شذراتٌ عن الهُويّة: سؤال -من نحن؟- وإجاباته المُراوِغة


محمد عبد الشفيع عيسى
2018 / 10 / 26 - 22:55     

ما الهوية؟ باللغة الفلسفية، يمكننا القول إنها مصطلح و ظاهرة. مصطلح دال على الذاتية Identity وبعبارة أخرى، هى الجوهر المكنون للوجود الاجتماعي البادى للعيان، أو هى بالتعبير القديم فى التراث الفلسفى العربى: "الماهية"، ماهيّة الشىء والكائن الحي، أى الجماد والحيوان بما فيه الإنسان .
أما من حيث هى ظاهرة، فإن الظاهرة تكون واقعاً بحسبان قوة الإدراك، إذا استعرنا المصطلح (الظاهراتي)، و إن كنا نرى، بالمنظور الجدلى – الاجتماعى، أن الإدراك لا يجاوز فعليا حقيقة الوجود الموضوعى للكون والمجتمع، ذلك الوجود المتمتع باستقلالية عن الذات الشاعرة .
الهوية بهذا المعنى عندنا وجود موضوعى، ومُدْرَك ذهني في نفس الوقت: وجود موضوعى مستقل عن المدرِك، قابع فى عالم الكينونة كحقيقة، و مدرَك ذهني يمثل انعكاس الموجود على صفحة و مرآة العقل البشري.
فالهوية إذن ما نعلمه عن أنفسنا، عن صورتها التى نعرفها للنحْنُ و للآخر، ولكنها بهذه المثابة انعكاس متعيّن لماهو مستقل عن عملية المعرفة .
فقد نتصور أنفسنا عرباً، بمعنى أننا جزء من كلّ، على امتداد خارطة الخليج والمحيط، ننتمى إلى كلًّ مجتمعى ملتحم نسبياً نسميه "الأمة العربية"، مكتملة تماماً، لدى البعض، وغير مكتملة نسبياً لدى بعض آخر. وقد نتصور أنفسنا غير ذلك، غير عرب بالذات . وفى الحاليْن، هذا ما ندركه، وهو ما انعكس على صفحة أذهاننا عن الوجود الخارجىَ عن الحواس.
عربٌ أو غير عرب ، ذاك سؤال من نحن ؟ سؤال الهوية .
وهكذا تتعدد صور أو تصورات الهوية، كانعكاس مرآويّ لحقيقة الوجود على صفحة الذهن المتسائل. ولكن ألا يوجد "المحكّ"؟ محكٌّ يقع عليه عبء الاثبات و النفيْ للفرضية الكامنة وراء التساؤل التصورى المثار؟ بلى، و إن المحك هو الوجود الموضوعى المستقل عن الذات المدركة المتسائلة دون انقطاع، وجود أمة معينة، متكونة عبر التاريخ الاجتماعي الحضاري، هي الأمة العربية بالذات.
نبذة عن واقع الحال
حسم جمال عبد الناصر خيار الهوية في مصر بقوة عبر الزمن، منحازاً إلى العروبة أيما انحياز، و دون مواربة، كحصن للحركة الوطنية الثائرة، وخاض فى سبيلها معارك فاصلة مثل: مقاومة العدوان الثلاثى البريطاني الفرنسي الإسرائيلي1956 ، إقامة الوحدة المصرية السورية (1958-1961) – مساندة ثورة اليمن (1962-1967) -مقاومة العدوان الإسرائيلى فى الخامس من يونيو/حزيران 1967حتى إعداد العّدة الكاملة للحرب القادمة: تسليحا جويا وصاروخيا، و بناء بشريا من الشباب المؤهل تعليميا، وتنظيما انضباطيا للقوات المسلحة، وخوضا لحرب الاستنزاف طوال ثلاثة سنين ونيّف، ثم تخطيطا أوّليّا لعملية العبور التي تمت بعد ذلك عام 1973، وكل ذلك قام به قبل أن تحلّ لحظة الرحيل من مساء ذلك اليوم في 28 سبتمبر 1970.
ومن بعد وفاته عاد الداء الوبيل و المرض المستعصِي لتشرذم النخبة العربية و تقطّع صلتها بالمجتمع الحىّ، ليكون الثغرة التي نفذت من خلالها قوى مضادة خلال فترة (1971-81) ولتستمر من بعدها وتكتمل ملامح "حقبة السادات-مبارك" كاملة حتى ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011.
ومن حول ثورة يناير فى مصر العربية، والثورة التونسية من قبلها ومعها ، وثورة اليمن فى نفس التوقيت ، قام شباب المجتمع الحىّ حاضرا فى الميادين، غير أنه تمت استثارة الغبار الكثيف، ومعه الضباب فالفوضى العارمة في عدد من الحالات المعتبرة.
من خلال كل ذلك، تفاعلت محركات المحرقة في البوتقة المشتعلة لتشير إلى أمرين متلازمين: تشرذم النخب السياسية العربية، و صيرورة أقسام منها ألعوبة فى أيدى الخارج، بأصابع عربية و أخرى إقليمية، وبقوى دافعة عالمية –غربية، من جهة أولى، ونوع من "الغيبوبة" أو "شبه الغيبوبة" المجتمعية، وخاصة حيال حسم قضية " الهوية"، من الجهة الأخرى. وقد نَفذت القوى المعادية من الثغرات، ثغرات التشرذم وشبه الغيبوبة، ومن ثم وقع ضباب الهوية.
ولننظر إلى ما فعله التشرذم و شبه الغيبوبة، والنفاذ الأمريكي-الغربي و الصهيونى من الثغرات المفتوحة: إيقاظ للأموات وأشباه الأموات من موتهم الأبدي أو من غفواتهم المديدة، ثم إعادة بعثهم من جديد رموزاً لهويات مستحدثة من بين الركام، واصطناع تناقض بين الهوية العربية الماثلة وبين هويات الماضي المندثرة التي تبقى آثارها أو بعضها من خلال التراث، في الواقع المعاش للهوية الحية الحاضرة.
بمنطق الجدلية الاجتماعية تندمج صُعُدا الدرجات الأولى السابقة القديمة للهويات في الوطن العربي الحالي ضمن الهوية العربية الأكمل موضوعيا، لتستوعبها هذه استيعابا، دون أن تقع في تضاد غير ضروري معها ودون أن تحاول حذفها اعتباطيا بغير موجب. و لكن، في المقابل، نرى جذوات النيران تحت الرماد، أو النيران مشتعلة فوق أكداس الرماد، يبعثها البعض تحت ألوية الانتماءات الدينية (مسلم/مسيحى) والمذهبية الطائفية (سنة/شيعة) والانقسام بين ساكنة الأرض (عرب/كرد- أو عرب و أمازيغ) و بين الجماعات المكونة للّحمة العربية وبعضها البعض، من أثر حقب مضت وحضارات سادت ثم بادت، وإن اندمج ما هو صالح منها للبقاء فى كينونة الكل المؤهل للبقاء، "الكل العربي".
و لقد رأينا أمامنا ومن خلفنا هذه الأيام انتماءات صغرى يتم رفعها كعصبيات مناقضة للانتماء الأكبر للرابطة العربية، على هيئة خطوط للولاء عائلية أو عشائرية أو قبلية أو عرقية قديمة أو دينية ومذهبية، كما أشرنا، في حين لا تتناقض من حيث الجوهر والمبدأ مع الانتماء العربي. وقد بُعثت هاتيك الانتماءات-الولاءات المطمورة كليا أو جزئيا من مكامنها، ليتم توظيفها فى سياق التشرذم والغيبوبة أو شبه الغيبوبة، ويتم من خلالها فتح الثغرات، غربيا و صهيونياً، ليتسع الخرق على الراتق، و ليعمّ ضباب الهوية أمام الناظرين.
...
هذا، وتبرز في السياق ملاحظة تتعلق بما يثار راهناً فى الفكر السياسى الغربى والأمريكى بمناسبة ما أصدره "فرانسيس فوكوياما" من عمل بحثي باسم مناهضة "سياسات الهوية" Against Identity Politics.
هو باختصار يقدم نفسه – فى الإطار العام للجدل الدائر فى الدوائر الفكرية الغربية - كممثل للاتجاه الداعى الى مواصلة عملية"العولمة" ، فى وجه ما يطلقون عليه "الشعبوية" والتى اصطحبت معها النزوع التجزيئى إلى الهويات "الدولتية" الضيقة، او ما دونها، ذات الطابع العنصرى او ما يناظره، وفق أنموذج "أمريكا البيضاء" التى يمثلها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب.
يرى فوكوياما أن انبعاث خطابات الهوية "الدولتية" وما دونها على السلم التراتبيّ (بحكم اللون أو الدين أو المذهب) إنما هو انبعاث لنوع طارىء من الظاهرة القبلية أو العشائرية Tribalism و أن ذلك حدث، من بين عوامل متعددة، بأثر الأزمات الاقتصادية والمالية التى مرّ بها النظام الاقتصادي العالمي (أزمة 2008-2009)، وخاصة بفعل تفاقم التفاوت فى توزيع الدخل والثروة داخل (الديموقراطيات!) المتقدمة اقتصاديا، مع ضيق القمة الممثلة للشريحة الاجتماعية بالغة الثراء، مقابل اتساع القاعدة الاجتماعية المحرومة من ثمار التوسع الإنتاجى والتعمق التكنولوجي، لأسباب متعددة . ينجم عن ذلك توالد واتساع نطاقات ظواهر الحرمان و البطالة، مما يؤدى إلى ضرورة انبعاث خطاب "الكرامة" Dignity . ولن يتحقق ذلك إلا من خلال تقاسم المنافع والأعباء عبر استعادة الزخم لعملية العولمة ، فى رأى فرانسيس فوكوياما دائماً، مع إعادة تعريف الهوية بدلالة الكرامة قبل كل شيء.
هذا الرأى ، الذى عرضنا له بإيجاز ، يبين عمق الهوّة بين مستلزمات فكر الهوية عندنا وعندهم. عندهم، فى إطار التفكير الرأسمالى المحسوب على تيار "الاستنارة" أو "الليبرالية"، يقوم فكر الهوية على استعادة روح الحرية مطلقة السراح للرأسماليات الكبرى وتقاسم الأعباء والمنافع فيما بينها باسم العولمة؛ و بالتالى فإن خطابات ما يوسم بالانغلاق (الهوياتى) للدول ومادونها مضرّ عموماً. أما عندنا فالأمر مختلف بل ونقيض.
فما يعتبر عندهم سيراً إلى الأمام عبر ذوبان الهويات، يكون عندنا على العكس تقهقراً إلى الخلف. فنحن ندعو إلى الاعتصام بهوية جامعة، وبالطبع ليس عبر استطالة وتعميق السلطات التي مُنحت أو بعضها، بدون موجب، لكيانات قائمة (آيا كانت تسميها : إقليمية ، قطرية ، وطنية) ولكن عبر الدعوة إلى تعميق الإندماج الهوياتي، العربي بامتياز.