لال نهرو وما يشبه التنبؤ بالاستعمار الداخلي


رضي السماك
2018 / 11 / 3 - 04:43     

ظل مفهوم الاستعمار الكولونيالي يرتبط في الاذهان لفترة طويلة بالمحتل الاجنبي الغربي للبلدان المستعمَرة ، وبعد تمكن غالبية هذه البلدان من التحرر تباعاً منه اضطر مُرغماً إلى الانسحاب من تلك البلدان والتسليم بحقها في تقرير مصيرها ومن ثم تمكنها من نيل إستقلالها ، لكن هذا النوع من الاستعمار إذ خرج من الباب فقد عاد الى معظم تلك الدول الفتية المستقلة حديثاً من الشباك عبر عقد اتفاقيات مجحفة غير متكافئة متعددة الاشكال والاغراض أبرمتها الدول المستعمرة ( بكسر الميم ) مع البلدان المستعمرة ( بفتح الميم ) في سعيها لبناء دولها واقتصادها والسير على طريق التنمية بتبنيها الاقتصاد الحر ، وتعرضت في سعيها إلى ذلك لأشكال من الضغوط والابتزازات الاستغلالية المالية والاقتصادية وحتى إعادة بناء قواعد عسكرية ، واُطلق على هذا الشكل من العلاقة الجديدة ذات التبعيتين السياسية الاقتصادية " الاستعمار الجديد " . وعلى سبيل المثال لا الحصر لعلنا نتذكر جيداً حكاية الرئيس المصري الراحل مع البنك الدولي الذي تراجع عن قرار تمويل مشروع السد العالي .
وبدءاً من التسعيينيات تقريباً ظهر في الكتابات السياسية العربية ما يُعرف ب " الاستعمار الداخلي ، ويُقال أن أول من استخدم مصطلح " الاستعمار الداخلي " هم كتّاب ومفكري أمريكا اللاتينية لوصف طبيعة العلاقة التي سادت وما تزال تسود بين النخب الحاكمة والشعوب التي تحكمها باعتبارها ذات طبيعة استعمارية تسلطية تُسخّر الدولة وأموالها لمصالحها الخاصة وتستخدم الجيش والأمن لقمع الحركات المعارضة وخنق الأصوات المعارضة خوفاً من أن تهدد زوال هذا النمط من البحبوحة والاستئثار بموارد البلاد الذي تتمتع به بعيداً عن أي ضوابط تشريعية او رقابة قانونية ، فيما غالبية فئات الشعب تعاني من ضنك الحياة المعيشية والخدمات الصحية والتعليمية المتردية وغيرها من الخدمات الاخرى التي لا تعاني منها النٌخب الحاكمة المتمتعة بامتيازات خاصة في كل تلك الخدمات القاصرة عليها هي وحدها .
في أعقاب أحداث الربيع العربي منذ نحو ثماني سنوات وما رافقها وتلاها من اجهاض لأحلام ملايين الشباب عاد مصطلح " الاستعمار الداخلي " لللبروز مُجدداً في الكتابات السياسية العربية حيثُ بدت تجليات وتجسيد وجه هذا "الاستعمار الداخلي " وكأنه النموذج لدى الانظمة العربية كافةً ، سواء ذات النظام الملكي أم ذات النظام الجمهوري ، وأصبحت الطبقة الحاكمة معزولة تماماً عن شعبها ، وبخاصة عن الفئات التي تعاني من ضنك المعيشة او حتى الطبقات الفقيرة والمتوسطة والذين يشكلون معاً الغالبية العظمى من الشعب في كل بلد عربي وذلك على نحو مأساوي أسوأ من عهود الاستعمار القديم .
وهنا فإن مصطلح " الاستعمار الداخلي " يقودنا إلى الحديث عن الخطاب المنسوب لرئيس الوزاء الهندي الراحل لال نهرو وهو واحد من أبرز أقطاب مؤتمر باندونج الشهير الذي عٰقد عام 1955 ، وحضره رؤساء وفود 29 دولة معظمها حديثة الاستقلال وهو المؤتمر الذي تمخّض عنه المبادئ الاولية لحركة دول عدم الانحياز التي اُعلنت لاحقاً مطلع الستينيات . وقد بدا خطاب نهرو وكأنه تنبأ بكلا الشكلين من الاستعمار بعد رحيل الاستعمار القديم ألا " الاستعمار الجديد " و " الاستعمار الداخلي " ، ومع أن الهند لم تنل استقلالها عن الاستعمار البريطاني إلا عام 1947 أي قبل ثماني سنوات فقط من انعقاد المؤتمر إلا أنه من خلال إطلالة عابرة ممعنة على نص الخطاب والذي توجه فيه نهرو في أغلب فقراته إلى نظرائه أقطاب الدول الحاضرة أن نستشف ما يتمتع به ذلك القائد السياسي من حنكة وبصيرة مُبكرة في قراءة التنبؤ بالمستقبل القاتم الذي ينتظر الدول المستقلة حديثاً تحت قياداتها الوطنية الحديثة العهد بالسلطة والمجتمع الدولي .
وبدا نهرو من بعض تلك الفقرات ساخراً من كلمتي " الحرية " و " الاستقلال " التي رددها نظراؤه مالايقل عن عشر مرات في كلماتهم - على حد تعبيره - ووصفها بأنها خاوية المضمون مادام الاستعمار سينسحب أو انسحب عسكرياً من مستعمراته ووقّع معكم اتفاقيات على وريقات بذلك : " وسوف تتولون المسسؤولية ، وسوف تجدون أنفسكم رؤساء لشعوبكم ، لديكم قصور رئاسية ، وحرس وسيارات رئاسية وربما طائرات ، ليس هذا المهم ! ولكن هل ستجدون لكم سلطة رئاسات ؟ لست متأكداً " . ثم يضيف : " سوف تجدون لأنفسكم سلطة على رعاياكم ، ولكن لن تجدوا لكم سلطة على غيرهم . رعاياكم سوف يطالبون منكم جوائز الاستقلال ، ومن حقهم أن يتوقعوا تحسناً في أحوالهم بعد الاستقلال : فهل لديكم ما تعطونه كثيراً ؟ تُغيرون إتجاه سلاحكم من أعدائكم القدامى إلى أعداء جُدد سترونهم داخل بلادكم " . وبعد أن يوضح لزملائه الدور الذي يلعبه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في خلق عراقيل أمام عجلة التنمية الوطنية ببلدانهم عند طلبهم قروضاً يلفت نهرو انتباههم ضمنياً إلى أن واحدة من معاني الحرية التي ناضلتم من أجلها ضد المستعمِر تعني أن تشعر بنسائمها أيضاً الاقليات الإثنية والدينية في أوطانكم لأنها - والكلام مازال لنهرو - ستطالب بحقوق في الداخل سكتت عليها لأنها اختارت ألا تكسر الوحدة الوطنية في ظروف المطالبة بالاستقلال والآن هي تجد الفرصة مؤاتية للمطالبة بنوع من الاستقلال الذاتي أو تحقيق الهوية الذاتية . كما ينبههم أيضاً للمشاكل التي سيجدونها مع جيرانهم من الدول المستقلة لأن الاستعمار هو نفسه الذي رسم خرائط الحدود .. فيساءلهم : فهل ستدخلون في حروب مع جيرانكم ؟ ويجيب : حسناً سوف نجد أنفسنا في سباق تسلح مع هؤلاء الجيران .
وللأسف فإن خطاباً كهذا بالغ الاهمية وعظيم الدلالات لواحد من رموز مؤتمر باندونج الكبار المؤسسين لحركة عدم الانحياز بات أشبه بالوثيقة التاريخية المجهولة ولم تكن هذه الحركة تكتسب أهميتها في النأي بنفسها - بموجب مبادئها- لأي من المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي في حقبة الحرب الباردة فحسب ، بل وفي رفضها الاحلاف والقواعد العسكرية في مناطق بلدانها وتأييدها حركات التحرر في البلدان التي لم تستقل بعد لولا أن اكثر بلدانها لم تعد تعمل بمبادئها وغدت حركة متفككة منقسمة على نفسها أشبه بالميتة لا تحمل من الوجود سوى إسمها التاريخي !