في رحيل المفكر العربي الكبير سمير أمين - سيرة فكرية لمثقف عضوي ظل في خدمة المضطهَدين ..


أحمد زوبدي
2018 / 10 / 5 - 09:42     

ودعنا يوم 12 غشت لهذه السنة المفكر العربي الكبير الدكتور سمير أمين عن سن ناهز 87 عاما. رحيل هذا العالم الاقتصادي العالمثالثي والأممي من العيار الكبير يعتبر خسارة كبرى لكل التقدميين ولكل أحرار العالم وبالخصوص شعوب دول الجنوب التي ناضل الراحل من أجل حريتها وتقدمها.
)نشر هذا المقال بجريدة المساء ليومي 18 و19 غشت 2018).
ينتمي سمير أمين إلى مدرسة التبعية والتخلف والإمبريالية، وهو واحد من أكبر روادها إلى جانب بول سويزي Paul Sweezy و بول بارون Paul Baran و أندري غوندر فرانك André Gunder Frank و جوفاني أريغي Giovanni Arrighi و إيمانويل فالارشتاين Immanuel Wallerstein وآخرين.أُطلِق على أعمال هؤلاء الماركسيين المتنورين الضخمة بأعمال إيركول Travaux d Hercule) ) لأنها كانت تنافس بل تفوق و تتفوق على أعمال الليبراليين وبالأخص المتشددين منهم الذين مهدوا للنيوليبرالية التي تزحف في اتجاه الأوردوليبرالية حيث يتم القضاء على الدولة والمؤسسات الموازية لها وتسود الأوليغارشيات.
انتقد سمير أمين بشدة مفهوم التنمية الرأسمالية في دول الجنوب، الذي كان يروج له في الأوساط الأكاديمية بخطاباتها المبتذلة وفي المؤسسات المالية والبنكية والتجارية الدولية المهيمنة وعلى رأسها مؤسسات بروتن وودز، في أطروحته للدكتوراه في 1957 في جامعة السوربون تحت إشراف عالمين متنورين شهيرين في الاقتصاد هما فرانسوا بيرو François Perroux و موريس بيي Maurice Byé وهو لا يتجاوز سن الخامسة والعشرين. بعد 13سنة، أي في 1970 ، نشر سمير أمين هذه الأطروحة التي طورها إلى نظرية أي "نظرية المركز والأطراف" (Théorie du centre et des périphéries) في كتابه الرئيسي " التراكم على الصعيد العالمي" (590 صفحة من الحجم الكبير) والتي فسر من خلالها أن التنمية والتخلف وجهان لعملة واحدة وبالتالي فاللحاق بالنسبة لدول المحيط، على خلاف إيديولوجيي الرأسمالية وعلى رأسهم الإقتصادي الشهير روستوف Rostow ، غير ممكن لأن طبيعة الرأسمالية توسعية و استقطابية، وهو ما ينتج عنه تبادل وتطور غير متكافئان بين المركز والأطراف ( راجع كتابي سمير أمين" التبادل غير المتكافىء وقانون القيمة" ،1973 و " التطور غير المتكافىء"،1973 ). استفحل وضع دول الجنوب مع تكريس الإمبريالية العالمية هيمنتها عبر احتكارات القلة المعولمة وأصبحت هذه الدول فريسة حروب مدمرة في كل الاتجاهات من أجل مبدأ التراكم المقدس أي كما يقول كارل ماركس: " راكموا، راكموا، فتم القانون والأنبياء "( راجع سمير أمين" الفيروس الليبرالي"، 2003).
يرى سمير أمين أن اللحاق ( rattrapage) بالنسبة لدول الهامش في ظل الرأسمالية القائمة بالفعل، كما يزعم ذلك منظرو الليبرالية المعطوبة، ينبني على نموذج تنموي مبتورو وأن البديل هو فك ارتباط هذه الدول مع دول المركز الإمبريالي (راجع " فك الارتباط " لسمير أمين، 1986). فك الارتباط لا يعني العزلة، كما تعتقد القراءات المشوهة لكتابات سمير أمين، بل توظيف العوامل الخارجية المتحكمة في التنمية المبتورة والتي ترعاها الإمبريالية لصالح تنمية ممركزة على الذات. في ما يخص الدول الصاعدة المعروفة بالبريكس(BRICS) ، يرى سمير أمين أنه على الرغم من أن هذه الدول قد حققت معدلات نمو مرتفعة ودائمة مكنتها من التصنيع إلا أنها لم تتمكن من القضاء على أحزمة الفقر والتهميش لأنها عجزت عن فك الارتباط مع الاستقطاب والتوسع اللذين تفرضهما الدول الإمبريالية. صنف أمين هذه الدول، قبل أن يظهر مفهوم الصعود، على أنها أنصاف أطراف ( semi-périphéries ) وبالتالي فهي لن تمشي أبعد مما وصلت إليه اليوم. أما الصين, يعتقد سمير أمين, فإنها تمكنت من فك الارتباط في مرحلة بناء الإشتراكية كسيرورة ثورية، واليوم، هذا البلد الذي وظف تكتيكيا مفهوم السوق، في ظل اشتراكية السوق وليس رأسمالية السوق الاجتماعية، هذا المفهوم المزيف، قد أفلح ( أي الصين) في تحقيق الكثير من المكاسب الإستراتيجية كقوة عظمى عالميا. يبقى الآن، لمواجهة الثالوث ( الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد الأوربي، اليابان) تكثيف الجهود بين هذه الدول ( أي البريكس ) ودول أخرى من الأطراف.
بعد هذه الرحلة الفكرية الحاسمة في مسيرة سمير أمين المعرفية، التي ركز فيها على سيطرة الاقتصاد في ظل الرأسمالية القائمة بالفعل (مقارنة مع أنماط الإنتاج الخراجية السابقة على الرأسمالية التي سيطر فيها القانون والسياسة) أي سيطرة "قانون القيمة المعولم" (وهو عنوان مؤلف سمير أمين، 2011)، دخل حسن رياض ( وهو الاسم المستعار لسمير أمين، الذي يرافق الكثير من كتاباته منها "مصر الناصرية"،1964) مرحلة جديدة ربط فيها بين التأليف والبحث والممارسة وتكثيف الاحتكاك بالواقع أكثر والعمل على تغيير الأوضاع من خلال تعبئة الحركات الاجتماعية والشباب والتنسيق مع مختلف فئات المثقفين والفنانين والمناضلين المستقلين وليست الأحزاب والنقابات التي شاخت وانتهت ( راجع سمير أمين "الاضطراب الكبير : الحركات الإجتماعية في الاقتصاد-العالم"، مؤلف جماعي مع أندري غوندر فرانك وجوفاني أريغي و إيمانويل فالارشتاين، 1991). من هذه الزاوية، يكون سمير أمين قد بدأ بما انتهى به كارل ماركس وانتهى بما بدأ به صاحب " البيان الشيوعي " و "رأس المال " أي أن ماركس انتهى بالاقتصاد وبدأ بالسياسة في حين أن صاحب "التراكم على الصعيد العالمي" و "نقد التمركز الأوربي"، 1988 ، قد بدأ بالاقتصاد وأنهى مسيرته الفكرية بالسياسة على أنه عند الرجلين لم يكن الاقتصاد والسياسة في صورتيهما الخالصتين بل ربط الإثنين عضويا كونهما يتفاعلان ويتأثران ببعضهما البعض في حركة جدلية مع عوامل أخرى لا تقل أهمية بل لها نفس الوزن في تغيير الأوضاع، يتعلق الأمر هنا بالأيديولوجية والقانون والثقافة ( راجع سمير أمين " نحو نظرية للثقافة"، 1994).مع الإشارة هنا أن سمير أمين قد انتقد بشكل مستفيض حركات الإسلام السياسي والحركات الدينية بشكل عام واعتبرها شكلا من أشكال التمركز الأوربي لكن في صيغة تمركز معكوس (انظر أمين "الحداثة، الدين، الديموقراطية"،2007، و" في نقد الخطاب العربي الراهن"، 2015).
لم يكن سمير أمين ذلك المثقف الذي يعيش في برجه العاجي في عزلة عما يجري حوله مكتفيا بنقش الأفكار والمفاهيم على دفاتره من أجل التسلية لكن كان ذلك المثقف العضوي المستقل وليس الحزبي الذي يقوم باختبار النظريات التي ينحثها من خلال قراءة ذكية للواقع عبر إعداد النماذج والبرامج الاقتصادية القابلة للتطبيق التي تتكلف بإعدادها فرق بحث متعددة الاختصاصات مكونة من أفضل الخبراء في شتى المجالات وعلماء الاقتصاد السياسي و علماء السياسة وعلماء الإجتماع المدافعين عن قضايا الشعوب المستغَلة والذين يشتغلون في أرقى المعاهد والمنتديات (راجع أدناه)، التي كان يشرف عليها اقتصادي العالم الثالث، الراحل سمير أمين.هذه الأعمال البحثية التي تقرأ الواقع بما فيها لغة الأرقام كانت تسعف، هذا الإقتصادي الكبير الذي اختار معالجة القضايا الكبرى، لمتابعة جدلية النظرية والممارسة : فبعد حصول سمير أمين على شهادة الدكتوراه ودبلوم عالي في الإحصاء والرياضيات الإقتصادية (وهو المتخرج بتفوق من الأقسام التحضيرية في الرياضيات العليا من الليسي الرفيع المستوى، ليسي هنري لوكران بباريس) فضلا عن حصوله على دبلوم معهد الدراسات السياسية لباريس والتبريز في الإقتصاد، التحق بالمؤسسة الاقتصادية بمصر العربية في 1957 كخبير ومعد برامج اقتصادية و تنموية، كما عمل مستشارا لدى العديد من الحكومات الإشتراكية بدول إفريقية. في 1970، أصبح سمير أمين مديرا لمعهد التنمية الاقتصادية والتخطيط IDEP))، التابع لمنظمة الأمم المتحدة، بداكار بالسنغال حتى سنة 1980. تخلى أمين عن إدارة هذا المعهد وأنشأ منتدى العالم الثالثFTM)) بنفس المدينة ( أي داكار)، الذي اشتغل به بشكل مكثف مع ثلة من الخبراء والعلماء وبقي رئيسا له حتى رحيله، فضلا عن مساهمته بشكل بارز في عدة مؤسسات دولية و جهوية كمجلس تنمية بحوث العلوم الإجتماعية في إفريقيا المعروف بالكودسريا (CODESRIA) . لم يكتف سمير أمين بهذه الإسهامات الكبيرة بل كان يشارك باستمرار وبكثافة في جمعيات ومنتديات دولية و جهوية أخرى كالمنتدى العالمي للبدائل الذي كان من مؤسسيه وكان يرأسه والمنتدى الإجتماعي العالمي (هذا المنتدى الذي انتهى مع كامل الأسف بسبب اختراقه من طرف اللصوص ) الذي كان من مؤسسيه كذلك، التي تسعى إلى تعبئة الشعوب ومنها على وجه الخصوص شعوب دول الجنوب وتوعيتها على أنها مدعوة لتكون جبهة أممية مناهضة للأنظمة المستبدة والدول الإمبريالية، هذه الأخيرة التي توظف على المستوى الاقتصادي احتكارات القلة المعولمة التي تؤمن أربعة أخماس من ثروة المعمور لصالح الإمبريالية الجماعية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية.
بموازاة هذه المشاريع الفكرية الضخمة والشاقة في نفس الوقت، انكب سمير أمين على العمل في مشروع بحثي معقد للغاية والذي تتفاداه المدارس الأكاديمية الليبرالية والمدارس التي تصنف نفسها يسارا. يتعلق الأمر بإعادة النقاش من جديد في جدلية الثقافي والسياسي لتطوير منهج المادية التاريخية مؤكدا في هذا الباب أن المعضلة الكبيرة في الحضارة الإنسانية الراهنة هي هيمنة الثقافة الرأسمالية التي أدت إلى إخضاع كل شيء إلى قانون القيمة المعولم أي عالم البضاعة من خلال تسليع كل مجالات حياة البشر ولو أدى ذلك إلى إبادة الشعوب لضمان استمرار التراكم الرأسمالي وتركيز الثروة في يد مجموعات قليلة من سكان العالم على حساب الأغلبية الساحقة. للخروج من هذا المأزق، يدعو سمير أمين إلى العمل على إخضاع السياسة للثقافة عوض إخضاعها للاقتصاد أي إحلال هيمنة الثقافة محل هيمنة الإقتصاد. مما يستدعي، يقول أمين، ضرورة اضمحلال قانون القيمة على المدى البعيد في أفق الانتقال إلى الإشتراكية، وهي طوباوية اليوم، يقول سمير أمين، التي تصبح غدا واقعية (راجع سمير أمين " نقد روح العصر"، 1997 و" الأممية الخامسة" ، 2006 و "ثورة أكتوبر المجيدة"،2017). لكن تحويل الطوباوية إلى واقعية يجب أن يرافقه، يقول صاحب نظرية "المركز والأطراف" العمل على مناهضة كل أشكال الظلم والاستغلال والانتهازية والانحراف بدءا بمناهضة الرأسمالية الأوليغارشية التي تحولت إلى بربرية دون حدود ومناهضة الأنظمة الاستبدادية.
سمير أمين، مدرسة فكرية في الاقتصاد السياسي أي دراسة الإقتصاد في كل تجلياته في ظل الرأسمالية القائمة بالفعل أي نمط إنتاج روح العصر. قام سمير أمين، كما فعل كارل ماركس، بقراءة الواقع من خلال تفكيك الاقتصاد الذي تلتقي عنده كل الأنشطة الاجتماعية الأخرى ( السياسة، القانون، الإيديولوجية، الدين، الثقافة، إلخ). للأسف الشديد، تعتقد الكثير من القراءات السطحية للماركسية أن قراءة الواقع من هذه الزاوية هي قراءة اقتصادوية (lecture économiciste) أي إخضاع كل مناحي الحياة البشرية للاقتصاد. هذا موضوع قد أسال الكثير من المداد وقتها. دراسة الاقتصاد السياسي، كما يراه سمير أمين، يخضع لمنهج المادية التاريخية، يكون الاقتصاد في ظل الرأسمالية القائمة بالفعل، وليس في ظل أي نظام اجتماعي آخر، مرآة لمعرفة الأنشطة الأخرى للمجتمع (السياسة، القانون، الثقافة، إلخ) أي كيف تمارس هذه الجوانب من خلال الإقتصاد في مجال دفاع الأشخاص والجماعات عن مصالحها. ساهم سمير أمين بهذه المشاريع الفكرية والسياسية الكبيرة لأجل العدالة والحرية والتحرر. أكيد أنها مشاريع المستقبل التي حققت الكثير من المكاسب، لكن يلزم على الأحرار صيانة هذه المشاريع المجتمعية وتطويرها في أفق أن يسود المجتمع المنشود.
سمير أمين لعب دور المثقف الرسولي من أجل فهم الواقع والعمل على تغييره، كما عبر عن ذلك كارل ماركس. وقد نجح هذا المفكر الأممي الكبير ببراعة فائقة في هذه المهمة الشاقة والصعبة في النظرية والممارسة.

يعتبر سمير أمين من المفكرين القلائل الذين بقوا صامدين أمام بؤس السياسة والفكر. لقد فطن اقتصادي الجنوب ببراعة فائقة إلى سخرية ومكر التاريخ وتنبأ باكرا بمستقبل المشاريع المجتمعية التحررية الكبرى التي رأت النور في القرن العشرين سواء تعلق الأمر بالتجارب الاشتراكية بمختلف مشاربها أو مجتمع دولة الرفاه في الغرب أو مشاريع التنمية والتحرر التي قادتها حركات التحرر الوطني في دول الجنوب، تنبأ أمين بالصعوبات التي وقفت في وجه هذه المشاريع، مما جعلها لم تحقق أهدافها لأن البنيات التي على أساسها قامت هذه المشاريع المجتمعية لم تكن في مستوى بناء قيم العدالة والحرية والتحرر.