بلزاك..(سكرتير) التاريخ! والكوميديا (البرجوازية) بين الادب والسياسة (7)


ماجد الشمري
2018 / 10 / 11 - 20:31     

كان بلزاك نخبويا متعاليا في سلوكه وعلاقاته الاجتماعية،فقد كان يعامل الدهماء والعامة من الناس الفقراء بكل احتقار وترفع!.فهو لم يكن شعبويا حتى بالحد الادنى.فتبجيله واحترامه كان موجه للدوقات والكونتات والبارونات،من الارستقراطية الفرنسية رجالا ونساء.فكان معجبا جدا بنخبة الهرم الاجتماعي الفرنسي،نلمس ذلك بوضوح في رواية"حفلة سكو الساهرة"والتي تعد كترنيمة غنائية من المديح وتمجيد البرجوازية التجارية والمالية.ولكن على الضد من ذلك،والعكس تماما مانراه في رواية"عائلة مزدوجة"والتي تتسم بالصدق الواقعي،والترجمة الامينة والتعبير الشجاع الدقيق عن حقيقة الحياة الزوجية في الوسط البرجوازي،ولكنه ما ان ينتهي من ادانته واستنكاره لتلك الحياة،حتى نجده يتراجع ويسأل على لسان رجل الاعمال الذي يقول:"اليس من الخطأالتحزب للحب ضد برودة زيجة قانونية وزوجة مؤمنة؟".كما يضيف بلزاك الى ذلك ايضا وقائع صادمة وغير متوقعة تماما حين يجعل من ابناء مسيو جراندفيل غير الشرعيين مجرد مومسات واشرار!.بينما ترتمي امهم في احضان اول رجل تصادفه!.كان بلزاك يتصف بسمة غريبة وفي نفس الوقت طبيعية في حالته،الا وهي:الازدواجية والتناقض،ذاتيا وموضوعيا،مابين:البرجوازي غير الشريف،وبين مؤرخ البرجوازية غير الشريفة!.فهو على المستوى الذاتي وكبرجوازي،كان يطمح لان يكون غنيا مترفا،اسوة بطبقته وعلى غرارها،لكنه موضوعيا،وكمؤرخ لطبقته ومجتمعه البرجوازي،ملزما وملتزما بواقعية فظة في عريها،وتصويره لاساليب ووسائل ودوافع افراد تلك الطبقة وخسة مآربها للوصول الى الثروة مهما كان الثمن!.لذلك كان بلزاك غير مقتنع بمواهبه وملكاته الادبية كروائي،فهو مدرك جيدا بأن مايسرده في اعماله الادبية-الروائية معروف لديه،ومنذ زمن بعيد،ـوبكل حقائقه وحيثياته الموصولة، وتفاصيله الدقيقة،وليس من جديد.فهو لم يترعرع بأحضان الحماية والعناية الاسرية الدافئة والناعمة والآمنة كفكتور هيجو مثلا!او في ظل القمع والطغيان والجندية المنفر والكئيب كالفرد دي فيني!ولم يكن فتى القرن كالفرد دي موسيه!ولم يكن مثل جوستاف فلوبير البرجوازي المثالي كاره البرجوازية،ولم يكن حتى قريبامن ستندال الرومانسي مقدس النساء!.فبلزاك كان نسيج وحده،فقد ولد وسط بيئة برجوازية صغيرة من التجار وارباب العمل الصغار:فقد جاء والده الى باريس معدما من قريته البعيدة منتعلا حذاءا خشبيا،واصبح ثريا فجأة!.اما والدته فقد كانت من اسرة تجارية من برجوازية باريس الصغيرة.اما بلزاك نفسه،وكما قالت عنه احدى عشيقاته الكثيرات:كان بلزاك يؤمن بأن الذهب وحده هو الاله القادر على كل شيء!.وهذا مايؤمن به ويقرره كل برجوازي،وليس بلزاك وحده.فهذا هو قانون المال والثروة الذي خضع له الملوك والحكام،والامبراطوريات والممالك والجمهوريات.في"رسالة عن العمل"كتبها بلزاك عام1848-ولم تنشر الابعد نصف قرن!-لخص فيها بلزاك قانونه المالي الذهبي الثابت،هذه الحقيقة الحجرية الصلدة التي تخترق الازمنة بحكمها الصارم:"لاحاكم اقوى من المال"!.وليس سواه من حاكم مطلق يتحكم بالمجتمعات قديمها وحديثها.وبلزاك محقا في ماقاله-على الاقل في الفترة التي عاشها-وطيلة القرن والنصف الذي اعقب موت بلزاك ولازال هذا القانون مهيمنا على العالم.فجميع الثوريين هم طوباويون وحالمون!والديمقراطيون هم شخصيات ديماغوغية،خادعة ومنخدعة!وان جميع التعاليم والاعراف والوصايا الدينية والاخلاقية والسياسية هي هراء،ووسائل ايديولوجية لا اهمية لها ولاتأثير الا للسيطرة،وهي وسائط مستغلة بذكاء من ذوي النيات الوصولية،ونهازي الفرص،الانتهازيون،لتحقيق مآربهم ومصالحهم الشخصية الانانية والجشعة،وان جميع اشكال الحكم:يمينا ويسارا ووسطا،ستخضع حتما وتستسلم لتلك القوة الجبارة،كلية القدرة والنفوذ،الا وهي:المال..فقط المال ولاغيره.هذا مالمسه بلزاك، وشاهده على الطبيعة وفي الحياة الواقعية، وآمن به دون شك،وطيلة حياته..لايمكن اعتبار آراء بلزاك السياسية والدينية،وطروحاته ويقينياته الفردية بالملكية المطلقة،واللاهوت الكاثوليكي،كأفكار رجعية او محافظة في مضمونها الجوهري،اولا لانها لم تؤثر او تتبدى في نتاجه الادبي فتلوث واقعيته بمثاليته السياسية المنحازة.وثانيا لانها لم تكن فاعلة،ولم يحارب من اجلها او يروج لها،او يأخذها على محمل الجد.وثالثا لانها في جانب كبير منها،عكست بمرآوية ناصعة حقيقة وطبيعة قيم البرجوازية -طبقته الحبيبة!-الظافرة،وسيادة نمطها الانتاجي،واقتصادها الحيوي النامي،ومجتمعها المسعور في تنافسه وبحثه الصراعي والمستمر من اجل الربح والتراكم.كان هناك شرخا بين الهوى السياسي البلزاكي،وبين نتاجه الادبي،و جديته والتزامه في نقل الواقع بكل قبحه.هذا على الاقل ماعبر عنه بلزاك،وكان اصدق واقعيا مما بشرت به التعاونيات والاشتراكيات الطوباوية الحالمة بمجتمعات مساواتية خيالية بعيدة المنال والتحقق.هذه الفلسفة البرغماتية الاثيرة لدى بلزاك،لم تكن مؤثرة او مستحوذة على ذهنيته وتفكيره الفلسفي.فنحن وفي كثير من الاحيان نجده وهو يشيد بفوريه وسان سيمون وبيير ليرو!.واشرف السياسيين وانبلهم في"الكوميديا الانسانية"كانوا من ذوي العواطف والقلوب الانسانية الحرى،والاكثر اخلاقية وقيما،تؤمن بالعدالة الاجتماعية،والمزايا الايجابية للجمهورية.من المعروف عن بلزاك انه لم يكن يعير اهتماما او يقيم وزنا للافراد ومصيرهم،فكان يتطلع لطبقته مزهوا بظفرها النهائي،فالمجتمع البرجوازي كان مسيطرا ويخضع الجميع لنظامه وارادته ومنهجه.والوعي الثوري البرجوازي كان يحتضر،فقد ولت شعارات الثورة القرنسية واصبحت مجرد ماضي منسي!.والفكر البروليتاري الاشتراكي الثوري لم يكن ناضجا بمافيه الكفاية ليحتل مواقع متقدمة.كما ان وعي الفرد كان غائما ومبلبلا،وبوصلته الهادية كانت شبه معطلة او قلقة مابين:دعم البروليتاريا التي كانت في طور النمو،والانتقال من طبقة في ذاتها الى طبقة لذاتها،وكان مصيرها غامضا وسوداويا وهي غارقة في مستنقع البؤس والحرمان والاغتراب،ومفتقرة للترابط العضوي،وغياب التجانس بين افرادها،وتفاوت مستوى الوعي داخلها،تحت ظل عودة الملكية وملكية تموز.كانت الطبقة العاملة الفرنسية ترزح تحت ثقل الاستغلال والاضطهاد والقمع،فيوم العمل في معامل النسيج بين15و17ساعة في اليوم!.انخفض لاحقا في السنين التي ازدهرت فيها الرأسمالية،وكان معدل الاعمار للعمال بين25و30عام!.وفي عام1840 جرى تشغيل الاطفال في معامل النسيج،ولم تكن اعمارهم تتجاوز السابعة او السادسة!.وكانت الاضرابات وحركات التضامن والكفاح العمالي عرضة للبطش والتنكيل والتصفية والملاحقة والاعتقال،وحتى الصحف كانت صفراء ومنحازة لارباب العمل والمال.وقد كتبت احدى تلك الصحف تصف اضراب عمال النجارة عام1840 بأنه عبارة عن"دسائس خارجية"تجعل من العمال وسائلها!.اما الصحف المستقلة فكانت اصدق في وصف حالة العمال ومعاناتهم،فكتبت واحدة منها تقول عن اضراب عمال النسيج الحريري في ليون،الذين قرروا"ان يعيشوا من عملهم او يموتوا في النضال".لقد كان السادة انفسهم يطلقون النار على العمال-عبيدهم- وكانوا يموتون برصاص(الحرس الوطني)والذي ليس صدفة ان غالبيته من التجار وتابعيهم!..
..............................................................................
يتبع.
وعلى الاخاء نلتقي...