بلزاك..(سكرتير) التاريخ! والكوميديا (البرجوازية) بين الادب والسياسة (12)


ماجد الشمري
2018 / 11 / 18 - 18:41     

لقد تحول العالم الذي تطلع اليه بلزاك بشغف،الى جسد مثخن بالجراح والامراض.لاشك في ان طاقات الرأسمالية الديناميكية الهائلة،وحيويتها الفتية،منتصف القرن التاسع عشر قد جرى تخطيها في القرن العشرين،وتجاوزت في تغولها العولمي تخوم افقها ابان مفتتح ألفيتنا الثالثة الحالية.فالجشع للربح والتراكم،وتوسيع الاسواق،ورسملة العالم،هو من طبيعة وآلية الرأسمالية،ولازال مسيطرا عبر الشركات على الرأسمال في المراكز،وتابعيه في الاطراف.وشعار"اغتنوا"لم يستطع كولبير ان يوجهه للبرجوازية في حينه،ولكن غيزو اطلقه في الوقت المناسب،وتحت حكم لويس فيليب.لن نجد بعد بلزاك من كتب عن التاريخ الواقعي لتلك الشخصيات الجسورة والمغامرة،والساخرة،مثله هو او ستندال وآخرون من كتاب القرن التاسع عشر والقرن العشرين.فالعلاقات بين القوى الطبقية المتواجهة والمتصارعة لم تعد كما كانت عليه سابقا في زمن بلزاك،فلم يعد ممكنا كتابة"كوميديا انسانية"معاصرة ككوميديا بلزاك،والتي هي ايضا لم تكن بذلك الكمال التام الذي رنى اليه بلزاك."انني حملت في مخيلتي مجتمعا كاملا"هذا ماكتبه بلزاك الى صديقه السيد هانسكا.انه يتكلم عن مجتمع كامل في مخياله،ولكنه في الحقيقة،لم يتناول في كل نتاجه الروائي،سوى شرائح وفئات من طبقة سائدة ممتدة ضمت:التجار،والفنانين،والدوقات،والقضاة،والاكليروس،والافطاعيين،والمجرمين،والاطباء،ورجال المال والصناعة،والمومسات،الخ،ولكن لم يكن ابدا من بينهم عامل واحد!.فطبقة البروليتاريا،والشغيلة عموما كانت غائبة تماما في كل ماكتب من روايات وقصص!.لم يغب العمال كذوات وطبقة من متون رواياته فحسب،بل حتى على صعيد المكان ومسرح رواياته،كأحياء ومناطق ومدن،اختفت ازقتهم وحواريهم ايضا!.فغرقت في السبات والهامشية المدينية،ف:انجولم،وسانسيري،وسومو،وفاليسون،تختلف قطعا عن:"ليل"وبيوتها،او"ليون"وعمال النسيج فيها،او"روون"ومصانعها!.فبلزاك كتب فعلا عن جميع مناطق واحياء باريس،ولكن لم يكن بينها اي منطقة او حي يقطنه العمال!.وبالرغم من ان عمل بلزاك الادبي الضخم غير مكتمل،وايضا لم يعكس كافة جوانب"المجتمع الكامل"في رواياته،لانها اقتصرت على عرض وجه البرجوازية الطبقي،دون نقيضها الاجتماعي والذي يشكل غالبية المجتمع الفرنسي"الكامل"بكل طبقاته واطيافه-كما صرح هو بذلك!-.الا ان احدا لم يشك اطلاقا،من:ماركس الى مورياك،بانه،ورغم ضيق الافق الاجتماعي لل"الكوميديا الانسانية"-وكأنه لم يكن هناك سوى برجوازية وارستقراطية لاغير!-الا ان موضوعاتها ومضامينها تبقى اصيلة وبنت الواقع،وامينة في عكسها المرآوي للمشاهد والصور المطابقة للحقيقة المجتمعية بكاملها،بتعرية وكشف ما كانت عليه البرجوازية الفرنسية،وهذا مايحسب لصالح بلزاك في التقييم،وكدليل كاف على ان للواقعية في الادب تأثير بالغ ومغير وتقدمي،لان الحقيقة هي دائما واقعية وثورية.لذلك كان هيجو على حق عندما وصف بلزاك قائلا:"ان بلزاك ينتمي شاء ام ابى،الى"النخبة الممتازة من الكتاب الثوريين".لانه كان صادقا،وتقدميا،وموضوعيا،وصدق"الكوميديا الانسانية"(اي حكم التالر الذي يسيطر في المجتمع البرجوازي على الملوك والدول والدساتير).
وتأثيرها اكثر ثورية،كلما ارتفعت صرخة الاتهام والادانة،وازدادت البروليتاريا والجماهير الكادحة قوة وتنظيما ووعيا.وهذا ما حمل النقاد البرجوازيون الى بذل جهدهم واندفاعهم،ويصورة مستمرة لتشويه،واخفاء المحتوى العميق،والكاشف لقبح ولااخلاقية البرجوازية في"الكوميديا الانسانية".فلو قرأنا كل التقديمات-المقدمات التي كتبت للتمهيد لرويات"الكوميديا الانسانية"-ولكل رواية مقدمة-والتي اصدرتها دور النشر-الساعية للربح-ونوادي الكتب الفرنسية،فأننا نجد ان الكتاب اياهم-وفي كل مرة كاتب جديد-ولا واحد منهم لوث مقدمته،بكلمة وضيعة،مثل:كلمة(الرأسمالية)!.فلم يقم وزنا او يعير التفاتا او ذكرا لحقيقة العلاقات الاجتماعية-الطبقية في"الكوميديا".ولو قرأنا حتى الكتاب الذي صدر في منتصف القرن الماضي،وبمناسبة الذكرى المئوية لوفاة بلزاك،والذي ضم كل الخطب الرسمية وشبه الرسمية،وشمل المقالات المتنوعة عن بلزاكـ فلن نعثر فيها الا على:بلزاك المتنبيء،وبلزاك المغامر بشخصياته،وبلزاك والدين،وبلزاك والاسرار،وبلزاك الاسطوري،وبلزاك والطب،وبلزاك والموسيقى،وبلزاك عدو الانكليز،الى آخر هذا الكشكول المثير من العناوين والاشارات لغرائبية بلزاك وتنوع اهتماماته!.اما وجود مقال واحد في هرجة المقالات هذه،يتحدث عن النقود او سلطة المال التي يرتكز عليها العقد الاجتماعي السائد والمهيمن-وهي الموضوعة المركزية لكوميديا بلزاك-فلم يكتب احدهم،حتى ولو سطر واحد او كلمة،ولم يمسوا حتى من بعيد،قضية المال ودوره الحاسم في العلاقات الاقتصادية-الاجتماعية،لافي المجلات ولا في الصحف!.ولاكل المقالات التي كتبت عن بلزاك في مئوية وفاته،تطرقت او ذكرت البطل الرئيسي في اعماله الادبية وهو:الاله الجديد...المال!.
وحتى المجلة التي اصدرتها منظمة اليونسكو بمناسبة الاحتفال ببلزاك،لم يتطرق ايضا اي كاتب في تلك المجلة بأستثناء فرانسوا مورياك،وايفسكيفتش،الى دور النقود في سلوك ومواقف وقرارات شخوص"الكوميديا الانسانية"كعامل رئيسي في حياتهم ومصائرهم،سواء اكان الكاتب فرنسيا ام هنديا او مصريا!.فهم لم يطرحوا قضية المال حتى كسؤال!.نخن لانحتاج لبرهان او اثبات اكبر واوضح على الصفة الواقعية والثورية النقدية لعمل بلزاك الادبي،اكثر من هذا الكم الهائل من التشويه والتضليل المتزايد من قبل من عراهم وفضحهم هذا السفر الخالد لبلزاك،فأظهرهم بحقيقتهم البشعة،وعبوديتهم للاصفر،بوعي او بلا وعي!.يجب التنويه والاشارة الى تواضع بلزاك ونزاهته،وتسليمه بالواقع الموضوعي كما هو دون تزويق او تلفيق او رومانسية مثالية،وبالضد من رغباته وميله العاطفي.لقد كان بلزاك حقا،وكما رأى نفسه:كاتبا وسكرتير للتاريخ لااكثر.ونختصر لنقول:ان واقعيته كانت هي ميزته الكبرى وطبعه الادبي المحايد،ولايستطيع اي كاتب ان يدانيه في تلك الواقعية الدقيقة والباردة،او حتى ان يقلده فيها.ولو اتخذ كاتب روائي ما،نفس الموقف العلمي النقدي لبلزاك حيال الواقع الاجتماعي الذي عايشه،واراد ان يكون مثله:"عالم الطبيعة للرواية"و"سكرتير المجتمع"و"كاتب التاريخ"فسوف يوصم فورا وحتما ب:الروائي الشيوعي!.من اول كتاب ينشره،وسيصبح من يقرأه بعد كتابه الثاني،متأكدا وعلى يقين من شيوعيته!!!.اما بلزاك فلم يكن احد ليتجرأ ويتهمه بالثورية او الميل الاديولوجي للاشتراكية،لان بلزاك السياسي كان منفصلا وبحدة عن بلزاك الادب!.
................................................................................
يتبع.
وعلى الاخاء نلتقي...