هجرات الفلاحين في العراق


وليد يوسف عطو
2018 / 10 / 20 - 17:23     

هجرات الفلاحين في العراق

المقال ماخوذ من كتاب الباحث والمؤرخ المرموق حنا بطاطو :
( الشيخ والفلاح في العراق :1917 – 1958 ), ترجمة وتعليق د.صادق عبد علي طريخم ,تقديم وتعليق : د .سلمان رشيد محمد الهلالي - ط1 – 2018 – الناشر:دار سطور للنشر والتوزيع – بغداد – شارع المتنبي .

يقول د . حنا بطاطو ان هناك ميزتان متناقضتان ميزتا تاريخ العراق خلال عقود حول العلاقة بين الشيخ والفلاح ومضامين نظام الاراضي في العراق هما :
(وفرة الاراضي الصالحة للزراعة دون توفر الفلاحين لزراعتها ,هذا من جانب ,ومن جانب اخر ترك اعداد كبيرة من الفلاحين للريف .. ونحن نعرف حقيقة غالبا ماكانت منسية وهي بالرغم من ان الفلاحين لايرغبون بصورة عامة في عمل تغييرات جذرية في وضعهم الاجتماعي والمهني ,لكن العلاقة بين الفلاح العراقي والارض , وخاصة في المناطق الجنوبية السيحية , لم تكن علاقة متينة ودائمة وذلك بسبب اصوله الحديثة كبدوي رحال ,وهناك ايضا الفيضانات المتكررة وحالات الجفاف التي ادت الى عدم استقرار الزراعة .

كما ساهم جفاف بعض فروع الانهر والجداول في احداث ذلك, ولكن اذا ما اعطينا الاعتبار الكافي لمثل هذه العوامل , اضافة الى العوامل الاخرى , لايمكننا ان نجد تفسيرا لمعرفة حجم ووتيرة التطور في العراق ,خاصة عندما تكون الارض قد توسعت بينما قلت اليد العاملة ,غير حقيقة ان علاقات انتاج الارض والظروف الاجتماعية والاقتصادية السائدة قد افقرت الزراعة وجعلتها غير كافية للفلاح لعيش حياة كريمة ).

تظهر خطورة المحاولة التي جرت عام 1933 لربط الفلاح بارضه من خطورة قضية هجرة الفلاحين للاراضي التي بدات في اوائل ذلك العام .وقد قضت المواد 14 و 15 و 16 من قانون وواجبات المزارعين بانه ليس من حق الفلاح او السركال ان يترك المقاطعة او المزرعة مالم يدفع فورا جميع الديون الزراعية المدين بها لصالح مالك الارض , وانه لايجوز لاي مالك ارض او دائرة حكومية او بلدية او شركة مسجلة تشغيله مالم يزوده مالك الارض التي كان يعمل بها بمستند يؤيد بانه مستغن عنه او انه بريء الذمة من اي دين .

ومعلوم ان هنالك قلة قليلة فقط من الفلاحين لم يكونوا مدينيين لمالك الارض .يقول حنا بطاطو :
( العبودية الحقيقية للفلاح هي ماوعد به قانون رقم 28 لسنة 1933 ).لكن لم يكن من عادة العراقيين تطبيق القوانين باخلاص على المدى البعيد , لذلك ظلت الهجرة من الريف الى المدن وخصوصا مدينة بغداد تسير بوتيرة متصاعدة واصبحت مدعاة لمزيد من القلق .

ان هجرة مئات الالاف من البشر من ارياف العراق قد اخل بالاقتصاد واستنزف قوة الريف وجعل بغداد مثقلة بالسكان .وقد لعبت مدينة العمارة جنوب العراق دورا حاسما في تاريخ العراق الحديث .يطلق حنا بطاطو على عملية ترييف مدينة بغداد مصطلح ( عمرنة بغداد ) نسبة الى مدينة العمارة .

وقد اثرت هذه العملية على جوانب الحياة في بغداد , حيث نقلت في البداية جزء من مظاهر ريف العمارة الى بغداد.لقد سكن الفلاحون النازحون من ريف العمارة في صرائف , بنوها بانفسهم من القصب والطين ,حيث اجرى الدكتور (كيتجلي)من كلية بغداد الطبية في العام 1952 مسحا لمجموعة من الصرائف في بغداد التي جرفها فيضان عام 1954 الكارثي حيث كانوا يسكنون في مكب للنفايات في بغداد.

وبين ان مجاري المياه السطحية تلقي محتوياتها في هذه الارض حيث تمر المياه الملوثة بين الصرائف (الاكواخ الطينية )ولا يمكن لسكان الصرائف الوافدين من مدينة العمارة ان ينصبوا صرائفهم في مكان اخر غير مكب النفايات هذا , لانه يتوجب عليهم في حالة لو نصبوها في مكان اخر دفع ايجار المكان وهو امر لايقدرون على تنفيذه .

لم تتخذ الحكومات الملكية اي اجراء لحل مشكلات سكان الصرائف , وحل مشكلة الارض الزراعية . وفي شباط 1958 اعلن وزير الشؤون الاجتماعية امام اللجنة المالية في مجلس الاعيان ان الحكومة توصلت لافضل حل للمشكلة , وهو تقسيم الصرائف الى ثلاث اصناف :
اولا :الاسر التي احد افرادها عسكري .
ثانيا :الاسر التي احد افرادها شرطي .
ثالثا : الاسر الاخرى .

ان الصنفان الاولان يخدمان الحكومة وسيمتلكان بيوتهما الخاصة في نهاية الامر .اما الاسر الاخرى فسيتم نقلها بعيدا عن المدينة بحسب قوانين الصحة العامة .
يذكر الدكتور حنا بطاطو ان ابن المدينة الوحيد الذي يعرفه رجل العشيرة الاعتيادي هو التاجر والمرابي , وكلاهما ليسا النموذج المثالي لحياة المدينة .لذا فان الصفة التي نظر بها الفلاح المهاجر والنازح الى ابن بغداد , او مايطلق عليه بطاطو كلمة ( حضري ),من الحضارة ,هي النصب والاحتيال.

عندما اضطر رجل العشيرة للانتقال الى المدينة , لم يختلط كثيرا مع سكانها ,باستثناء محل عمله الجديد . وقد عزل نفسه في صريفته في مناطق منعزلة داخل المدينة .حيث اصبح له مضيفه ومقاهيه وتجمعاته الاجتماعية .كما ان عمال المدينة لم يرحبوا به لانهم راوا فيه منافسا لهم على لقمة العيش

لقد وجدت الحكومة الملكية نفسها في الاربعينات والخمسينات في مازق ,بعد مواجهتها للعداء المتزايد من سكان بغداد والمدن الكبيرة الاخرى , حيث استوعبت اكبر عدد من مهاجري مدينة العمارة في شرطتها وجيشها , والتي كان من نتيجتها, بحسب رايي الشخصي ,احداث 14 تموز 1958 .

خلال الاشهر التي قضاها حنا بطاطو في انجاز بحثه في مكتبة امن بغداد فتح الحوار مع عدد من رجال الشرطة المنحدرين من ريف مدينة العمارة , عن قدرة الحكومة على استخدام جزء من الشعب ضد الجزء الاخر . وقد اعطاه احدهم الجواب الشافي :
(عمي علينا ان نعيش..فقبل اشهر قليلة وبالقرب من صريفتنا قتل رجل جاره لانه فقد حبتين طماطة من كوخه .. عمي , احب ان اقول لك .. من يعطيني الطعام واللباس الذي يسترني هو بمقام ابي ).

يمكن معرفة حجم الفقر الذي حطم كبرياء الفلاح من رجال العشائر من قضية استعداده للقيام باي عمل يدوي في المدينة مهما كان مهينا ومذلا ,بينما كان قبل عقود قليلة يعتبر اي عمل عدا الفلاحة هو عملا مشينا ومخزيا .وفي بعض الاحيان عندما اجبر رجال العشائر خلال الاحتلال البريطاني للعراق على شق طرق عسكرية , رفض هؤلاء تقاضي اية اجور بعد انتهاء العمل متذرعين بانهم قد قاموا بهذا العمل مجانا , وانهم فيما لو تقاضوا مالا عن ذلك فان هذا سيضعهم على قدم المساواة مع الكولية (الغجر )والعمال الاجراء.

يؤكد حنا بطاطو ان الفقر المشترك لم يخلق اي شكل من اشكال المشاعر المشتركة بين سكان الصرائف وعمال المدينة .,

الاثر الاخر من اثار نزوح الفلاحين الى بغداد هو التوسع المفرط لقوى العمل غير الماهرة في بغداد .وادى هذا الى انخفاض حاد في مستوى معيشة الكسبة الفقراء في بغداد , ليس فقط من حيث انخفاض اجورهم فحسب ,بل حلت البطالة على العديد منهم .

فالمهاجرون الجدد عرضوا عملهم باي سعر كان , واي مبلغ يتقاضونه هو اعلى بكثير مما كان الشيخ يعطيه لهم .فكانوا يعملون ساعات طويلة تصل لاكثر من 12 ساعة في اليوم , والعديد منهم عليه ان يمشي كل صباح لعدة ساعات من صرائفهم في ضواحي بغدادالى مكان عملهم في وسطها , ونفس الامر يتكرر في المساء .

في النهاية يقول حنا بطاطو ان العامل غير الماهر قد عانى منذ العام 1933 من خسارة حقيقية في دخله بالرغم من الازدهار الذي حل على بغداد . ولا شك ان احد الاسباب الرئيسية التي ساهمت بهذه الخسارة هو تدفق العمالة من الفلاحين الى بغداد والمدن الكبرى الاخرى مثل الموصل والبصرة , مما وفر لرجال الاعمال فرصة كبيرة في توفير مبالغ مالية كبيرة وحرمان العمال من جزء من الدخل الذي يكسبه ومن حصته في الممتلكات العقارية في المدينة.

خلاصة القول :

يتميز كتاب حنا بطاطو بكثرة الارقام والاحصائيات, عن مختلف مضامين الكتاب ,وهو مايفتقده اليوم المؤرخين وعلماء الاجتماع والباحثين في الانثروبولوجيا بصورة عامة , بسبب ندرة المعلومات وعدم توفر الشفافية في تداول المعلومات , او منع مؤسسات الدولة من تزويدهم بالمعلومات في ظل الانظمة العسكرية والدكتاتورية الشمولية .

ربما كان لحنا بطاطو خصوصية خاصة سهلت له الحصول على هذه المعلومات من الحكومات الملكية والجمهورية , وهو الذي احب العراق وشعبه .

قدم حنا بطاطو كتابه ( الشيخ والفلاح في العراق 1917 – 1958 ) كاطروحة دكتوراه الى جامعة هارفارد في الولايات المتحدة الامريكية في العام 1960 , وهي دراسة رائدة في وقتها ليس بسبب الحيادية والموضوعية التي تميزت بها فحسب , ولكن لان بطاطو اعتمد, كما يقول د . سلمان رشيد محمد الهلالي في تقديمه للكتاب على رؤية جديدة جمعت بين منهجية كارل ماركس ورؤية ماكس فيبر في تحليل المجتمعات العربية ومنها المجتمع العراقي .

وعن مصادر حنا بطاطو انقل ماكتبه في مقدمة كتابه ص 25

( كما اننا اطلعنا على معلومات قيمة من التقارير البريطانية المحدودة التداول والملفات السرية للمخابرات والملفات الادارية قد دفعتنا للقيام بهذا البحث ).
ان تفكك الدولة العراقية بعد الغزو الامريكي على العراق في العام 2003 جعل السلاح لدى الاهالي ولدى العشائر والميليشيات اكثر من عدد السلاح لدى الجيش والشرطة .وعادت بقوة الى الظهور العشائر وزادت الهجرة من الارياف ومن مدن العراق الى مدينة بغداد . وترك الفلاحين اراضيهم بسبب شحة المياه الصالحة للزراعة وبسبب عدم دعم الدولة للفلاحين وتم تدمير بساتين النخيل .وعادت الى الظهور طبقة الاقطاع باشكال جديدة , وسيطرت الفئات الطفيلية الرثة على بغداد .