في رثاء حسقيل قوجمان


يعقوب ابراهامي
2018 / 11 / 7 - 15:52     

في 5/11/2018 رحل عنا حسقيل قوجمان عن عمر يناهز الثامنة والتسعين. أود أن أسجل بضعة كلمات في رثائه وان جاءت متاخرة.

في "حوار مع يعقوب ابراهامي" ("الحوار المتمدن" - 10/7/2009 ) كتب حسقيل قوجمان: "قررت من الآن عدم قراءة كلمة واحدة يكتبها يعقوب لان وقتي أثمن من أن أضيعه في قراءة هراء كهذا. . . [مقالات يعقوب هي] عبارة عن هذيان محموم من شخص موتور حاقد على كل انجاز أحرزته الحركات الثورية والشيوعية في تاريخها. "
لكنه كتب ايضا : "اشكر الصديق يعقوب ابراهامي على تذكره وتقديره للعلاقة االصداقية التي كانت بيننا في حياتنا السجنية وهي علاقة ما زالت قائمة حتى اليوم فأنا ما زلت اعتبره صديقا عزيزا ولن انسى فضل عائلته الكريمة بكل اعضائها التي استقبلتني عند اطلاق سراحي من السجن في ثورة تموز كأني أحد ابنائها رغم عدم وجود يعقوب بينها. ولكن سواء في السجن ام حاليا ام في الفترة التي عشتها في اسرائيل كنت اختلف معه في الآراء وهذا ليس عاملا يخل بالصداقة والاحترام المتبادل."
هكذا لخص حسقيل قوجمان العلاقة الوثيقة بيننا، بيني وبينه، والتي توسعت لتشمل فيما بعد كل افراد اسرتنا.
كانت هذه علاقات صداقة واحترام متبادل، لكنها كانت ايضا علاقات نقاشات وصدامات فكرية عنيفة، دامت عشرات السنين، في سجون العراق ، في إسرائيل وعلى صفحات "الحوار المتمدن".
عندما كتبت في "الحوار المتمدن" سألني أحد القراء : لماذا تهاجم حسقيل قوجمان في كل مقالاتك؟ أجبته: لانني احبه.
في أول مقالة لي في "الحوار" بتاريخ 27/6/2009 كتبت ما يلي:
"صداقة حسقيل قوجمان عزيزة علي. هذه صداقة شدت عراها سنوات طوال قضيناها معاٌ في سجون العراق, في نقرة السلمان والكوت وبعقوبة. كنا شباباُ (بل صغاراُ) متحمسين وحسقيل قوجمان كان لنا قدوة تحتذى (لن أنسى رباطة جأشه وهدوء أعصابه, في تلك الليلة الحالكة في سجن الكوت, حين كنا نعرف, وكان هو أول من يعرف, أنه على رأس قائمة المستهدفين برصاص حراس السجن, وأنه لن يبقى حياُ حتى صبيحة اليوم التالي).
بين إضراب عن الطعام ومناوشات مع حراس السجن كنا نتناقش وندرس الماركسية. كان ستالين إلهنا ومرشدنا الأعلى إلى أن وردتنا الأنباء عن خطاب خروشوف في المؤتمر العشرين.
أنا أنهيت سنوات سجني الطويلة و انخرطت في صفوف اليسار الإسرائيلي أعمل من أجل تحقيق ما أحلم به: السلام الإسرائيلي-العربي بعد أن قطعت كل صلة لي بالشيوعية "الستالينية" على أثر احتلال براغ على أيدي القوات الروسية. (حلم السلام الإسرائيلي-العربي يتحطم هو ايضا فيما بعد على أرض الواقع).
أما حسقيل قوجمان فقد حرره الشعب العراقي في ثورة تموز, وبعد محن وعواصف شتى (لست ملماً بها) حطت به الرحال في آخر المطاف في أحد معاقل الرأسمالية (لندن) يكتب من هناك عن فظائع الدكتاتورية الرأسمالية ومآثر الدكتاتورية البروليتارية."

كنت على خلاف فكري عميق مع حسقيل قوجمان. لم اتفق معه في تفسيره للماركسية بل أنا أشك كثيرا اذا كان حسقيل قوجمان قد فهم الماركسية حقا. كنت ارى انه تحت ستار مفهوم مشوه ل"علمية" الماركسية جرد حسقيل قوجمان الماركسية من محتواها الإنساني والأخلاقي. أطلقت على هذه الظاهرة في حينه اسم "ماركسية بلا كارل ماركس". لذلك سكت حسقيل قوجمان على جرائم ارتكبها واحد من أكبر القتلة في التاريخ الحديث ما دامت هذه الجرائم قد حدثت باسم "قوانين تطور المجتمع البشري".
حسقيل قوجمان (وقد أعلنت له عن رأيي هذا أكثر من مرة) آمن بالماركسية كما يؤمن رجل الدين (كل رجل دين) بكتابه المقدس. اي انه راى في الماركسية حقائق مطلقة لا تقبل التفنيد ولا سبيل, أو حاجة, للبرهنة على صحتها.
في عملية ديالكتيكية مذهلة تحولت الماركسية في ذهنه الى نقيضها : من نظرية ثورية انقلبت إلى عقيدة دينية.

ولكن حسقيل قوجمان كان الى جانب كل ذلك مثالا للنزاهة والصدق والاستقامة، رمزا للأمانة والتمسك بالمبادئ حتى النهاية ومهما كان الثمن. وهكذا سوف يذكره أصدقاءه ومحبوه الكثيرون.
عن مثل حسقيل قوجمان قيل: كان له خصوم كثيرون ولم يكن له عدو واحد.
التعازي لعائلته، لأبنائه ولكل محبيه.
التعازي للشيوعيين العراقيين.