك على خطأ ياملاكي،حين تعتقدين ان الملك لويس-فيليب هو الذي يحكم،انه لايخدع نفسه من هذه الناحية،فهو يعرف كالآخرين،ان هناك شيئا يقف فوق القانون هو التالر-عملة فرنسية،م.ا-المقدس والمعبود والقوي والحبيب واللطيف والجميل والثمين والقادر على كل شيء"!.تلك الارستقراطية الخاضعة لحكم وصنمية التالر هي،وكما يقول بلزاك:"حفنة من العائلات النبيلة،اراها تبغي اصطياد وريثات غنيات"!.ان الاوضاع والظروف الاجتماعية،والقيم والممارسات الطبقية،لم تعد كما كانت عليه في عصر موليير،فجورج دندان-شخصية مسرحية مولييرية- اقترف خطيئة كبيرة في زواجه من آنسه نبيلة،ويستحق عقابا صارما على هذا الاثم الشنيع!.ومانجده في"الكوميديا الانسانية"هو عكس ذلك تماما،حيث تتزوج الانسة غوريو من الدوق دي روستو،وأخرى تتزوج البارون دي نوسيني،ويتزوج السيد دي فونتين من الانسه جرونييت،والسيد دي بورتيندور من الانسه الرقيقة ميروي.وكهذا نرى يسر عقد الصفقات،وسهولة اتمام الزيجات في عصر افول الارستقراطية وسقوطها بحضيض غروبها وابتذالها،وصعود البرجوازية المظفرة وهيمنتها.لقد كانت هذه الزيجات الهجينة المرتبة والمباركة طبقيا بين طبقة ماتت ولاتملك الاالماضي والقابها،وبين طبقة سؤددها التجارة والمال والصناعة،هذا الخليط الاجتماعي السعيد وغير المتجانس/هو الذي خلق اجيالا متجانسة طبقيا،وانتج الكثير من الاطفال الذين شبوا ليتولوا قمم المناصب في ادارات المناجم والمصانع وشركات سكك الحديد والبنوك وغيرها من مفاصل ومؤسسات الاقتصاد والمال والتجارة.لم تعد الطبقة السياسية الحاكمة والمسيطرة هي الطبقة القديمة،كأرستقراطية مترنيخ الكلاسيكية،والتي تبدأمن البارون فصاعدا،انما وكما يحدد بلزاك،هي:"الطبقة الجديدة الحرة والقاسية،والمفتقرة الى الصبر،وهي التي تستحق في هذه المرحلة السلطة وتنشيء استغلالها دون اي رحمة،وهي طبقة تفتح آفاقا جديدة،وان احتاجت الى هياكل الآخرين في سبيل مآربها...انها طبقة البرجوازية الفتية...اظهرت مايستطع ابداعه النشاط الانسانيـ فخلقت عجائب تختلف عن الاهرامات المصرية والاقنية الرومانية والكنائس الغوطية،وقامت بحملات تختلف عن هجرات الشعوب والحروب الصليبية"!ان بلزاك وماقاله في مقطعه الطويل هذا،يتفوق بتركيزه واختصاره على الاقتصاديين والمؤرخين والفلاسفة في تبيان وتشخيص طبيعة المارد الطبقي الانتاجي الجديد.،وسبل ارتقاءه المفتوحة على مصراعيها،وهذا مالمسه ماركس بفطنته لدى بلزاك، ونجد صداه لديه،فقد الهمه كثيرا في كتابة رأس المال،وكما صرح ماركس نفسه بذلك في مراسلاته!.كان بلزاك بحق الابن البار والامين لطبقته وعصره،والمصور الدقيق لزمنه،والقاضي العادل في حكمه على طبقته ذات الارادة الجيارة:البرجوازية....البرجوازية التي وكما يقول بلزاك-وكأننا نقرا ماركس!-:"خلقت قوى اتنتاجية اكثر احتشادا وعظمة من جميع الاجيال الماضية سوية"!.ومن جداول احصاء تلك الفترة والتي تؤكد مايقول بلزاك:كان عدد مكائن النجارة 65 ماكنة عندما بلغ بلزاك سن الرشد،اصبحت13،691ماكنة عندما بلغ بلزاك الخمسين من عمره!وارتفع عدد مكائن النسيج من600ماكنة في عام1834الى31الف ماكنة عام1846،واصبح عدد افران الصهر ثلاثة اضعاف ماكان عليه،وبلزاك ايضا وعلى صعيد انتاجه الادبي،وبروح البرجوازية الفعالة،انجز اعماله الادبية خلال اقل من عقدين،تلك المدونة السردية الضخمة.!.وازداد ومنذ عام1832 حتى عام1844 عدد الحرفيين المجبرين على دفع ضريبة المهنة الى الضعفين،وبلغ عدد شهادات الاختراع التي سجلت سنة1843 وحدها خمسة اضعاف الاختراعات الت سبقت هذا العام!.وهاهي اليوم وبد اكثر من قرن ونصف من موت بلزاك تعمم نمطها عبر العالم وتسود عولميا!.ومثلما احتفى ماركس منبهرا ومرحبا بالاختراعات والاكتشافات،والتطبيقات العلمية والتقنية،حدث ذلك لبلزاك كذلك.فقد عاصر بلزاك اول تلك الانجازات في مجال النقل والصناعة،الرائدة وفي شتى الحقول.فشهد مولد اول قاطرة،واول سفينة بخارية،واستخدام النول الآلي في صناعة النسيج،وغيرها من طفرات علمية وتكنولوجية-صناعية.وخلال حكم لويس-فيليب الذي شهده بلزاك حتى نهايته.ارتفع عدد السكان،وبنفس الوتيرة ازداد حجم الملكية الخاصة بسرعة تراكمه وتضخمه.وقد وصف بلزاك هذه المتغيرات والثورة الصناعية والتقدم العلمي السريع في روايته:"بيت نوسيني":"انها الصناعة الحديثة التي هي اقسى من كل الحروب"!.وقال بلزاك ايضا:"بقيت ارستقراطية النقد التي ترتكز عليها اتفاقية المجتمع الحالية".هي المسيطرة ولاكثر من قرن من الزمن.ان غيلان المال في زمن بلزاك،والذي كان على صلة بهم،كانوا هم لاغيرهم،الشخصيات الحقيقية في نتاجه الروائي.ملوك المال هؤلاء هم الذين انجبوا ورثتهم،والذين حلوا محلهم في ادارة اعمالهم،وبسطوا مقاليد سيطرتهم وسلطتهم في فرنسا حتى العصر الحاضر.وكتموذج لذلك:كان بلزاك يتعامل مع ثلاثة من اصحاب البنوك،هم:روتشيلد،وماليه،وهوتنجر،واستمرت هذه البيوت المالية-البنوك تحكم فرنسا ماليا واقتصاديا وسياسيا.فقد اصبح مدير عام البنك الاول رئيسا لوزراء فرنسا،وهو:جورج بومبيدو!.كان الجشع والدناءة والتنافس الشرس هو الذي يحكم المجتمع والدولة الفرنسية.وكان "كازيمير بيرير"والذي وصفه"ستندال"ب"اعتى محتال قذر"!.هو احد اصحاب بنوك باريس الكبيرة،ويمتلك مصانع عديدة للنسيج في مقاطعة ايزري،وعقارات في بورجند،وكان في نفس الوقت رئيسا للوزراء!.وحين امتلك حقوق استغلال المناجم في دنان،كان ذلك وككل شيء يالغ السهولة،لان والده كان يقوم بنفس اعمال جرانده-بطل رواية بلزاك"اوجيني جرانده"الا وهو :المتاجرة بملكيات وعقارات الكنيسة،وشراء ملكية المناجم المجاورة في انزان!وبعد اربعة عقود سيصبح مسيو"اودلف تيير"رئيسا لمجلس ادارة تلك المناجم.تيير: سفاح كومونة باريس المقبل، وقاتل الآلاف من العمال،وعشرات الآلاف من المعتقليين والمنفيين،رئيسا للجمهورية الفرنسية!.نعم..الغنى والقوة،الاقتصاد والسياسة،وجدا دائما معا ولن يفترقا."حيث تجمع النقود بكميات هائلة"تبني السلطة عمارتها!.ان بلزاك كان يعرف ويعي ذلك جيدا،ويجاهر به،معلنا ادانته،حتى انه كان يستخدم في وصفه للرأسماليين تعبيرا خلا من قاموس اغلب كتاب الرواية الفرنسيين،ولم يستخدمه احدا منهم،فبلزاك يصف الرأسماليين...ب"الرأسماليين"بمعنى الكلمة الحرفي!.ان المجتمع الفرنسي الذي نمت فيه قوى الانتاج بذلك الاتساع كما-ونوعا،وبتلك الدرجة الرفيعة،وتضاعفت فيه قيمة الاوراق النقدية في عهد لويس-فيليب،اتاح للطبقة الوسطى العليا سبل الاغتناء،والتي لم تتوفر كما في القرون السابقة للبرجوازية.لقد اغتنى كولبير،ولكنه لم يستطع او يجرؤ بمناداة البرجوازية الفرنسية في ظل الملك لويس الخامس عشر ودعوتهم للاثراء،بنفس نداء غيزو اثناء حكم لويس-فيليب،والذي كان شعاره الموجه للبرجوازية الفرنسية،وبصيحة حرب:"اغتنوا"!.وهكذا اصبحت الثروة طموحا عاما،وهدفا جماعيا في عصر الرأسمالية المزدهرة والمسيطرة اقتصاديا وسياسيا.حمى الطموح هذه كانت المهماز المحفز والدافع لقوة هذا التيار الجارف الذي الهب نفوس وعقول المجتمع البرجوازي الفرنسي ،مهما كانت الوسائل،واينما حلت تلك العاطفة العارمة للتسلق والصعود الطبقي. ذلك لايعني ان القرن التاسع عشر هو من خلق هذا الطموح والاندفاع الهائج تماما.ولكن،لم يكن الفرد في مامضى مهموما او متعلقا بتلك النزعة ابان القرن السابع عشر والثامن عشر بتلك الحدة وذلك السعارالكلبي!.فموليير مثلا صوروفي كل مسرحياته:البخلاء،والمنافقين،والحساد،والمجانين،والاذكياء،وشخصيات نموذجية اخرى،ولكن موضوعاته المسرحية خلت تماما من الشخصيات النهمة والمتعطشة للثروة،او الساعية بدأب للغنى وكنز الاموال،مثلما نجده في حقبة بلزاك وستندال،والتي هي مرحلة نهوض و حركة شاملة للرأسمالية.فقد سلط الضوء،وتبلورت شخصية الانسان الجشع الطموح المتكالب على المال،وانتشرت تلك الظاهرة كالطاعون،ورصدها بلزاك بتفرد وتميز وواقعية،الى المستوى الذي اصبحت فيه تلك الظاهرة،كرذيلة اجتماعية شنيعة استشرت في المجتمع الفرنسي،وبنفس المعنى الذي وصف فيه الاطباء،امراضا:كالسل،والسفلس،بانها امراضا اجتماعية!.وبلزاك طبعا كان يقاسم طبقته تلك الرذبلة-حب المال،والارتقاء الاجتماعي-وحاول اخضاع ظروفه لسيطرته،وارادته،واوحى اليه تمثال نصفي لنابليون،بأنه سينجز بالقلم ماعجز الامبراطور عن انجازه بالسيف!.ليس هناك وفي بداية عصر انتشار الفردية،وتحقيق الذات،من كان معجبا بنابليون،واعماله،ومبادئه-ان كان له اي مباديء!-بل كانوا على الارجح معجبين بسيرته،وتحقيقه لطموحه الفردي،والارتقاء الباهر،من جندي نكرة الى امبراطور!.فذلك الضابط الكورسيكي القصير المعدم،والمغمور،والذي تمكن وهو في الخامسة والثلاثين،من اجبار البابا شخصيا على تتويجه امبراطورا لفرنسا في كاتدرائية نوتردام،امام دهشة الامبراطوريات الاوربية:الروسية والانكليزية والبروسية!.سيرة عصامية لرجل من العامة دخل التاريخ،وانتقل من الحضيض الى قمة هرم الدولة،سيرة كهذه جديرة بأن تكون وحتما قدوة ونموذج ومثال رفيع،وبلانظير لاشخاص،ك:راستنياك-احد شخصيات الكوميديا الانسانية.م.ا-وجوليان سوريل-بطل رواية الاحمر والاسود لستندال.م.ا-ولبلزاك بالذات!.فهذا وبالضبط،مايسمى فعلا،ب(النجاح الفردي)واولى بالاتباع!..كانت للبرجوازية معايير مزدوجة في نشر مبادئها العملية واخلاقياتها،فلجأت لترويج القصص المثالية الكابحة لتطلعات الافراد،مثل القناعة الراضية،والصبر على البؤس،والاستسلام للقدرية،والاكتفاء بالحد الادنى المقسوم،وخنق الطموح-كما يفعل الدين بتخدير رعاياه من المؤمنين!-حيث يبدو الطموح،وكأنه صفة ذميمة بالغة القبح والادانة!.لقد كتب بلزاك في مقدمة"الكوميديا الانسانية"قائلا:"عندما تبقون صادقين في وصفكم،فسوف يقذفون في وجوهكم بكلمة اللاأخلاقي،ولكن عندما يصف المجتمع الاخلاق الحقة:باللااخلاق،فسيكون مجتمعا كهذا-حسب معاييره للاخلاق-مجتمعا اخلاقيا!.فليس الرسام مذنبا عندما يصور بريشته القبح،بل هو النموذج القبيح هو المذنب"!.ان بلزاك يثبت مبدأيته هنا،وهو يجابه المنافقين بالاخلاق الفردية الحقة،والتي من مبادئها:لايوجد اي ايمان اقوى من الارادة-بلزاك هنا وكأنه السلف الاصيل لنيتشه!-..في سبيل الهدف المشترك،الذي هو الثراء،يقول لويس لامبير-بطل رواية بالاسم نفسه لبلزاك.م.ا-،وهو صورة من بلزاك الشاب:"ان ارادتي الحديدية قادرة على كل شيء".وهذا ما آمن به بلزاك دائما.يصف بودلير الشاعر الفرنسي،بلزاك،ب"نظري الارادة".وكما يقول بلزاك عن نفسه:"ان الانسان القوي حقا يجد الخلاص،ببذله قوى خارقة عند ارتقاءه الاجواء العالية".من الاسفل الى الاعلى،وبواسطة ارادة الصعود،او مايطلق عليه بلزاك"حركة صعود النقد"يرتقي الانسان القوي السلم الاجتماعي نحو سدة المتنهى.ولكن المسيو بلزاك فشل حتى في صعود الدرجات السفلى من سلم البرجوازية العسير وصعب الارتقاء!.
كان بلزاك يعتقد بأنه لن يرتقي لمكانة عليا على سفح هرم الطبقة البرجوازية بخدماته الاجتماعية او الثقافية،بل في اعتماده على ذاته وارادته،وجهده الفردي،ومهما كان الثمن!.وان الرغبة،رغبته هي التي تقود ارادته نحو العظمة والثراء،وبها وحدها-الارادة-تقاس القيمة الاخلاقية.يقول بلزاك:"ان الجرأة الاخلاقية تجعل من الانسان عظيما في طيبته،والامر سيان أكان متعلقا بالطيبة او الجريمة،فالمهم هو التحلي بالجرأة الاخلاقية".انها الارادة غير المؤمنة بصلاح البشر،والتغيير،العديمة العاطفة،الباردة،والتي لاتجدي معها كل اشكال الرجاء والتوسل.اذن:كيف تكون قوانين العدالة محققة في عالم قاس،ومقلوب،وظالم كهذا؟!.حيث تنقذ الارادة راستنياك،وتحكم بالفشل على لوسي دي رومبيري؟!.انها موجودة،ولكن ضد الضعفاء،لتطبيق شريعة الغاب،قانون وعدالة الاقوياء!.فتهب لنجدة ونصرة المنتصرين الجريئين،اصحاب الارادة والحيلة،ذوو البأس والقوة.موجودة من اجل مساعدة الارمل الخبيث الكذاب ضد الضابط شابير،موجودة من اجل المركيزة دي سبارو ضد زوجها،مع كاموزو دي مارفيل ضد الفقراء!.ان مؤسسة القضاء هي مؤسسة-جهاز طبقي-وأداة قانونية برجوازية حتى في العلاقات الثابتة بين الحكام والاحزاب المسيطرة-السائدة."وبسبب معتقداته،لم تعر الهيئة القضائية،المحامي "فيني"اذنا صاغية"!.هذا مايجري من ممارسات العدل البر جوازي في العالم الروائي البلزاكي الواقعي،حيث يرتفع الخط البياني للطموح بموازاة ارتفاع الانتاج والربح الصناعي والمالي.فالمجتمع يحمل في احشائه قانون حركته وصراعه،فحركة صعود المال تقدم تفسيرا منطقيا للتفاعل الجدلي بين العقول والنفوس.يقول فاتران-احد شخصيات بلزاك-عن هذا المجتمع:"ان النجاح هو السبب المحرك لجميع التصرفات"ومايجري في عروق افراد هذا المجتمع هو:الذهب بدل الدم!.لهذا دأب نقاد بلزاك المتحاملين على لومه،للمبالغة في سماع رنين التالر!.حاول الكثير من دارسي بلزاك وادبه ننبع انساب شخصياته في موسوعته الروائية"الكوميديا الانسانية"واقتفاء آثار الابطال الحقيقيون الذين وقفوا وراء خياله الروائي،ولكن لم يكم هناك سوى الجذر الاول،الام الكبرى،والتي انحدر منها الجميع،الا وهي:الملكية،فهي البطلة الرئيسية في ملحمة بلزاك وسرديته الطويلة.فهو يقول:"ان مهر الزواج هي احد بطلات هذه القصة"على لسان نائب ارسي!.ويقول ابن العم:"كلهم يريدون معرفة بطلة هذه القصة"ويقصد بذلك:مجموعة التحف الفنية الثمينة،والتي تبلغ قيمتها ملايين التالرات!.ان تتبع الشخصيات وتحولاتها،وانتقالها من رواية الى اخرى هو امر ممتع بالتأكيد،ولكن الاهم من ذلك هو متابعة كيس النقود!.وكيف يصنع هذا الكيس العجائب والمعجزات،بين حركة وانتقال وسلوك عبيد المال هؤلاء!.لنأخذ شخصية الاب"غوريو"مثلا على ذلك:ان هذه الشخصية التي تشبه الملك لير-لكن كبرجوازي!-يحطم نفسه من اجل بناته العاقات،ومن اجل ذلك لابد ان يكون غنيا ومالكا اولا!.وفي الحقيقة كان الاب غوريو في بدء انطلاقه "عاملا بسيطا في معمل لانتاج المعكرونة"واصبح اثناء الثورة الفرنسية رئيسا لمقاطعة مدينته،لابسبب ايمانه بمباديء الثورة والجمهورية الفرنسية طبعا!.بل لانه اراد "حماية تجارته"واستطاع تحقيق ارباح طائلة من مجاعة حقيقية او مفتعلة"وجمع ثروة كبيرة،وآلت تلك الثروة في الختام الى بناته،واللاتي جعلت تربيتهن الرفيعة منهن فتيات ميتات الروح والضمير،ومن الطبقة البرجوازية الراقية!.فتزوجت احداهن البارون دي نوسيني،وتزوجت الاخرى الدوق روستو،وهكذا تنتقل الثروة الطائلة من جيب الاب غوريو،بعد ان جمعها باستغلاله مجاعة باريس،الى جيوب الشرائح الرئيسية من طبقات الفترة الزمنية المقبلة:الى البنك،والملكية العقارية!.لقد انقضت تلك الحقبة التي تخون فيها"سوتيفل"عشيقها البرجوازي"جورج دندان"يكل برود ابان عصر موليير.ففي المرحلة الرأسمالية الصاعدة اصبح الوضع مختلفا جدا،فخيانة بنات مالك معمل المعكرونة-الاب غوريو-للبارون المالي،والدوق الشريف.احداهن مع ر"استنياك،"والاخرى مع"مكسيم دي تريل".فالعلاقات العاطفية خارج مؤسسة الزواج لاشأن لها بالحب قطعا عند هؤلاء السيدات والسادة المحترمون!.لقد اصبح راستنياك عشيقا لدلفين بعد ان تعلم درسا من موت ودفن الاب غوريو،فيخاطب من اعلى تلال مقبرة"بيير لاشيز"المدينة الجاثمة تحت قدميه،مخاطبا اياها قائلا:"والان اتى كلبنا ياباريس"!.وسيغدو راستيناك(نا) هذا رئيسا للوزراء عندما نلتقيه للمرة الاخيرة على صفحات الرواية،عندما يتزوج ابنة عشيقته،والتي يكون نصف مهرها"اربع افلاسات"ونصفه الآخر"من مجاعة حقيقية او مفتعلة"!.اما النصف الآخر من ثروة الاب غوريو،والتي يديرها المرابي"جوبه"فيتيح لورثة عائلة روستو الزواج من اعظم الاسماء في فرنسا!.وهكذا قامت حركة صعود النقود بوظيفتها الاساسية.كانت المجاعة منبع المال،ثم البنك،والملكية العقارية،واخيرا الحكومة و"فوبورج سان جرمان،وسيزار بيروتو-عنوان رواية لبلزاك بنفس الاسم.م.ا- تاجر العطور و"شهيد التجارة"الذي قام بوظيفة نائب عمدة مدينة مقاطعته،وابتدأ غناه من المضاربة بالنقود في فترة الثورة،ثم تاجر بالمراهم المزيفة المانعة للصلع،ورغم عدم جدواها كعلاج!.واشترى بأسعار بخسة عقارات مختلفة،ويرد على زوجته المحتقرة لعمله هذا،بأن هذه الاعمال هي من"ضرورات"هذا العصر!.وبعد افلاسه بسبب محام محتال،والاعيب احد اصحاب البنوك،يبروءه بلزاك من كل عمل مشين،جاعلا منه شهيدا للتجارة!.لتنتهي ملكيته المستعادة الى ابنته وصهره"انزلم بوبيتو"الذي سيصبح اثناء حكم لويس فيليب وزيرا للتجارة!.فياللمصادفات الطريفة:صهر شهيد التجارة يصبح وزيرها!!ان كسالى بلزاك من نبلاء وبرجوازية ليسوا كمدللي"بيير دي ماريفو"المتأنقين الناعمين من الطبقة الوسطى!.فهم بشر من لحم ودم،ومختلفون جدا عن شخصيات ماريفو اللاهين،ففترة العبث والكسل قد ولت منذ امد بعيد،وحلت بدلها حقبة:الماراثون النشط واللاهث صوب مراكمة المال والغنى،وتميزوا بالحركة الدؤوبة لجمع المال(آلهة الازمنة الحديثة)!.فقد كان تكوين وسيرورة البرجوازية،ومنذ تبرعمها البدئي،وخط سير المال،مر عبر انفجار التالر وتشظيه الى ملايين!.فالطريق النمطي لتلك الرحلة،يبدأ من:صاحب حانوت،مرورا بمضاربات مالية ملتوية ومغامرة،ومن خلال احتيالات ونصب،وبيئة موبوءة وملوثة بالقذارة،يستغل فيها غباء الانسان،وجهده ،من اجل الوصول للثروة،لينتهي الدرب،بوظيفة عليا في مؤسسات وحكومة البرجوازية السائدة،مع تعدد وتفاوت في المسالك،ولكن تبقى النهايات قريبة من بعضها.فمصدر ثروة"تايلفر"المرعب،ممثلا،رجل المستقبل الغني،الذي بدأ جنديا،ثم قتل احد تجار الماس في"الخان الاحمر"-رواية بالعنوان نفسه لبلزاك.م.ا-وبعد ان يعرف خطيب ابنة تايلفر"فكتورين"بمصدر مهر زواجه الملطخ بالدم!.فما العمل؟!وكيف يتصرف؟!.لانحتاج للتفكيروالتنبؤفي موقفه وتوقعه!.فعندما يقول له المحامي متسائلا:"اين سيقودنا الطريق لو اردنا البدء في البحث عن مصدر الثروة؟"-فكل الثروات والملكية مشبوهة المصدر ولابد ان تكون ملوثة بالدم وعرق الضعفاء والمستغلين-وعندما يحاول احد الرهبان مخاطبة الحس الديني والضمير لدى الخطيب،قائلا له:"ليكن نصفها للفقراء،والنصف الآخر لك"فيالها من مشورة حمقاء،ونصح بالغ الغباء والسذاجةّ.فالزوج المقبل سيقتنص الفرصة السانحة،فقد عرف جيدا قواعد اللعبة البرجوازية،وبعيدا عن الاخلاقيات الجوفاء،ونداء الاستقامة الديني الابله،اقتنع الخطيب الموعود بثروة الزوجة-الحبيبة-الغنية،فتصرف بحكمة برجوازي مبتديء،راشد وعقلاني،وبقرار قانوني ومشروع بصواب وذرائعية فعله!.فمرور الزمن يمحو كل الاعمال الشريرة والسيئة ،ومهما بلغت من خسه وخبث وجريمة.وليس هناك من ثروة او ملكية لاتتطهر من الادران والاثم والخطيئة،بعد مضي فترة طويلة،وهي في حيازة المالك الذي يحولها ويتحول معها:فاضلة-فاضل،محترمة-محترم،انسانية-انسان،اخلاقية-اخلاقي!.والتبريرات والحجج من الكثرة والتوفر وكافية لاقناع ليس البشر فقط،بل والملائكة ايضا بسلوك درب البرجوازية!.وهذا ليس حال البرجوازية فحسب،بل هو يسري وينطبق على الارستقراطية ايضا،فهم ورثة سرقات وجرائم وفضائع اقدم واسوء واقبح من جرائر وموبقات وشناعات البرجوازية،ولااخلاقيتها!.فالاب"غرانده"مثلا،ضارب بملكيات وعقار الكنيسة،ومثلما فعل والد"كازيمير بيرير،وكان ايضا ممولا للجيش كالعديد من اصدقاء والد بلزاك،وكانت له حصة من ارباح صاحب البنك"جراسان".وساعده كاتب عقوده المالية على استثمار نقوده بفوائد ربوية فاحشة.ويبقى موضوع ثروته سرا خفيا!.حتى ان قريبه يترك هذه الفرصة السانحة تفلت منه،وينسى حب"اوجيني"لتتزوج من كاتب عقود ابيها،والذي سيغدو رئيسا للمحاكم الفضائية!.وعندما تريد ارملة"كروشو دي بونفو"ان تتزوج ثانية،فسيكون زوجها هذه المرة هو المركيز"دي فرودافو"،ويرتقي المال الذي سرقه المحاربون البخلاء،ومستغلو الثورة والجمهورية،وجنودها الابطال،حيث تصل تلك السلالة في صعودها المتواصل الى السلطة القضائية،لينتهي بها المآل الى ان تصبح اعرق،وابرز العائلات في المقاطعة،فياله من مطاف مظفر؟!.
ان رواية"اوجيني غرانده"هي بالتأكيد رواية عاطفية،تمتاز بالسوداوية،والمشاعر الميلودرامية،وكانت ستخلو حتما من اي محتوى مركزي كباقي الروايات الاخرى لبلزاك،لولا المال وسيرته!.وهو البطل الاساسي لروايات"الكوميديا الانسانية"فهو الدافع المحرك والمركزي لسلوك ومواقف معظم الشخصيات،كما انها لم تكن لتكون رواية،لو لم ترث"اوجيني"ثروة ابيها الطائلة،وايضا ماكان لنا ان نعرف صعود وسقوط"سيزار بيروتو"لو لم يكن غنيا.ولو لم تكن جريمة"تايلفر"هي القتل والسرقة،لكانت مجرد حادثة تافهة مبعثها الغيرة لااكثر،ولما كان هناك اي زواج او تأنيب للضميروالصراع داخل النفس البشرية.ولو لم يجمع الاب"غوريو"مالا كثيرا لما وجد اصلا "الاب غوريو"!.ولولم يكن"جوبه"هذا الفيلسوف (الماركسي)-السابق لماركس!-(ان صحت التسمية،وصدق النعت،والمناقض اصلا للتسلسل التاريخي الزمني،بين ماركس وجوبه)!.قد قال:"ان الصراع ناشب بين الفقراء والاغنياء،ولايمكن تفاديه في كل مكان"!.ولو لم يصرح بهذه الحقيقة المبهرة،ويتوصل الى هذا الاستنتاج الصائب الثاقب-وقبل ماركس-:"النقد هو بضاعة"!.ولو انه لم يجهر بهذه الحقيقة،ولو ان "فاتران"لم يقل:"ان مجتمعنا لايعبد الاله الحقيقي،بل يعبد العجل الذهبي"!.ولو انه لم يجهر ايضا بتلك الحقيقة.لو لم يكن كل ذلك الكل المترابط الحلقات،لما كانت هناك"كوميديا(لاانسانية)"!.وكما يحمل البحر السفينة،كذلك تحمل حركة المال وصعوده"الكوميديا الانسانية"والتي تجمع فيها الثروة،وتكنز،وتتكدس من السرقة والنهب والبغاء والجريمة والاستغلال،لتبني وتنصب عرش القوة والسيطرة لطبقة الاغنياء-البرجوازية-طبقة الارادة والقوة والمال.لم يكن بلزاك ليخفي عواطفه واعجابه باللصوص والمحتالين الناجحين ذوو المكانة والنفوذ،وايضا لم يكن يخفي احتقاره وسخطه على الحمقى والكسالى،الذين يبعثرون ثرواتهم الفاحشة ويبددونها،بدلا من مراكمتها وزيادتها بتثميرها وانماءها،ويفرطوا كبلهاء بالغنى والجاه والمركز الاجتماعي!فبلزاك كان يحترم من يصنع المال ويحتقرمن يبدده!.ان بلزاك،وبحق،كاتب لتاريخ المجتمع البرجوازي الفرنسي،وهو الروائي الواقعي الابرز لعصر الرأسمالية النامية في زمن الاشتراكيات الطوباوية،والحركات العمالية المتخبطة والحيرى في تلمس سبل انعتاقها.ولكن بلزاك هو كاتب واقعي فعلا،وفي نفس الان غير واقعي ايضا!.واقعي:لان كوميدياه الانسانية كانت تعبر عن الصفة المشتركة،لبنية المجتمع الفرنسي في حقبة بلزاك،وازمنتنا المعاصرة،الا وهي الرأسمالية بتحولاتها وتمظهرها وتكيفها،وعندما تبدوفترة بلزاك قد انقضت كتاريخ وولى عهدها لحد ما،ولكن البرجوازية مازالت موجودة تتنفس وتعيش،بتعدد اشكالها ووجوهها،وقد غطت سطح الكرة الارضية بعولمتها الممتدة تقريبا.وان ذلك المجتمع البرجوازي(البلزاكي)الذي حكمته الطبقة المنتصرة-اقتصاديا وسياسيا وايديولوجيا-لازالت تحتفظ:بأخلاقها المرائية وقيمها المزدوجة،ودوافعها الانانية،وجشعها العارم للمال والربح،وسلوكها ومواقفها البرغماتية الحربائية،وبأختصار:طموحها-طمعها المهووس،الفردي-الجمعي الذي لايرتوي للربح،ومزيدا من الربح،ولن تغير الا جلدها واقنعتها.ولانستطيع ان نقول،ان نماذج بلزاك الروائية وشخصياته،هي خالدة كتلك التي صورها موليير في مسرحه،بل هي على العكس،فهي نماذج واقعية تاريخية بامتداداتها واستمرارها في سيرورتها،لان مجتمعها الرأسمالي اللاانساني لازال على قيد الحياة،ويصارع من اجل البقاء والتجدد،وهو يتكيف عبرالازمنة،ولم ينزل ستار المسرج الاجتماعي بعد،لنشهد نهاية عرض"الكوميديا(اللاانسانية)"!.وغير واقعي،في ذاته،لان هذا المجتمع الذي تغنى بلزاك بمجده كنموذجا مرغوبا للاحتذاء والتبني،يختلف تماما عن ذلك المجتمع الذي ابدعه ادبيا ووصفه بواقعية عز نظيرها في اعماله الروائية.
لقد تحول العالم الذي تطلع اليه بلزاك بشغف،الى جسد مثخن بالجراح والامراض.لاشك في ان طاقات الرأسمالية الديناميكية الهائلة،وحيويتها الفتية،منتصف القرن التاسع عشر قد جرى تخطيها في القرن العشرين،وتجاوزت في تغولها العولمي تخوم افقها ابان مفتتح ألفيتنا الثالثة الحالية.فالجشع للربح والتراكم،وتوسيع الاسواق،ورسملة العالم،هو من طبيعة وآلية الرأسمالية،ولازال مسيطرا عبر الشركات على الرأسمال في المراكز،وتابعيه في الاطراف.وشعار"اغتنوا"لم يستطع كولبير ان يوجهه للبرجوازية في حينه،ولكن غيزو اطلقه في الوقت المناسب،وتحت حكم لويس فيليب.لن نجد بعد بلزاك من كتب عن التاريخ الواقعي لتلك الشخصيات الجسورة والمغامرة،والساخرة،مثله هو او ستندال وآخرون من كتاب القرن التاسع عشر والقرن العشرين.فالعلاقات بين القوى الطبقية المتواجهة والمتصارعة لم تعد كما كانت عليه سابقا في زمن بلزاك،فلم يعد ممكنا كتابة"كوميديا انسانية"معاصرة ككوميديا بلزاك،والتي هي ايضا لم تكن بذلك الكمال التام الذي رنى اليه بلزاك."انني حملت في مخيلتي مجتمعا كاملا"هذا ماكتبه بلزاك الى صديقه السيد هانسكا.انه يتكلم عن مجتمع كامل في مخياله،ولكنه في الحقيقة،لم يتناول في كل نتاجه الروائي،سوى شرائح وفئات من طبقة سائدة ممتدة ضمت:التجار،والفنانين،والدوقات،والقضاة،والاكليروس،والافطاعيين،والمجرمين،والاطباء،ورجال المال والصناعة،والمومسات،الخ،ولكن لم يكن ابدا من بينهم عامل واحد!.فطبقة البروليتاريا،والشغيلة عموما كانت غائبة تماما في كل ماكتب من روايات وقصص!.لم يغب العمال كذوات وطبقة من متون رواياته فحسب،بل حتى على صعيد المكان ومسرح رواياته،كأحياء ومناطق ومدن،اختفت ازقتهم وحواريهم ايضا!.فغرقت في السبات والهامشية المدينية،ف:انجولم،وسانسيري،وسومو،وفاليسون،تختلف قطعا عن:"ليل"وبيوتها،او"ليون"وعمال النسيج فيها،او"روون"ومصانعها!.فبلزاك كتب فعلا عن جميع مناطق واحياء باريس،ولكن لم يكن بينها اي منطقة او حي يقطنه العمال!.وبالرغم من ان عمل بلزاك الادبي الضخم غير مكتمل،وايضا لم يعكس كافة جوانب"المجتمع الكامل"في رواياته،لانها اقتصرت على عرض وجه البرجوازية الطبقي،دون نقيضها الاجتماعي والذي يشكل غالبية المجتمع الفرنسي"الكامل"بكل طبقاته واطيافه-كما صرح هو بذلك!-.الا ان احدا لم يشك اطلاقا،من:ماركس الى مورياك،بانه،ورغم ضيق الافق الاجتماعي لل"الكوميديا الانسانية"-وكأنه لم يكن هناك سوى برجوازية وارستقراطية لاغير!-الا ان موضوعاتها ومضامينها تبقى اصيلة وبنت الواقع،وامينة في عكسها المرآوي للمشاهد والصور المطابقة للحقيقة المجتمعية بكاملها،بتعرية وكشف ما كانت عليه البرجوازية الفرنسية،وهذا مايحسب لصالح بلزاك في التقييم،وكدليل كاف على ان للواقعية في الادب تأثير بالغ ومغير وتقدمي،لان الحقيقة هي دائما واقعية وثورية.لذلك كان هيجو على حق عندما وصف بلزاك قائلا:"ان بلزاك ينتمي شاء ام ابى،الى"النخبة الممتازة من الكتاب الثوريين".لانه كان صادقا،وتقدميا،وموضوعيا،وصدق"الكوميديا الانسانية"(اي حكم التالر الذي يسيطر في المجتمع البرجوازي على الملوك والدول والدساتير).
وتأثيرها اكثر ثورية،كلما ارتفعت صرخة الاتهام والادانة،وازدادت البروليتاريا والجماهير الكادحة قوة وتنظيما ووعيا.وهذا ما حمل النقاد البرجوازيون الى بذل جهدهم واندفاعهم،ويصورة مستمرة لتشويه،واخفاء المحتوى العميق،والكاشف لقبح ولااخلاقية البرجوازية في"الكوميديا الانسانية".فلو قرأنا كل التقديمات-المقدمات التي كتبت للتمهيد لرويات"الكوميديا الانسانية"-ولكل رواية مقدمة-والتي اصدرتها دور النشر-الساعية للربح-ونوادي الكتب الفرنسية،فأننا نجد ان الكتاب اياهم-وفي كل مرة كاتب جديد-ولا واحد منهم لوث مقدمته،بكلمة وضيعة،مثل:كلمة(الرأسمالية)!.فلم يقم وزنا او يعير التفاتا او ذكرا لحقيقة العلاقات الاجتماعية-الطبقية في"الكوميديا".ولو قرأنا حتى الكتاب الذي صدر في منتصف القرن الماضي،وبمناسبة الذكرى المئوية لوفاة بلزاك،والذي ضم كل الخطب الرسمية وشبه الرسمية،وشمل المقالات المتنوعة عن بلزاكـ فلن نعثر فيها الا على:بلزاك المتنبيء،وبلزاك المغامر بشخصياته،وبلزاك والدين،وبلزاك والاسرار،وبلزاك الاسطوري،وبلزاك والطب،وبلزاك والموسيقى،وبلزاك عدو الانكليز،الى آخر هذا الكشكول المثير من العناوين والاشارات لغرائبية بلزاك وتنوع اهتماماته!.اما وجود مقال واحد في هرجة المقالات هذه،يتحدث عن النقود او سلطة المال التي يرتكز عليها العقد الاجتماعي السائد والمهيمن-وهي الموضوعة المركزية لكوميديا بلزاك-فلم يكتب احدهم،حتى ولو سطر واحد او كلمة،ولم يمسوا حتى من بعيد،قضية المال ودوره الحاسم في العلاقات الاقتصادية-الاجتماعية،لافي المجلات ولا في الصحف!.ولاكل المقالات التي كتبت عن بلزاك في مئوية وفاته،تطرقت او ذكرت البطل الرئيسي في اعماله الادبية وهو:الاله الجديد...المال!.
وحتى المجلة التي اصدرتها منظمة اليونسكو بمناسبة الاحتفال ببلزاك،لم يتطرق ايضا اي كاتب في تلك المجلة بأستثناء فرانسوا مورياك،وايفسكيفتش،الى دور النقود في سلوك ومواقف وقرارات شخوص"الكوميديا الانسانية"كعامل رئيسي في حياتهم ومصائرهم،سواء اكان الكاتب فرنسيا ام هنديا او مصريا!.فهم لم يطرحوا قضية المال حتى كسؤال!.نخن لانحتاج لبرهان او اثبات اكبر واوضح على الصفة الواقعية والثورية النقدية لعمل بلزاك الادبي،اكثر من هذا الكم الهائل من التشويه والتضليل المتزايد من قبل من عراهم وفضحهم هذا السفر الخالد لبلزاك،فأظهرهم بحقيقتهم البشعة،وعبوديتهم للاصفر،بوعي او بلا وعي!.يجب التنويه والاشارة الى تواضع بلزاك ونزاهته،وتسليمه بالواقع الموضوعي كما هو دون تزويق او تلفيق او رومانسية مثالية،وبالضد من رغباته وميله العاطفي.لقد كان بلزاك حقا،وكما رأى نفسه:كاتبا وسكرتير للتاريخ لااكثر.ونختصر لنقول:ان واقعيته كانت هي ميزته الكبرى وطبعه الادبي المحايد،ولايستطيع اي كاتب ان يدانيه في تلك الواقعية الدقيقة والباردة،او حتى ان يقلده فيها.ولو اتخذ كاتب روائي ما،نفس الموقف العلمي النقدي لبلزاك حيال الواقع الاجتماعي الذي عايشه،واراد ان يكون مثله:"عالم الطبيعة للرواية"و"سكرتير المجتمع"و"كاتب التاريخ"فسوف يوصم فورا وحتما ب:الروائي الشيوعي!.من اول كتاب ينشره،وسيصبح من يقرأه بعد كتابه الثاني،متأكدا وعلى يقين من شيوعيته!!!.اما بلزاك فلم يكن احد ليتجرأ ويتهمه بالثورية او الميل الاديولوجي للاشتراكية،لان بلزاك السياسي كان منفصلا وبحدة عن بلزاك الادب!.كان عنوان"الكوميديا الانسانية"مستوحى من عمل دانتي المبهر"الكوميديا الالهية".ولكن بلزاك هبط بالوقائع الى الارض والناس العيانيين بدلا من المطهر والجحيم والفردوس والبحث عن حبيبة دانتي"بياتريس".كان هم بلزاك منصبا على بسط وتشريح حيوات شخوصه البرجوازية والارستقراطية الحية المستمدة من حياته وعصره ومجتمعه.وهناك كاتب استوحى عنوان كوميديا بلزاك ونشر رواية بنفس العنوان وهو الكاتب الامريكي من اصل ارميني "وليم سارويان".حاولنا وعلى فدر الاستطاعة ان نقرأ بعقل وعيون مفتوحة،جانبا او جزءا صغيرا من السيرة الادبية والسياسية لعالم بلزاك الشاسع والمترامي،والحافل بالغرائبية الواقعية،او العكس:الواقعية الغرائبية!.ولكن بلزاك كان وسيبقى لغزا،ومن الصعب فك مغاليقه المركبة والمتناقضة في وجوهها المتعددة.فحياته وسلوكه وادبه،ومواقفه السياسية،واهواءه ونزعاته الذاتية،كانت عاصفة مغبرة لاتمكن من الرؤية بوضوح،وخاصة الوجه الآخرلبلزاك،وجهه السايكولوجي الاهم،اغواره النفسية المعتمة،وكان لها دورا فاعلا في تكوين شخصية بلزاك،ولم نتصدى لتحليلها وتفكيكها،وهذا الامر يحتاج لبحث خاص ومستقل حتى نتمكن من الاحاطة بسايكولوجيا بلزاك وفهم شخصيته المعقدة والمضطربة،والعصية على الوضوح والتبسيط!.فسؤالنا المركزي كان عن:"كاتب التاريخ"وبذلنا جهدنا في الاجابة عليه،ولم نفلح الا بقدر ضئيل في الاجابة عليه.هذا الكاتب العظيم،والذي هز مشاعر وتفكير:الثوار والمفكرين والادباء،وكان مؤثرا،ونموذجا لهذه الجمهرة والطيف الواسع من الثوريين والاحرار والمثقفين،من:ماركس الى غوركي!.اعلن بلزاك في مقدمة"الكوميديا الانسانية"قائلا:"انني اكتب على ضوء حقيقتين ابديتين:الدين والملكية المطلقة".وتصريحه القاطع الحاد هذا،نشك بمصداقيته والتزامه به،وكانعكاس صادق لايمان بلزاك،فكرا وعاطفة وولاء وواقعية.فقد ادلى بالكثير ،ولمرات متعددة بما يخالف ويناقض اعلانه هذا،في:ادبه،وسلوكه،وحياته،ومواقفه.ان بلزاك الذي كان يؤمن بأشياء متنوعة وعديدة،وبعيدة عن الدين والملكية المطلقة،مثل:الفلك،وعلم الفراسة،وقراءة الافكار،والمغناطيسية،والمقدسات الثلاثة،كان بالغ السذاجة في اعتقاداته ويقينه الديني والسياسي،لدرجة تثير الدهشة عندما نقارنها بذكاءه وفطنته وادراكه اللامع لسيرورة وطبيعة مجتمعه البرجوازي!.ف"طبيبه القروي"وكذلك"قسيس قريته"وغيرهم من شخصياته الروائية،هي نماذج تمثل:الطوباوية الحمقاء،والبلاهة المثالية،والتي وصفها ماركس،وبفكره الثاقب:بالشخصيات الروبنسونية،والتي تقوم بثوراتها في مساحة ثلاثين كيلومترا مربعا!.فبلزاك،وعلى المستوى الشخصي،وبالضد من قيم الدين الذي يقدسه،كحقيقة ابدية!.كان على العكس:انانيا،وقحا،طموحا وجشعا،رجعيا،لااخلاقيا،وفجا،وفظا،يفتقر للذوق،ورقة المشاعر،والنبل الانساني،جاف العاطفة،ومتحجرا باردا لم يعرف اي شكل من اشكال الحب الرقيق المنزه،حتى حب الوالدين!.كان حالما بهدف اوحد،في كل مايعلن ويتصرف،هو الوصول وبسرعة الى الغنى،وامتلاك المال والعقار،وكانت وسيلته المثلى لنيل المأرب،وهي الطريقة الكلاسيكية:زواج المال،وتناسله،وتثميره،وليذهب كل شيء آخر الى الجحيم!.ولكنه لم يفلح ويحقق رجاءه،فكان الفشل الدائم هو حليفه،بل صديقه،وهنا نسأل بدهشة واستغراب:اذا كان بلزاك ذميما بهذه الصورة الكريهة،فكيف نال،وحاز اعجاب وتقدير تلك الكوكبة البارزة من المبجلين المادحين؟!.هذا البرجوازي الشره للمال، هذا الرجعي المؤمن بالملكية المطلقة،والمعادي والكاره للثورات،والمقدس للكنيسة الكاثولوكية،وكهنتها من قسس ورهبان وباباوات!.السبب واضح وبسيط جدا،ونجده في سفره الادبي الكبير والمعروف ب"الكوميديا الانسانية"فهناك بون شاسع بين ماكتب،وما ادعى،او كان يؤمن به حقا ويقدسه كحقائق ابدية،تناقض حاد وفصام محير-هل هي شيزوفرينيا،وانشطار،بين مادونه من نصوص،وماعاشه من حياة وتطلعات،وكأن شخصا غيره كتب ماكتب؟!-بين افكار واهواء ومعتقدات معارضة على طول الخط لادبه ورواياته الواقعية المثيرة،فهي تبدو وكأنها ادانة صريحة ونقد وتعرية لكل ما آمن به،وكل رغباته وآراءه الخاصة،والتي لانعرف ولن نعرف،اذا ماكان مؤمن بها صادقا وحقاأاو مدعيا يتظاهر بها،او متوهما ومخدوعابها؟!.ان تصوير وعرض الواقع عبر موشور الادب في عصرنا الراهن،هو ادانة صريحه للنظام والمجتمع البرجوازي غير السوي والمنافق،واتهام شرعي مدعوم بالادلة والحقائق.واكثر مما كان عليه الوضع في زمن بلزاك،ولايمكن توجيه هذا القرار بالادانة،دون الانحياز والتحزب للطبقة العاملة وبقية الشغيلة من الاجراء،والذين يشكلون غالبية الدول والمجتمعات.فالحكم على البرجوازية وتجريمها بحق مواطنيها والشعوب المستغلة،هو بالضرورة،هوية انتساب واصطفاف سياسي وفكري وثقافي الى جانب الطبقات الكادحة المقهورة والمستغلة والمستلبة.ان انكار وتهميش و(او)تجاهل جماهير الشغيلة،وفكرها،وحزبها او حركتها في عالم الرواية هو ممكن،ولكن بشرط واحد،هو:الاستغناء او الغاء واقعية بلزاك الكاشفة.ان بلزاك لم يشاهد او يتوقع ماتنبأ به ماركس،من آفاق،وتحولات وتطور في بنية الرأسمال لازمنتنا المعاصرة.ولكن عدم رؤية الواقع الاجتماعي-الاقتصادي والسياسي الذي يجري الان على مسرح العالم بفوضاه واضطرابه وخرابه العولمي بليبراليته الجديدة،يحتم وبتطابق،اغماض عيوننا،واصرارنا على التعامي والانكارـوهذا ينسجم مع انكار واقعية بلزاك.ان الادباء اليساريين من شعراء وروائيين،وكل الملتزمين بقضايا العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة،لايمكنهم الاكتفاء والتوقف عند برهة واقعية بلزاك الفريدة في حينه،والتي باتت اليوم ادب كلاسيكي في تاريخيته وستاتيكيته.وهذه المسألة لاعلاقة لها بالتعالي او العجرفة او تطورات الحداثة الفلسفية والادبية ابدا.ان طفل في الثانية عشر من عمره اليوم هو ارقى معرفيا،فهو يعرف اشياء وحقائق لم يعرف او يسمع بها او يتصورها افلاطون او ارسطو في زمنهما!.ولكن هذا لايقلل طبعا من شأن او مكانة:افلاطون وارسطو اللذان قدما للبشرية كنزا من المعرفة على صعيد الفلسفة والمعرفة والاخلاق والفكر عموما،وقبل الميلاد بقرون!.والحديث هنا ليس عن الموهبة والفن والفلسفة،بقدر ماهو عن المعارف والتقنيات والتطور العلمي المتفجر!.اننا نتأمل ونستكشف الواقع مثلما فعل بلزاك،وربما اكثر اتساعا واعمق،ولكن لادراك محركات ودوافع الواقع العميق والمعقد،نتميز بامتلاكنا المعارف والخبرات والمعلومات المتراكمة والغنية للعقل البشري منذ بداية تاريخه المدون،ونمتلك المعرفة ايضا عن القرن والنصف الذي تلى موت بلزاك.فالعمل النظري والعملي الخلاق لايستطيع ان يتجاهل الوعي الفكري والمادي.يقابل هذا،ومن قبل الكثيرون بالتشويه الايديولوجي المنافح عن حاضر ومستقبل الرأسمالية،وغالبا بمفهوم:"الدعاية"البروباغندا السياسية،والتضليل الايديولوجي،والمجابهة الفكرية.فينوهوابأشارات مغرضة الى ان:هدف الادباء والكتاب الماركسيين هو مجرد حشر عناصر سياسية وايديولوجية،وبخلفية طبقية،في غير حقولها،فتهز،وتخل بطبيعة الادب والفن المستقلة او شبه المستقلة عن بقية البنى الاجتماعية.والتي لاتنسجم مع الابداع الفكري والادبي،فتلك العناصر بتطفلها الثقيل على ماليس من شؤونها او اختصاصها.وهذا ليس صحيحا تماما،فماركسية الماركسيين ليست صفة سطحية عابرة،او ترف فكري ،ولعب نظري،وحتى لو ارادوا ذلك.فهو التزام وانحياز ونهج،وليس بأمكانهم التخلي او تعليق نظرياتهم وافكارهم ورؤاهم كماتعلق المعاطف عن الدخول لحفل او البيت!.ان هذه العيون التي تنظر الى الورق الابيض،وهذه الاصابع التي تكتب بواسطة الكلمات التي ينتجها العقل والمخيلة بتفاعل مع الواقع الاجتماعي والسياسي،هي التي تبعث العالم الحقيقي للوجود وتطور وتجدد نسغ الحياة،وهي بالضرورة عيون وايدي ماركسية ويسارية وديمقراطية،تختلف في تفكيرها نوعيا عن تفكير بلزاك ومعاصريه،وهذا طبيعي وضرورة في سيرورة الوعي.فاختلاف الابداع الادبي النابع من اختلاف الموهبة والاستعداد التكويني وغيرها من الخصائص الفردية،هي مسألة اخرى مختلفة تماما.لكن الحقيقة المؤكدة هي ان واقعيتنا مختلفة عن الواقعية النقدية الاجتماعية في القرن التاسع عشر كما لدى بلزاك،وكما سيختلف اصحاب البنوك والمحتالين وفرسان التالر-الدولار-القادر على كل شيء!-والارستقراطية المالية في عصر العولمة،والذي ربما سيخلق كوميديا مستقبلية منسجمة مع احلام وتطلعات الاجراء،ويجعل من الكوميديا البلزاكية"اللاانسانية"!كوميديا انسانية حقا في عالم جديد،وانسان لايعرف الملكية الخاصة ولا الاستغلال ولاالاغتراب.نعرف ان عالم مثل هذا هو عالم طوباوي،ولكنها من نوع طوباوية المستقبل ولاهوت الامل(البلوخي)-نسبة للفيلسوف الماركسي الالماني"ارنست بلوخ"-ماليس بعد...مالم يأتي بعد..ماهو في طور الامكان!!!فهل سنساهم في تحققه،ام نبقى سلبيين،ونكتفي بدور المتفرجين؟!.....
..............................................................................................
وعلى الاخاء نلتقي...