سلامة كيلة في مصر.. الإنسان والمفكر والمناضل


عصام شعبان حسن
2018 / 10 / 12 - 01:42     

سلامة كيلة في مصر.. الإنسان والمفكر والمناضل

10 أكتوبر 2018

رحل المفكر العربي، سلامة كيلة، بعد حياة حافلة بالنضال على المستوى العملي، عبر الانخراط في أتون المعارك السياسية، والنقاشات الفكرية. ولم يفصل المفكر، فلسطيني الأصل، أردني الجنسية، بين المستويين. كما أنه، وكما يعرفه رفاقه ومحبّوه وأصدقاؤه، لا انفصال هناك بين طابعه الإنساني الراقي الملتزم وما آمن به من قيم وأفكار تحرّرية وثورية منحازة لقيم التقدم والحرية. والكتابة عن الصديق الراحل أمر بالغ الصعوبة في هذا الوقت. سبق وكتبت عنه في أغسطس/ آب 2014، حين طلب مني المشاركة بملف عنوانه "الذين نحبّهم"، فكان سلامة كيلة وأحمد سيف الإسلام الشخصيتين الأبرز، بجانب ابني علي. وتأتي صعوبة الكتابة أيضا لتعقد حياة كيلة، وثرائه الفكري المتميز وغير التقليدي، كما أن ترحال سلامة بين بغداد وعمّان والقاهرة وباريس ودمشق، وغزارة إنتاجه الفكري في ما يزيد عن 30 كتابا، مع مئات الأبحاث وآلاف من الأنشطة ما بين المقالات والحوار والندوات والمحاضرات، منذ بداية نضاله في صفوف حركة المقاومة الفلسطينية، تجعل الكتابة عنه بالغة الصعوبة. وهو لم يكل عن النشاط، منذ تفتحت عيناه على الاحتلال الإسرائيلي. ولكن إجمالا يمكن القول إن أهم خصائص سلامة كيلة قدرته مفكّرا على رؤية المستقبل ببصيرة بالغة الحكمة، متسلّحا بالأمل الذي يرى كثيرون من رفاقه ومحبيه وقرائه أنه عراب لهذا الأمل، كما أنه الحالم دوما بالثورة والمساند لقوى التحرّر في كل مكان زاره.
كان سلامة كيلة على المستوى الشخصي لرفاقه صديقا ومفكرا ومعلما، كان لي أكثر بكثير من ذلك، نظرا لما شاركني به من تفاصيل حياتية منذ تعرّفت إليه، وبعدها خلال فترة إقامته في القاهرة، كانت حياته مليئة بالنشاط الفكري والسياسي في القاهرة، وفي أكثر من بلد عربي، له أصدقاء ورفاق في أماكن إقامته، كالأردن وسورية وفلسطين ومصر وفرنسا، وقراء ومتابعون في أغلب الدول العربية، وفي دول غير عربية، ما يؤشّر على تأثيره مفكرا ومناضلا وإنسانا. وقد ذكر بعض من نعوه إنهم لم يلتقوا به غير مرة، لكن أثرها كان بالغا. إنه النموذج الذي عاش مناضلا ثوريا متقشفا ومترفعا، لا يبحث عن مغانم أو يعقد صفقات.
ليس غريبا أن كثيرين من جيل الشباب من اليسار العربي تأثروا بسلامة كيلة، وتحصّنوا بأفكاره الشجاعة والثورية، ولا غرابة هنا أيضا أن تهجوه بعض النخب العربية، اليسارية خصوصا، والذين هاجم أغلبهم ثورات الربيع العربي، واعتبروها مؤامرة خارجية، أو على الأقل إطارا للتآمر. ودافعت تلك النوعية عن استبداد النظم، بداية من حكم التوريث والنهب والإفقار في سورية، وصولا إلى الدفاع عن مظاهر السلطوية في مصر تحت مسميات الحفاظ على الدولة الوطنية ضد هجوم الإمبريالية. ولذلك، لم يكن مفاجئا أن يلمز هنا وهناك على الرجل الذي كان مثالا واضحا لليساري الثوري الواعي ضد النظم التي تقتل وتفقر شعوبها، فيما لم يخش من مواجهة هؤلاء، على الرغم من تحصّنهم بنظمهم الوطنية جدا!، وكيف يخشاهم الرجل، وهو من انخرط في الكفاح المسلح ضد المحتل الإسرائيلى الذي رفض حتى دفنه في مسقط رأسه في بير زيت بعد مماته. انحاز سلامة بشجاعةٍ للشعب السوري، ولم تجعله تجربة السجن القاسية في سجون الأسد الأب (ثماني سنوات) يتردّد في إعلان موقفه، رافعا شعار "الشعب يريد نظاما جديدا". اعتقل مرة أخرى وعذبه الأسد الابن، وأبعده عن سورية. ومن يعرف سلامة يعرف جيدا أنه ليس من سكان أبراج النخب، أو زمرة المطبلين أو المبررين للسلطوية بدعاوى الوطنية.
بعد إبعاده من سورية في 2012، كانت القاهرة مقامه بعد أن أمضى فترة وجيزة في الأردن. قبل ذلك، كان دائم التردّد على القاهرة، والنقاش مع قوى اليسار المصري منذ خروجه من سجن الأسد عام 2000، في محاولة لإيجاد تحالفاتٍ وتعاون بين قوى اليسار العربي. وقبل 25 يناير/ كانون الثاني 2011، كان سلامة على موعد مع الثورة، اختار السفر إلى القاهرة لمتابعة الحدث من قرب، يؤمن بأن ثورة مصر ستكون مؤثرةً وجامحةً وشعبية. قبل الثورة بيومين، حضرنا لندوة عن سيناريوهات الغضب المقبل، قال سلامة إن الشعوب العربية تستعد كلها للحراك نتاج بؤس نمط الاقتصاد واستبداد النظم التي تشيع الخوف من أجل استمرار نهبها، كونوا مع الشعب في انتفاضته وتحركاته.

اختار سلامة كعادته العيش في بيت بسيط في وسط البلد بالقاهرة، وانتقل بعده إلى بيت آخر، بسيط أيضا. كان البيتان عامرين بحب الأصدقاء والرفاق، وتمتع سلامة في كلا المقامين بحب الجيران والمحيطين به. في أيامه الأخيرة، عندما بدأ يكثف العلاج في الأردن، كان رفاقه وجيرانه دائمي السؤال عنه، بحبٍّ واهتمام، ردا على إنسانية سلامة، فالحب لا يُقابل إلا بمثله مع مستقيمي المنطق، طيبي القلب. وهو أيضا الرجل الذي لا يمل من المناقشات بجدية واحترام، حتى مع من يختلفون معه، مهما اختلفت أعمارهم وانتماءاتهم. كان يومه، باستثناء نوبات المرض الشديدة، يتوزع ما بين الاطلاع والمتابعة والكتابة والانخراط في أنشطة ومناقشات، تجده يتنقل من مكان إلى آخر بسرعة وخفة وقوة، حتى في الظروف الصحية الصعبة التي مر بها. كان بعض أصدقائنا يقولون له إنك صوفي صاحب خطوة، كان يضحك، ويقول: لدي وقت محدود ومهام لا بد من إنجازها. .. قبل أن يرحل بأيام، كان يعد لمشاريع فكرية ومشاركات في أنشطة، ويرتب للقاءات عامة وشخصية. أحيانا تتصور أنه سيعيش أبدا، أو أنه سيموت غدا، فيسابق الزمن، والحق أن أمثاله لا يرحلون بالموت.
كانت مصر تشغل حيزا كبيرا في تفكيره، كتب عن تجربة النهضة المصرية ومحاولاتها، بداية من محمد علي، وقدّم رؤية نقدية لفترة جمال عبد الناصر بخصوص قضية حرية التنظيم، لكن لم يصب بالعمى كآخرين، فلم ينكر منجزاتٍ تحققت على مستوى البنية الإنتاجية والانحيازات الاجتماعية والتغيرات في نمط الاقتصاد، الموضوع الذي شغله دوما، ورأى فيه النقطة الجوهرية لإنجاح الثورات والانتفاضات العربية في تحقيق أهدافها. يتضح تركيزه على برنامج التغير الاقتصادي، وعلاقته بالثورة، في عدة كتب، منها "وضع الثورات العربية ومصيرها"، و"ثورة مصر والصراع الطبقي"، و"زمن الثورة"، و"ثورة سورية .. ثورة حقيقية". كان سلامة كيلة أحد الذين توقعوا اندلاع انتفاضات الشعوب العربية، ودعموها بكل السبل، يتضح ذلك من الكتابات التي تابع فيها الحركة الاجتماعية في مصر وتونس والأردن وسورية والأنشطة التي شارك فيها. كان يتوقع خروج الشعب للتغيير، وكان يرى ضرورة أن يكون اليسار في المقدمة. ظل سلامة كيلة في كل مراحل الثورة يكتب ويناقش ويفكر في التوجه الضروري، والخطوات الملحّة على قوى اليسار والشباب خصوصا، لعل ذلك ما جعل بعضا من الشباب يتحلقون حوله.
كان الفلسطيني، سلامة كيلة، يرى أن الاحتلال الإسرائيلي موجّه أساسا إلى إعاقة تطور المنطقة العربية ونهوضها، وفي القلب منها مصر. وكما حاولت دول أوروبا خنق دولة محمد علي، حاولت كذلك مع مصر عبد الناصر، وتحاول الآن عبر قوى الثورة المضادّة، عربيا وأوروبيا وأميركيا، ويرى كل هؤلاء في الثورات أحداثا تهدّد مصالحهم. يؤمن سلامة بسلامة المنطق، حين تريد مواجهة الإمبريالية قاتلها عبر إنهاء الاستبداد وقوى السلطة الشريكة، والمستفيدة من قوى الإمبريالية. وفي أي حال، لا تستدعي مجابهة الإمبريالية مساندة النظم المستبدة باسم الوطنية. يكرّر سلامة دوما على الثوريين أن يكونوا مع الشعب، لبناء دولتهم وحماية أوطانهم من قوى الهيمنة والنهب ذات المصالح المشتركة. نقد سلامة قوى الإسلام السياسي، وشرح ظاهرة "داعش". ونقد، من منطلق ماركسي، برنامج الإخوان المسلمين وممارساتهم، حين وصلوا إلى الحكم في مصر وتونس. وواصل موقفه ضد الاستبداد والنهب بعدها. لم يرتم الرجل في حضن نظام أو يخفض صوته لأي اعتبارات، كتب في صحف مصر، الأهرام والشروق وغيرها، وأجرى حوارات متلفزة وصحافية، لم يغير فيها مواقفه المبدئية.

لا تفي هذه اللمحات هنا وهناك قدر سلامة كيلة، ولا يمكن أن تحيط بالجوانب، الإنساني والفكري والنضالي في شخصه، ولا تقديره شباب مصر وأهلها وقيمتها وتأثيرها، لكنها مقدمة لعلها تكتمل يوما ما لتقدم بعضا من تلك الجوانب المتعدّدة. حاولت أن أكتب بعيدا عما هو شخصي، على الرغم من أنه لا فصل بين العام والخاص في حياة سلامة كيلة، بوصفه إنسانا ومفكرا ومناضلا بالغ الأثر. ومن هنا، لم يكن مستغربا أن تكون القاهرة العاصمة العربية الأولى التي تقيم التأبين لسلامة، وتتبعها فاعليات الوفاء في الأردن ولبنان وفلسطين وفرنسا، وما زالت الترتيبات قائمة للوفاء للإنسان والمفكر والمناضل سلامة كيلة.