العولمة وخيارات المستقبل في فكر - محمود أمين العالم -


الحزب الشيوعي المصري
2018 / 10 / 21 - 23:02     

استمراراً في قراءة ما قدمه لنا العالم والمفكر الماركسي الكبير من دراسات وابحاث علمية وقضايا فكرية .. يقدم الرفيق / صلاح عدلي " الامين العام للحزب الشيوعي المصري عرضا عن العولمة وخيارات المستقبل.. في فكر محمود أمين العالِم
-----------------------------

تناول الكاتب والمفكر الماركسي الكبير محمود أمين العالِم قضية العولمة وقام بتحليلها في دراسة هامة صدرت في مقدمة الكتاب التاسع عشر من سلسلة كتب "قضايا فكرية" -أكتوبر 1999- بعنوان "الفكر العربي بين العولمة والحداثة وما بعد الحداثة". أما عنوان الدراسة موضوع حديثنا فهو "العولمة.. وخيارات المستقبل".
وهي دراسة تحليلية وعلمية عميقة، قدم فيها العالِم اجتهاداً كبيراً في البحث عن أسباب نشوء ظاهرة العولمة في ثمانينات القرن العشرين كظاهرة موضوعية وتاريخية في سياق تطور الرأسمالية في مرحلة الإمبريالية. ولعل أهم ما يميز هذه الدراسة هو سعيها لوضع أساس نظري وتحليلي لتفسير ظاهرة العولمة وتحديد مفهومها ودلالاتها وكيفية التصدي لها من خلال جدل فكري وسياسي واشتباك حي وفعال مع أفكار ومواقف عدد من كبار الكتاب والمفكرين المصريين والعرب حول هذا الموضوع.
ورغم إدراكي للصعوبة الشديدة في تلخيص وتقديم هذه الدراسة نظراً لأسلوب الأستاذ محمود العالِم في صياغة وبلورة أفكاره في معظم كتاباته من خلال هذا السجال والجدل الفكري الراقي مع أبرز الكتّاب، إلا أن هدفي هو السعي إلى لفت الانتباه إليها، والحرص على الإشارة إلى خلاصة ما توصل إليه مفكرنا الكبير، لأنه لا يمكن فهم ما يحدث في العالم وفي بلادنا دون فهم صحيح وعلمي لظاهرة العولمة في عصرنا الراهن. ورغم أن العالِم كتب هذه الدراسة منذ حوالي عشرين عاماً، إلا أنني أرى أن جوهر وأساس ونتائج التحليل الذي قدمه تتأكد صحته يوماً بعد يوم.
ويذهب العالِم في بداية الدراسة إلى أن الغموض والالتباس واختلاف الدلالات يكتنف مفهوم العولمة في تناوله بين العديد من العلماء والمفكرين والمثقفين في ساحة الفكر العربي المعاصر بل وفي ساحة الفكر الإنساني المعاصر. ويرى أن العولمة هي ظاهرة موضوعية تاريخية، وليست مجرد ايدلوجية ذات دلالات مختلفة. وهي ظاهرة حديثة تجاوزت دلالاتها حدود العلاقات الدولية العالمية، وتخلقت بداياتها الأولى في رحم الأنظمة الإقطاعية في أوروبا ابتداء من القرن السادس عشر الميلادي في نمط إنتاجي جديد هو نمط الإنتاج الرأسمالي. وأصبح هذا النمط الرأسمالي يمتد اليوم إلى كل أرجاء الأرض، وإن تفاوت مستوى تحققه من مجتمع إلى آخر بين من أسهموا ويسهمون في إنتاجه وإعادة إنتاجه وتطوره وتعميمه باستمرار، وبين من يسهمون إسهاماً هامشياً في هذا الإنتاج، وبين من تغلب على علاقاتهم بهذا النمط طابع التبعية والاستهلاك.
وهكذا أصبح هذا النمط الرأسمالي المعمم عالمياً يمثل بمستوياته المختلفة حضارة عصرنا الراهن بصرف النظر عن أحكام القيمة الإيجابية والسلبية. أنها امتداد لنمط الإنتاج الرأسمالي منذ القرن السادس عشر حتى الثمانينات من هذا القرن.
ولماذا الثمانينات؟ يقول العالِم "في هذه الثمانينات أخذ هذا النمط الرأسمالي ينتقل نقلة كيفية من حالة العالمية التي كانت تتمثل في التوسع والاحتكار والتركز في أشكال متنامية مختلفة من الكارتيلات والتروستات أي الاحتكارات في المجال القومي الواحد، ثم بين احتكارات متعددة القومية إلى الحالة التي نصفها اليوم بالعولمة والتي تتمثل في هيكلة العالم كله وقولبته داخل نمط الإنتاج الرأسمالي بمستوى أو آخر"
ويرى العالِم أن هذه العولمة تحققت نتيجة لثلاثة عوامل موضوعية أساسية:
العامل الأول: الطبيعة التوسعية التنافسية ذات التوجه الاحتكاري لنمط الإنتاج الرأسمالي نفسه.
العامل الثاني: هو فشل التجربة الاشتراكية السوفيتية وتفكك المنظومة الاشتراكية العالمية التي كانت تشكل قطباً عالمياً مناقضاً للقطب الرأسمالي العالمي في الحرب الباردة.
العامل الثالث: هو الثورة العلمية الثالثة التي حققت وما تزال تحقق منجزات باهرة تكنولوجية في مجالي الاتصالات والمعلومات التي تكاد تزيل حدود المسافات المكانية والزمانية، وتضاعف بشكل إعجازي من قوى الإنتاج وتفجر طاقات واكتشافات معرفية ثورية لا حدود لها.
وبالإضافة إلى أن العولمة ظاهرة موضوعية تاريخية يرى العالِم أنها تعتبر نقلة كيفية ونوعية متطورة لنمط الإنتاج الرأسمالي في أبعاده الثلاثة السياسية والاقتصادية والثقافية. وخاصة في سيطرته المنفردة على سوقه العالمية الموحدة كما تعتبر نقلة كيفية في تكوين شركاته الاحتكارية ومنجزاته العلمية التكنولوجية وفي تطوير قوى الإنتاج. إلا أنه يرى أن هذه النقلة الكيفية في هذه المجالات جميعاً لا تنفي ما يحتدم من صراعات وتناقضات بين شركاته ودوله المختلفة، وبينه وبين البلدان النامية، فضلاً عن استمرار السمة الجوهرية لهذا النمط الإنتاجي الرأسمالي ألا وهي الصراع الطبقي في السياق القومي ثم في السياق العالمي كذلك.
ثم يطرح العالِم عدداً من الأسئلة الهامة من خلال الحوار مع أفكار د. اسماعيل صبري عبد الله ود. فؤاد مرسي ود. سمير أمين وأ. سيد ياسين و د. عبد الله المسدي ود. محمد عابد الجابري وغيرهم وتدور الأسئلة حول: هل العولمة هي مرحلة ما بعد العولمة أم هي أعلى مرحلة متطورة للامبريالية نفسها؟ وهل العولمة هي مرادف للحداثة أم هي تعبير عن ثقافة ما بعد الحداثة بكل تجلياتها السلبية؟ وهل يمكن مواجهتها من داخلها أم من خلال السعي لنمط إنتاجي أنساني معولم بديل، بل نقيض لهذا النمط الرأسمالي الإمبريالي أي عولمة مضادة؟ وما هي حقيقة هذه العولمة المضادة؟ وكيف يتم تجاوز حدود الرأسماالية؟ ومع صعوبة عرض كل هذه الجوانب لتساؤلات العالِم في هذا الحيز المتاح، إلا أن العالِم ومن خلال هذا الجدل الفكري الخلاق يعلن انحيازه إلى ان العولمة ليست هي مرحلة ما بعد الامبريالية وأنها ليست مرادفة للحداثة وأنه منحاز لفريق اليسار الذي يرى أن البديل هو عولمة مضادة تتمثل في عولمة بديلة إنسانية وديمقراطية.
ثم يتعرض العالِم في الدراسة إلى موقف عدد من الكتاب الإسلاميين حول العولمة وأبرزهم د. عبد الوهاب المسيري ود. محمد مبروك ود. محمد عمارة ويختلف معهم جذرياً في موقفهم الرافض للحداثة والعولمة على أساس أخلاقي دون تعرضهم للأساس الموضوعي الرأسمالي للعولمة.
ثم ينتقل الكاتب إلى الآثار الخطيرة لنتائج العولمة الرأسمالية والهيمنة الأمريكية على العالِم فيقول:
"إن العولمة الرأسمالية تحقق سيطرتها الشاملة عن طريق أدواتها المختلفة من شركات احتكارية وبنوك متعدية القومية، وأساليب تقنية تتطور كل يوم، وفرتها لها الثورة العلمية الثالثة لتنمية القدرات الإنتاجية والتسليحية وكذلك القدرات التوسعية المعلوماتية والاتصالية، وبهذه الأدوات والوسائل والقدرات سعت الدول الرأسمالية الكبرى وتواصل سعيها لتنميط العالِم تنميطا سياسياً واقتصادياً وثقافياً -وبخاصة البلاد النامية- مستخدمة لتحقيق ذلك أبشع وأشرس أشكال التدخل والعدوان والقمع، وتفجير الصراعات المحلية، وإهدار المشروعية الدولية، وشل منظماتها الدولية بل توظيفها لخدمة مصالحها الاحتكارية التوسعية وإدارة أزماتها الثقافية.
ويضيف أنها "أخذت تسعى عن طريق مؤسساتها الاقتصادية وبخاصة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية إلى إدماج واستتباع اقتصاديات البلدان النامية في بنيتها الرأسمالية وتفكيك مؤسساتها وقطاعاتها الاقتصادية العامة، وتصفية الدور الإنتاجي والخدمي لدولها، اكتفاء بدورها الأمني، وتفكيك الروابط القومية والإقليمية ، وخلخلة الهويات الثقافية، وإشاعة الاتجاهات اللاعقلانية والاستهلاكية والفردية والنفعية، وروح المتاجرة بكل شيء وتسليع القيم الثقافية وبناء اقتصاديات على المضاربات المالية وعرقلة المشروعات التنموية التصنيعية خاصة."
ثم يطرح العالِم فكرة شديدة الأهمية وهي ضرورة التمييز بين العولمة الهيمنة، ويقول: "ما أكثر ما يتم الخلط بين العولمة والهيمنة مما قد يغيب طبيعة الصراع المحتدم داخل العولمة ذاتها". فالعولمة من وجهة نظره هي ظاهرة موضوعية إنتاجية رأسمالية سائدة، أما الهيمنة فهي تمييز ذاتي داخل هذه الظاهرة الموضوعية ولهذا قد تتراوح وتختلف من مرحلة إلى أخرى. ومن الخطأ العلمي أن نتحدث عن العولمة باعتبارها أمركة بسبب هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية في هذه المرحلة على دولها الرأسمالية الكبرى, فقد تتآكل أو تضعف الهيمنة الأمريكية دون أن يعنى هذا تصفيه العولمة الرأسمالية نفسها. ولهذا من المهم أن نميز وألا نخلط بين الواقع الرأسمالي الموضوعي للعولمة وبين ظاهرة الاستقطاب والهيمنة داخلها؛ والمسألة ليست مسالة نظرية خالصة بل تتعلق كذلك بمنهج التعامل مع العولمة أو مواجهتها.
والموقف العملي الذي يخلُص إليه الأستاذ العالِم في هذه الدراسة هو تصديه لموقفين يمثلان من وجهة نظره خطراً كبيراً.
الموقف الأول: يدعو إلى الاستسلام لهذه العولمة الرأسمالية والهيمنة الأمريكية باعتبارها قدراً لا فكاك منه في صورته الراهنة وبالتالي الدعوة إلى حتمية الاندماج أو التكيف الهيكلي معها دون تحفظ أو مراعاة للخصوصيات والهويات الثقافية والمصالح القومية.
والموقف الثاني: لا يقل خطراً عن الأول وهو إنكار هذه العولمة الرأسمالية والاكتفاء بإدانتها والاستعلاء الفكري عليها، والتمترس داخل خصوصية قومية شوفينية أو هوية ثقافية سلفية مغلقة، مستغنية عن كل ما يتحقق في عصرنا من منجزات ومعارف علمية تكنولوجية، ومعارك سياسية واجتماعية، وحوارات وصراعات فكرية وثقافية في مواجهة هذه العولمة الرأسمالية.
ويخلُص محمود العالِم إلى أن كلا الموقفين يفضيان إلى نتيجة فاجعة واحدة: وهي الانتحار الثقافي لمصلحة هذه الهيمنة الرأسمالية والخروج من التاريخ كما قال الدكتور فوزي منصور.
ويختتم العالِم دراسته بأن جوهر معركة عصرنا الراهن المباشرة الآنية هي النضال العالمي المشترك بين القوى المنتجة والمبدعة والديمقراطية والتقدمية في العالم من أجل القضاء على الهيمنة الأمريكية على الوضع الإنساني الراهن، وضمان حق كل بلدان العالم في اختيار طريقها الخاص للتنمية الشاملة الاقتصادية والبشرية والثقافية والإبداعية، وتوفير الموارد بين مختلف الخبرات والتجارب السياسية والتنموية والثقافية بين شعوب العالم.
والبديل الإيجابي من وجهة نظره يتمثل في النضال من أجل عولمة بديلة، إنسانية وديمقراطية، والتصدي إيجابياً لهذه العولمة الرأسمالية التي تكاد تجعل من وحدة الحضارة الإنسانية، هذا الكسب التاريخي العظيم، لا قرية واحدة -كما يقال- بل غابة عالمية واحدة.

عرض وتقديم صلاح عدلي