مائدة نزهت مطربة الغناء الراقي


وليد يوسف عطو
2018 / 10 / 14 - 18:22     

مائدة نزهت مطربة الغناء الراقي

يقول الباحث والناقد الموسيقي علي عبد الامير في كتابه:
(رقصة الفستان الاحمر :سبعة عقود من تاريخ العراق المعاصر عبر الغناء والموسيقى ),بان المطربة مائدة نزهت كانت تمثل الطبقة الوسطى المدينية في حالة صعودها والتي نهضت ببناء العراق عبر المعرفة والثقافة والتقاليد المهنية الرصينة .

شكلت مائدة نزهت نسقين للاغنية العراقية , الاول الجانب المديني , اي اغنية المدينة , او الاغنية البغدادية ,وهذا النسق نتاج خمسينات القرن الماضي , والثاني مسار فني فوضوي يمثل هبوط وتجريف الطبقة الوسطى , حيث اختلاط الانساق والبيئات الثقافية بطريقة فجة تحت شعارات (الثورية والوطنية والقومية)التي ميزت مرحلة ستينات وسبعينات القرن العشرين .

نجد في اغنيات مائدة نزهت الجراة والبوح بمشاعر الحب ,ولكن في اسلوب من التهذيب والرقة , وهو جزء من ثقافة الطبقة الوسطى المدنية العراقية ,حيث كانت الطبقة الوسطى الحامل لقيم الحداثة قبل ان تحطمها الانقلابات العسكرية والحروب مقابل قيم التخلف التي تضخها المنظومة العشائرية والدينية .

مع اختطاف الدولة من قبل المغامرين العسكريين والحزبيين تراجعت قيم الحداثة ومنها الغناء العراقي , الى الاسفاف في الاغنية ,فمن اغنية مائدة نزهت (يا ام الفستان الاحمر ) الى (حياك يابو حلا), ومن رصانة ( ياحلو يازغير يامدلل )الى ( عراق التاميم )وهي تجسد جناية الانقلابات العسكرية والافكار (الثورية )الشكل والهمجية المحتوى ليس على الدولة فقط , بل على الطبقة الوسطى حارسة قيم الحداثة في المجتمع .

قام الملحن عباس جميل بتلحين اول اغنية للمطربة مائدة نزهت قبل ان تغني للاذاعة وهي ( جاني من حسن مكتوب )من فيلم ( دكتور حسن ). بعدها غنت ( ياكاتم الاسرار )واغنية ( البصرة ),واغنية ( يللي تريدون الهوى )التي كتب كلماتها اسماعيل الخطيب واغنية (يا اسمر )كلمات الشاعر عبد المجيد الملا ,واغنية ( قالوا حلو )كلمات ابر اهيم احمد, واغنية (اسال قلب اللي يهواك )كلمات ناصر التميمي .

انتقلت مائدة نزهت الى الالحان التركيبية عندما تزوجت الملحن وديع خوندة ( سمير بغدادي ). لقد شكلت الحان وديع خوندة انعطافة كبيرة في الاغنية العراقية الحديثة ببنائها اللحني . استطاعت مائدة نزهت ان تعبر عن مشاعر الملحن وكاتب كلمات اغانيها معا .

من هذه الاغاني ( يا ام الفستان الاحمر )كلمات عبد المجيد الملا , واغنية ( احبك لا )كتبها اسماعيل الخطيب ,واغنية ( تجونة لو نجيكم )كلمات رشيد حميد , ( واغنية تاليها وياك)كتبتها امل سامي ,واغنية ( وينك )التي كتبها وديع خوندة نفسه .

وهنالك مسار اخر في اغاني مائدة نزهت حفل بالتجديد والحداثة مثل اغنية ( ياحلو يازغير يامدلل ), كلمات الفنان المبدع والشامل خزعل مهدي , و ( يا مسيرين البلم )كلمات حسن ترجمان , و ( محتارين )لداود الغنام واغنية ( يكولولي توب واني اشلون اتوب )لمحمد حسن الكرخي , و (ياحليوة عجايب )كلمات هلال عاصم والحان علاء كامل وغيرها من الاغاني .

بعد تحول العراق في ظل الانقلابات العسكرية الى التنكيل والمحاكمات والاغتيالات تقلصت مساحة الموسيقى والغناء حيث بدات موجة تقديس الزعماء والقادة . وجد الفنانون انفسهم بين خيارين , اما الاندماج مع المرحلة الجديدة , او الانكفاء على الذات ,وهو مايعرضهم لاسئلة السلطات , مما اضطرهم الى الهجرة خارج العراق .
سافرت المطربة مائدة نزهت مع زوجها وديع خوندة عام 1962 الى بيروت . لحن لها زوجها وديع خوندة ( ياخوية ويا احلى خي )وغيرها من الاغاني . ولحن لها الملحن اللبناني عفيف رضوان . عاد الثنائي مائدة نزهت ووديع خوندة الى العراق حيث شهدالعراق انقلابا دمويا في 8 شباط 1963 ثم انقلابا اخر في نفس السنة في 18 تشرين الثاني , مما اضطرهما الى العودة الى بيروت ثانية .

ساعدهما الموسيقي الفلسطيني الاصل حليم الرومي والد المطربة الكبيرة ماجدة الرومي . اذ كان مسؤولا عن الموسيقى في الاذاعة اللبنانية . وقد لحن لمائدة نزهت بعض الملحنين العرب منهم :حسن غندور ,عفيف رضوان, خالد ابو النصر وسعدون الراشد . كذلك لحن لها من الكويت عوض دوخي وحميد الرجب بعد ان سافرت الى الكويت فترة من الزمن.مع عودتهما الى بغداد بعد الانقلاب الثاني للبعث في عام 1968 غادرت مائدة نزهت حالة الاشراق البغدادية الرقيقة شعرا وموسيقى واداء لصالح اغنيات وطنية وفق متطلبات المرحلة , فغنت اغنيات واناشيد مثل ( قفوا هنا ) كلمات عبدالسلام ابراهيم والحان وديع خوندة وقصيدة ( حبيبتي بغداد )للشاعر شفيق الكمالي , واغنية ( عراق التاميم )كلمات ناظم السماوي ولحنها ياسين الشيخلي , و ( شمس بغداد )لحنها محمد سلمان .

استطاعت مائدة نزهت اداء المقام العراقي باقتدار عالي ,لتكسر بذلك احتكار الرجال لهذا القالب الغنائي . يرى الناقد الموسيقي الراحل عبد الوهاب الشيخلي ان مائدة نزهت وجهت اهتمامها بهدوء ورصانة ونظرة مغايرة في الحياة والفن وكشفت في اغنياتها عن حالة حضارية في فنها حيث عبرت عن انتمائها الى روح المدينة وكرست لذلك امكاناتها ووعيها وادراكها .

لقد كانت حلقة مهمة في الغناء البغدادي وكذلك في المقامات العراقية التي ادتها اواخر السبعينات .لقد بزت مائدة نزهت في اسلوبها الغنائي والفني كل المطربات العراقيات في القرن العشرين .يضيف الناقد عبد الوهاب الشيخلي ان الانعكاسات التعبيرية والادائية لدى مائدة نزهت عكست الخصوصية البغدادية والعراقية وهي خصوصية سابقة لاوانها الى حد مذهل .اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار موقفها الاخلاقي وانتمائها الى عراقيتها وبغداديتها وبيئتها المحلية .

اعتزلت المطربة مائدة نزهت الغناء في اواسط ثمانينات القرن العشرين . لقد اعتزلت وهي في قمة عطائها الفني واصبحت الساحة خالية من الاصوات النسائية . وتحولت تدريجيا وفق النسق السائد في المجتمعات العربية نحو السلفية الدينية هي وزوجها وديع خوندة , الذي يقول عنه البعض انه اصبح مؤذن قبيل وفاته .

بعد اكثر من عقدعلى قرار اعتزالها الغناء كانت مائدة نزهت تعيش في العاصمة الاردنية عمان في عزلة تامة مع زوجها وديع خوندة ومعهما ابنتها .وكانت قد ذهبت الى حج بيت الله الحرام وانقطعت للعبادة ,وارتدت الحجاب . وتواصلا مع نهجها الجديد في الحياة طلبت من الاذاعة والتلفزيون في بغداد سحب اشرطتها الغنائية الصوتية والمرئية , الا ان طلبها قوبل بالرفض , كون اعمالها تمثل جزء من الذاكرة والهوية العراقية والارشيف الغنائي العراقي , وهي ليست ملكا شخصيا للمطربة .

روابط ذات صلة :

مائدة نزهت , اغنية ( دجلة والفرات ) على الرابط التالي :

https://www.youtube.com/watch?v=je9tW-JIEWQ