المرض ... يقزم رغبات الإنسان .


سيمون خوري
2018 / 10 / 21 - 13:43     

المرض ... يقزم رغبات الإنسان
سيمون خوري :
لا ادري تحت اي بند يمكن تصنيف الكتابة التي تتعلق بالحالات الإنسانية من أمراض أو كوارث طبيعية .؟ على كل حال يمكن لها ان تكون في خانة الدب والفن ، نظراً لمصداقيتها التعبيرية عن تلك الحالة الموصوفة . وشخصياً ، لا اتمنى لأحد ما أن يصاب بالمرض أو أن يتعرض لسوء . وخاصة شعوب الشرق البائس. التي لديها فائض من الأمراض الإجتماعية .
على كلا الحالات العنوان ، ربما يعكس حالة شخصية وهي فعلياً كذلك . وبالتأكيد المرض ، أياً كانت طبيعته يقزم رغبات الإنسان . سواء أكان مرض عضوي شخصي فردي أو مرض إجتماعي .
ستة عشر يوماً في المستشفى ، تقزمت كل رغباتي . والتهم المرض بشراسة ما تبقى من أحلام سابقة ، من سنين سابقة . وطغت على السطح مثل زبد البحر ، رغبات آنية مؤقتة تأتي وتروح . مثلاً ، أن لا أشعر بوخز الإبرة ..؟ أو أن تنتهي قوارير الأدوية والأمصال المعلقة فوق حواملها .بيد أن عيناي اللتان غارتا في محجرهما تراقب موعد إنتهاء المصل .أجهدت من التحليق في سقف الغرفة . لاادري كيف اصبحت كل الأشياء موصودة بجدران كبيرة ، وفي داخلها صغر حجمي المتكور فوق سرير يصعد ويهبط مثل مصاعد العمارات أو البنايات الراقية . في المستشفى تفاجئ أنك شخص أخر، منفتح على عالم آخر . ربما كانت شهية " برسيغوني "آلهة العالم السفلي " في الميثولوجيا الإغريقية . في أوج نشاطها .وللحقيقة فقد انفتحت على ذاتي . وحاولت إقناع ذاتي أن الآخر قبل المستشفى هو أنا وليس شخصاً اخر. ويمكن ان يشهد منتصف الليل شروق شمس ما في مكان ما من هذا العالم . وتنامت لدي تقنية التأمل ، التأمل بما مضى وليس بما هو قادم . فالقادم هو الرغبة في المغادرة ... هكذا تضاءلت وتقزمت الأماني وتحولت الى رغبات صغيرة ، نتف قليلة
فيما تباطئ الزمن الى درجة عجيبة ، معاكساً نظرية " أينشتاين "..؟ رغم اني كنت قبل المستشفى أحلم أن تمر المنطقة بقطار سريع الى المستقبل ينقلها من حال الى حال .. لكن من سوء حظها اصابها إعصار شتوي مدمر ، خلف وراءه العنصرية والطائفية وكراهية الأخر المختلف . ورغم أن الزمن خيب املي هذا ، لكن في المستشفى خيب الزمن أملي مرات عديدة . كنت أود الصراخ ... يا أمي ... بيد أن أمي ، كانت قد غادرت مبكرة .. ثم تخليت عن الفكرة .هكذا لم أجد سوى رفيقتي الى جانبي ، وتلك الستارة السميكة التي كانت تحجب الضوء .. اعصرها بما تبقى من قوة في يدي الضعيفة المعلقة با لأمصال .. كي لا أعصر يد رفيقة عمري التي لم تفارقني لحظة واحدة .
أحيانا كثيرة كنت أكبت وأقمع آلامي ، كي لا أسبب ألماً أخرلكل الأصدقاء والأحبة الذين غمروني بمحبتهم. وأحاطو بسريري مثل سوار المعصم .
ستة عشر يوماً على السرير ، مستلقياً على الظهر ، افكر فقط متى يمكن لي مغادرة المستشفى ..؟ رغم أن المستشفى اصبحت مثل بيتي الثاني ، في الأونة الأخيرة . سألني احد احفادي .. يا جدو أنت فين ؟ اجبت لا شئ مجرد " فولتا " اي حسب تعبيرنا الدارج " شمة هوا " .واعترف اني في المستشفى تحولت الى زعيم الغرفة ، مثل زعيم القاووش ، في السجون العربية فالمحكوم مؤبد ، يتحول الى زعيم على بقية السجناء ويمارس كافة رغباتة الأنية . وهكذا اتيحت لي فرصة التحكم بقنوات التلفزيون . لأن بقية المرضى كان وجودهم عابراً يومين أو ثلاثة أيام ، ثم ان سريري كان الى جانب النافذة التي لم أستطع رؤية شئ من خلالها سوى سحب تبتسم مطراً ، وتهرع الى كبد السماء تنتظرمع الأله أبولونس ، موعد عيد النبيذ والحب . غادرت المستشفى عصر يوم السبت .وفوجئت أن هناك سيارات وعصافير ومارة ، وان الحياة لم تتوقف بعد . وداعاً " برسيغوني " فما زال هناك متسع قليل من الحب والوقت ، أمنحه لأولئك الأحبة من الأهل وأحفادي وأصدقائي ورفيقة عمري . والحب يحتضن كل من يقترب منه . تحية حب وتقدير للجميع.
سيمون19/ 10/ 18
اثينا