مأساة خاشقجي سلّطت الضوء على الصراع التركي-السعودي


مولود مدي
2018 / 10 / 19 - 09:37     

اختطاف الصحفي السعودي البارز جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول في 2 تشرين الأول / أكتوبر من العام الماضي ، كشف النقاب عن الاستبداد القبيح وراء الصورة الإصلاحية المزعومة لولي عهد المملكة محمد بن سلمان. ومع ذلك , فإن ما لوحظ من ذلك هو الطريقة التي كشفت بها هذه الفضيحة عن التنافس والصراع الذي طال أمده بين تركيا والسعودية.

أساس التنافس الأول بين البلدين هو كيفية قراءة الاسلام, وبالتحديد الاسلام السنّي, وهذا أمر لاحظه غير المسلمين قبل المسلمين نفسهم, ولهذا بدأت تتعالى اصوات تقول بأن السعودية بدأت تفقد مكانتها الدينية بين الشعوب العربية, منذ وان اعتلى هذا الامير الاهوج مقاليد الحكم, فقد هزّ صورة المملكة الدينية باعتقالاته ضد الفقهاء الوهّابيين وتحجيمه لسلطات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المعروف ومخالفته لفتاوى كبار العلماء الوهابية, وتراجع شعبية هيئة كبار العلماء التي كانت لعقود طويلة عبارة عن عصا تدجّل بها السعودية على الكثير من البلدان العربية.

تحاول تركيا اردوغان تسويق نفسها كصاحبة الاسلام المعتدل والحديث, ويبدوا اليوم ان الفصل بين من يمثل الاسلام المعتدل وغير المعتدل ليس سهلا, من المسلم به أننا في نقطة قاتمة جداً في الديمقراطية التركية , حيث استحوذ الرئيس رجب طيب أردوغان على رد فعل ديني على تجاوزات العلمانية على الطريقة الفرنسية لتعزيز النزعة الاستبدادية. كان "النموذج التركي" الذي كان حزب أردوغان يمثله في بداية هذا القرن مصدر إلهام للعديد من المسلمين ، كمزيج للإسلام بالديمقراطية الليبرالية. لكن خلال السنوات الخمس الماضية ، انهار هذا النموذج بشكل كبير , حيث أصبحت تركيا سجنا للصحفيين المعتقلين , وسحق المعارضين , والكراهية والبارانويا, حتى ظهر طغى على هذه الفترة اسم " الاردوغانية ".
مع ذلك, فإن أردوغان ورفاقه الإسلاميين لا يزالون بالمقارنة مع النخب السعودية اكثر انفتاحا , فهم لا يزالون يعملون في إطار أكثر حداثة يعكس تفسيرات أكثر اعتدالا للإسلام السني. وهذا يلقي الضوء على الخلافات السياسية الكبرى التي نشأت بين أنقرة والرياض.

اسباب الخلاف بين الدولتين كثيرة, في الأربعينيات من القرن التاسع عشر, في المنطقة الوسطى الأكثر انعزالاً في شبه الجزيرة العربية ، المسماة نجد, ظهر عالم يدعى محمد بن عبد الوهاب بدعوة متطرفة لاستعادة ما يراه "الإسلام الحقيقي". وهو لم يفعل اكثر من اعادة إحياء منهج الحنابلة في قراءة الاسلام , المذهب الأكثر دكتاتورية وتطرفا في المدارس السُنّية الرئيسية الأربعة, اكبر ميزة فيه الشغف بـمهاجمة الجميع مسلمين وغير مسلمين, فنجد تركيز هذا المذهب على تكفير الشيعة وأيضًا التعرض للسنة من المذهب الحنفي الذي هو مذهب العثمانيين .
وسرعان ما تحالف محمد بن عبد الوهاب مع زعيم يدعى ابن سعود - مؤسس الأسرة السعودية. وبهذا التحالف نمت الدولة السعودية الأولى من حيث الحجم والطموح وهذا بسبب طبيعة تعاليم الوهابية التي تميزت بعسكرة الدين والتشدد فيه , مما أدى إلى مجزرة كبيرة ضد الشيعة في كربلاء في عام 1801 واحتلال مكة في 1803. لكن عاد العثمانيون وسحقوا الثورة الوهابية في عام 1812 من خلال حمايتهم في مصر, وتراجعت الوهابية إلى الصحراء.

وحدث ضجيج آخر في الحجاز في عام 1856 عندما قدم العثمانيون , بفضل تأثير حلفائهم البريطانيين, "ابتكاراً" هرطقيا آخر حسب الرؤية الوهابية: حظر تجارة الرقيق ، التي كانت آنذاك تجارة مربحة بين الساحل الأفريقي ومدينة جدة العربية. بناء على طلب من التجار العبيد الغاضبين ، أعلن الشريف الشريف عبد المطلب من مكة أن الأتراك قد أصبحوا كفارا ودماءهم كانت حلال. بينما نتعلم من أحداث رجل الدولة العثماني أحمد سيفديت باشا ، كانت خطايا تركيا تشمل "السماح للنساء بالكشف عن أجسادهن ، والبقاء منفصلين عن آبائهن أو أزواجهن ، والحصول على الحق في الطلاق".

استعدت بطريقة خفيفة احد اهم فصول الصراع في التاريخ بين الأتراك والسعوديين, لأن على ما يبدوا ان الصحافة السعودية واعلامها بدأ ينزل الى مستوى رعاع تويتر في طريقة التعامل مع كل ازمة تواجهها المملكة, فبدأت هذه "الصحافة" بالحديث عن مجازر العثمانيين بحق السعوديين وتصوير اردوغان على انه خليفة عثماني يتأمر على السعودية ويريد استعادة مجد اجداده, ولا نعرف لماذا لم تتحدث هذه الصحافة عن هذه المجازر وهذه الاطماع قبل الخلاف مع تركيا وخاصة ايام تداعي الديكتاتوريات العربية في مصر وليبيا وتونس, ولم تكشف خفايا سياسات اردوغان واستغلاله للاسلام والتاريخ الاسلامي لتمرير مصالحه, حتى ظهر اتباع لأردوغان في العالم العربي يدافعون عن مصالح اردوغان اكثر من مصالحه بلدهم, فقبل الخلاف كانت العلاقات السعودية التركية سمن على عسل وكل شيء تمام يا أفندم, واليوم تذكر السعوديين المجازر العثمانية وسياسات التتريك في الحجاز..

الخلاف الثاني بين أنقرة والرياض هو حول جماعة الإخوان وطريقة التعامل معهم. الرياض تدين الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية, وهذا لسبب سياسي وليس لطبيعة افكار هذه الجماعة, فدعمت الانقلاب العسكري الوحشي في مصر ضدها في عام 2013. أنقرة , من ناحية أخرى, أدانت الانقلاب واحتضنت الكثير من القيادات الاخوانية البارزة، مما جعل اسطنبول العاصمة الجديدة للمعارضين العرب , لا سيما أولئك الذين تحالفوا مع الإخوان. واليوم بعد اختطاف جمال خاشقجي في اسطنبول, سارع من يسير في فلك ال سعود الى القول بأن اسطنبول مدينة غير امنة وهذا هو سبب اختفاء خاشقجي ! ولو اننا لو نواصل بنفس المنطق, فإن لندن ايضا مدينة غير امنة فهي شهدت عدة عمليات ارهابية, ونيويورك ايضا مدينة غير امنة لأنها شهدت تفجيرات 11 سبتمبر والتي كان أبطالها اشخاص ذو جنسية سعودية ! . القلق الحقيقي للمملكة العربية السعودية مع جماعة الإخوان المسلمين هو أمر سياسي , أي أن حركة إسلامية شعبية لا تعترف بالطاعة المطلقة لأل سعود هي جماعة تخريبية. لذا , يجب أن يتم سحقهم بالقوة.

الخلاف الثالث هو طريقة التعامل مع ايران, في حين أن إيران وتركيا تختلفان حول عدد من التطورات الإقليمية , لا سيما حول الحرب الأهلية السورية التي يدعمان فيها الأطراف المتنازعة , دون نسيان ملف الأكراد الذي ادى الى تقارب كبير بين البلدين بحيث يتّفقان على أن انفصال الاكراد هو من سابع المستحيلات, فإن البلدين تربطهما علاقات اقتصادية عميقة. أي صراع بين السعودية وتركيا يمكن أن يسمح لمزيد من العلاقات بين أنقرة
أود ان اشير الى نقطة مهمة, وهو الشيء الطريف في الموضوع, وهو أن في حين تندد السعودية بسياسات ايران, وتصف النظام هناك بالارهابي, نجد ان السعودية ايضا تكرر نفس ممارسات ايران الارهابية, هذه الأخيرة معروفة بشكل أفضل بسجلها السيئ في مجال حقوق الإنسان كالسعودية - فهي تعدم المثليين وتعتقل المعارضين وتضطهد الأقليات, ودعمها لبشار الأسد في الحرب الأهلية السورية ويُزعم أنها ترسل فرق اغتيالات لقتل المعارضين في الخارج, الولايات المتحدة مشكلتها ليست هنا, بل مشكلتها في اصرار ايران على المواجهة واتخاذ خطوات يراها الغرب غير مقبولة تماما.

نموذج الإصلاح المناسب للمملكة العربية السعودية اراه من الملكيات الدستورية المعقولة في المنطقة, مثل الأردن والمغرب, وهي أكثر حرية من معظم الدول العربية الأخرى. يجب على ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي لا نعلم ان كان سيستمر في الحكم ام لا, والذي حاول على ما يبدو سحر الغرب بإصلاحاته الشعبية مثل السماح للنساء بقيادة السيارات ، أن يفهم أن الحداثة لا تتعلق بالتغييرات الاجتماعية التجميلية فحسب , ان السماح للنساء بالقيادة, وانشاء ما يسمى "هيئة الترفيه" هذه ليست بإصلاحات حقيقة, هذه حقوق طبيعية, الاصلاحات الحقيقية هي السماح بصحافة حرة, وعدم الخلط بين انتقاد الحاكم و الخيانة, وانشاء مؤسسات رقابية, لا يمكن للسعودية أن تمارس الحداثة وهي تسمح بنشر بعض صنوف الجهل بين شعبها, يجب إشاعة الحريات لتنتقل المعلومة كما هي دون تزييف, ولا يمكن أن تتحدث عن الحداثة مع شعب ما زال يؤمن أن الشيخ هو القائد والزعيم, يجب لكي تقر الحداثة بتطبيق أصولها كالمواطنة وحقوق الإنسان.. وليس بقتل صحفي لمجرد مطالبته بالاصلاح وبنبرة ليس فيها أي معارضة للسلطة السعودية.