هل الإسلام دين ودولة حقّا؟ مرة اخرى..


مولود مدي
2018 / 11 / 3 - 17:15     

في إحدى حلقات برنامج (سؤال جريء) الذي يقدّمه (الأخ رشيد) على قناة (الحياة) المسيحية، وهي الحلقة التي حملت عنوان (هل الاسلام دين ودولة؟)، والتي خلقت ردود فعل كبيرة، استضاف البرنامج على غير العادة، المفكّر الشيعي المعروف (اياد جمال الدين)، طالما اثار هذا المفكر الكثير من الجدل بين الشيعة وخاصة في العراق، فهو المفكّر الوحيد الذي لم يمنعه زيّه الديني من تأييد الفكر العلماني وطرحه كحلّ ليس فقط على العراق الذي يعاني من المحاصصة الطائفية بل وعلى كل المجتمعات الاسلامية.

وجّه الأخ رشيد سؤالا للسيد اياد جمال الدين حول مدى صحّة طرح الاسلامويين المعروف وهو (الاسلام دين ودولة)، اعترض المفكّر العراقي وقال بأنه لا دولة في الاسلام، بل أن هذا الشعار هو من أكبر اسباب إنتشار الارهاب في العالم العربي الاسلامي، فردّ عليه الأخ رشيد بأن النص القرأني وتاريخ الاسلام يؤيدان طرح الاسلامويين، وأنَّ رفضٌ هذا الطرح يعني رفض التاريخ الاسلامي برمّته، وبطبيعة الحال لا يمكن أن نلوم الاخ رشيد على ردّه، لأنه لم يأتي بكلام من عنده، فهذا كلام يفتخر به أغلبية المسلمين سنّة وشيعة، ردَّ اياد جمال الدين ان قراءته مختلفة، فتوقعتُ أنَّ المفكر العراقي سيهُمٌّ بنقد الأفكار الاسلاموية، وإظهار تعارض النصوص القرأنية مع أفكار الإسلام السياسي، كعادة اغلب من يعارض فكرة وجود دولة في الاسلام، لكن لم يسلك اياد جمال الدين هذا المسلك، بل قال بأن العنصرين الأساسيان لبناء أي دولة ( عنصر المال وعنصر السلاح) لا نجد لهما أيُّ أثرٍ في القرآن.

طرحُ هذا المفكر العراقي مثير للاهتمام، لأنه عندما نفى عن الاسلام صفة السلطوية، (وجود سلطة في الاسلام يعني أنَّ الاسلام هو دين سلطوي) فهو لم يقم برفض ادلة حديثية، أو قام بتفسير النصوص القرانية لتوافق فكرته، أو قام بتغليب رأي فقهي على رأي اخر، طريقته كانت مختلفة تماما، هو يعلم ان أيُّ فكرٍ ديني – من أي دين- قابل لكل صورة، فيمكن لأي شخص أن يشكّله كما شاء، لأن كل فكرة مهما كانت لا يمكن ان تكون منفصلة عن الواقع وعن حاجات الانسان وعن ميوله النفسية.

اردت أنْ أتوسع في فكرة مفكّرنا العراقي، وبالضبط ان كان هناك ملامح لنظام مالي أتى به القرأن، فإذا وٌجد هذا النظام فيمكن ان نقول فعلا، أنَّ هناك دولة ولو ان مفهوم الدولة مفهوم حديث عمره لا يزيد عن مائتي سنة، لكن نقصد بالضبط ان كان في الاسلام ميكانيزمات لممارسة السلطة، لأن السلطة موجودة بطريقة او اخرى منذ القدم، والدولة هي طريقة من طرق ممارسة السلطة التي توصّل إليها الانسان، وكنت انتظر ان يتوسع السيد اياد جمال الدين في فكرته الا أن تدخلات (الاخ رشيد) حوّلت الحلقة الى (تسويق ديني) و(جدل وهّابي) لم تسمح بإيضاح الفكرة اكثر، فالبرنامج هو بالأصل فكرته الأساسية ليس توجيه الانتقادات للدين الاسلامي فحسب، بل محاولة ممارسة التسويق الديني للدين المسيحي أيضا.

لم يمدُّنا النصُّ القرأنيُّ بأيِّ مادة حول تنظيم الدولة وتوصيف السلطات وطرق توليتها وأساليب ادارتها، لذا جاء نظام الحكم الاسلامي المبكر مقاربا لما هو معمول بالقرى والمدن الصغيرة بالمنطقة، حيث كانت معظم حواضر الجزيرة العربية لا تزيد عن قرى تتفاوت في أحجامها، وكانت مكة بينهم أم القرى، وهو نظامُ حكم يقارب الديمقراطية المباشرة التي يرأسها شيخ أو زعيم ذو قدرات تحكيمية، وغالبا ما يدعو أفراد القرية الى مكان فسيح للتشاور او لتبليغ الأوامر والتوجيهات، وهذا النظام المعمول به في الجزيرة العربية يكاد يكون أصل النظم السياسية التي انتقلت الى بلاد الرافدين وبلاد النيل وبلاد اليونان.

يقول وول ديورانت: (ولم يكن هذا طراز جديدا من النظم الادارية, فلقد رأينا أنه كانت في بلاد سومر وبابل وفينيقية وجزيرة كريت…) ولعلَّ هذا النموذج كان هو السائد في كل القرى والمدن الصغيرة بتلك العصور على اختلاف الثقافات، وكان يتطور بتوسع نفوذ القرية على ما حولها ليتحول الى نظام الدولة/المدينة، وهذا ما واجهته قرية "يثرب" عندما تولى قيادتها النبي محمد حيث توسعت وصارت مدينة.

لم يكن بوسع التقاليد العربية ولا الإسلام أن يقدّما أي توجيه حول موضوع الصلاحيات الملائمة التي يجب ان تمنح لرئيس دار الاسلام، ولعلَّ أكثر ما يدعو للأسف هنا هو سرعة حدوث التطورات، مما كان يحولٌ دون تطوير العرب لمؤسساتهم السياسية المحدودة لمواجهة وضع جديد غير منتظر، في الوقت الذي لم يكونوا قادرين أن يقلّدوا البناء الامبراطوري البيزنطي أو الساساني في مثل هذه المرحلة المبكرة، ولو أنهم أرادوا ذلك، لقد كانت استراتيجية نظام الخليفة الثاني هي الابقاء على فكرة أن العرب المسلمين أمة فاتحة مجاهدة لا تشتغل غير الحرب والسياسة، الا أن تنظيماته نجحت في الحروب, ولم تنجح في السياسة، أي في تحقيق ادارة الولايات والمدن المفتوحة لقلة الخبرة التنظيمية والادارة لدى الفاتحين الجدد، بحيث كان من القضاة على سبيل المثال، أشخاص أمّيين لا مستوى علمي لهم، سوى خبرتهم الفقهية والحياتية في حل النزاعات بين الناس.

في مجتمع القرية تتضاءل السلطة السياسية وتلعب المسؤولية الاجتماعية دورا أساسيا في صناعة الأعراف التي تنظم العلاقات المختلفة في المجتمع, ويوم جاء النبي الى قرية يثرب لم يكن هناك سلطة سياسة واضحة ولا أجهزة تتولى مسؤوليات عامة, فلقد اكتفى المجتمع بالأعراف التي تنظم علاقاته وأمره, ومع مجيء النبي تشكلّت اول زعامة في القرية ذات صفة دينية وسياسية كانت على الذين أمنوا به فقط.

في السنة الثانية للهجرة فٌرضت الزكاة، لكن إستمر النبي في تكريس المسؤولية الاجتماعية في تكافل المجتمع وحل مشاكله المالية، بالتبرع الطوعي دون اللجوء الى تحصيل ايرادات يؤمِّنُ فيها احتياجات المجتمع العامة، كل توجيهاته تمثلت بتبليغ التوجيهات الالهية لبذل المال في سبيل الله, والتصدق على الفقراء وذوي الحاجات، لم نجدْ حالة واحدة حوّل فيها الرسول الحث على العطاء التبرعي الى الزام واجبار، رغم أن الممالك المجاورة كانت تفعل ذلك وتفرض الضرائب بأنواع متعددة، حتى الجزيةُ لا يمكن اعتبارها موردا ماليا للدولة، لأن الفقهاء اتفقوا على انها تسقط في الكثير من الحالات كأن يسلم دافعها، أو يدخل في خدمة المسلمين في الجيش، وغيرها من الحالات.

المهم، طبيعة هذه الفريضة لا تسمح لها ان تكون موردا ثابتا للدولة، الزكاةُ لا تلزم من يؤديها ان يدفعها للسلطة التي تحكمه، يمكن ان يعطي زكاته لمن يستحقها دون ان يمر على اي سلطة، كما يمكن للمسلم ان يؤديها حسب مقدرته، وليس شرط ان تكون عبارة عن مال.. وقد يسأل القارئ ماذا عن حروب الخليفة الأول التي سمّيت حروب الردة والتي شنّها على أقوام رفضت دفع الزكاة؟، الجواب هو أن هذه الحروب لم تكن سببها مسألة دفع الزكاة وإنما أقوام رفضت بيعة الخليفة الأول واتفقت على جمع الزكاة وتوزيعها فيما بينها، لا علاقة لموضوع الزكاة بحروب الخليفة الأول، لأن الغاية كانت سياسية وهي اخضاع من رفض البيعة بحدّ السيف وقام المؤرخين الاسلامي بتحريف هذه الحقيقة، ولم يمانعوا حتى في تكفير تلك القبائل نزولا عند رغبة السلطان.

لم يعرف أن النبي محمد أجرى رواتب, أو اعطيات دورية لموظفي الخدمة العامة، وهذه هي مهمّة رجل الدولة، أي أن الخدمات العامة كانت تقدما تبرعا من قبل الناس، وبقي التبرع الطوعي يشكل مصدرا أساسيا في سد احتياجات العامة مثل اطعام الوفود القادمة، وبناء المساجد، وامدادها بالإنارة والمياه، وأمور الرعاية الاجتماعية، كشراء أو حفر الأبار وتخصيصها للاستعمال المجاني للناس جميعا، ولم يستثن ذلك تجهيز الجيوش والمهمات العسكرية.. يلاحظ من ذلك كله أن السياسة المالية للنبي لم تقم على التخطيط طويل الأجل للإيرادات العامة، حفاظا على روح القرية القائمة على المسؤولية العامة والتكافل الاجتماعي والمبادرة الذاتية.

واسمحو لي بأن اشير الى معلومة تاريخية يراد لها أن تنسى, وهي أن في عصر النبي محمد كان النقد المستخدم هو الدنانير الذهبية الرومية والدراهم الفضية الفارسية, وطوال فترة حكمه في يثرب لم يغيّر العملة المتداولة رغم ما عليها من نقوش لملوك وأكاسرة وصلبان ونار وعبارات التثليث المسيحي.

مع بداية حقبة الغزوات الاسلامية في عهد أبي بكر، فُرض على القيادة الاسلامية التخلي عن روح القرية والتزام طابع المدينة وادارة الدولة، فأصبحت يثرب “المدينة” عاصمة الدولة، وصار المهاجرون والأنصار جزءا من الأمة الاسلامية، ومع السيل المتدفق من الايرادات العامة نمت مسؤولية الدولة في الانفاق وتقلصت المسؤولية الاجتماعية والتبرع الطوعي، وبرز دور الرعاية الاجتماعية في العهد الراشد من صدر الاسلام, فكثرت الرواتب والعطايا على الناس واضيفت موارد مالية جديدة مثل الخراج الذي يدفعه جميع “مواطني” الامبراطورية الاسلامية بغض النظر عن دينهم، والاصول الثابتة العامة “الصوافي” (أرض تابعة لأملاك العدو المنسحب عنها التارك لها بدون قتال) و”العادية” ( كل أرض كان لها أهل فإنقرضوا ولم يبق منهم احد) واتسعت التجارة الدولية ونشأ معها مورد مالي أخر أشبه بالضريبة الجمركية على البضائع الجمركية على البضائع الأجنبية “العشور”.

ومع مجيء الدولة الأموية أخذت أجهزة الدولة طابعا هرميا يعتمد على الولاء للنظام الحاكم، وتلاشت روح القرية المشبعة بالمسؤولية الاجتماعية والتبرع الطوعي والرقابة الذاتية، وظهرت تنظيمات جديدة اقتضتها المرحلة السياسية الجديدة التي رسخت مفهوم الدولة، وتمثلت بالأجهزة التالية : ديوان الخراج، ديوان الجند، ديوان الخاتم، ديوان البريد، ،ديوان الرسائل، ديوان الانشاء، ديوان العشر، ديوان العمّال، وديوان المستغلات ( المستغلات هي مباني وعقارات تملكها الدولة) وأصبح لدى الدولة جهاز وظيفي ونظام رواتب، وأصبح الأمويون يعتنون ببيت المال عناية فائقة (الذي روي عن عليا أنه قال فيه لا أمسي وفيك درهم) ويهتمون بحركة الأموال داخل الدولة الاسلامية الواسعة، وأصبحت وظيفة بيت مال شبيهة بوظيفة البنك، مما يدل على التقدم الاداري الذي تمتعت به الدولة حينها.

كل النظم والأساليب الادارية التي اتبعها المسلمون منذ وفاة النبي محمد كانت اجتهادات أملتها الخبرة المتاحة والظروف المحيطة والمصلحة العامة، ولم تكن إستجابةً لنصٍ ديني، لقد كان دور الدين هو اضفاء القيم والمبادئ الجديدة على هذه النظم والأساليب. (التجارب الادارية للخلفاء ليست جزءا من الدين, وتبقى في اطار التراث الذي تتدارسه الأجيال وتستفيد منه) وهذا ما يفسر رفض الخليفة علي بن أبي طالب عرض الخلافة مقابل الالتزام بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الشيخين أبي بكر وعمر، فقال “بل على كتاب الله وسنة نبيه واجتهاد رأيي”، وعندما رفض الالتزام بمنهجي الشيخين كان يدرك أن الخبرة تتزايد وأن الظروف تتغير وأن المصالح تتبدل، وأن كل ذلك يحتاج اجتهادا جديدا، وكان يريد أن يلفت الانظار الى الجانب الاجتهادي الفسيح في السياسة والدولة والحكم، لقد خسر فرصته المبكرة بالخلافة احتراما لموقفه وتكريسا لمبدأ مفصلي يحدد سلوك المسلمين بالمستقبل.