التحولات السياسية في الانتخابات السويدية


خالد صبيح
2018 / 9 / 30 - 21:39     


كانت الانتخابات العامة في السويد هذا العام هي الانتخابات الثالثة بعد التحول النوعي في واقع السياسة والمجتمع السويديين الذي دشنه نجاح حزب عنصري بجذور نازية، (ديمقراطيو السويد) للوصول الى البرلمان لاول مرة في عام 2010، عبر صفقات انتهازية مهدت له طريق صعوده الذي تواصل وسجل نموا بارزا في الانتخابات اللاحقة، مادفع الاحزاب السياسية، اليسارية منها على وجه الخصوص، (الحزب الاشتراكي وحزب اليسار) ان تركز في اطروحاتها الانتخابية والسياسية في انتخابات هذا العام، بالاضافة الى برنامجها الاقتصادي والاجتماعي، على الدفاع عن قيم الديمقراطية والمساواة والعدالة ونبذ الكراهية والفصل الاجتماعي والعنصرية التي يشكل الخطاب الذي يروج له هذا الحزب والجو النفسي الذي يشيعه حضوره في المشهد السياسي تهديدا حقيقيا لها.

بدا صعود هذا الحزب العنصري في الحياة السياسية كالصاعق الذي فجر موجة يمينية شعبوية لم تشهد لها السويد مثيلا. ومع ان ظاهرة صعود تيارات اليمين الشعبوي ظاهرة عالمية (العالم كله يتجه نحو اليمين عدا بؤر صغيرة معزولة) الا انها في السويد شكلت تحديا خاصا لما لهذا البلد من تقاليد راسخة في التسامح والديمقراطية الحقيقية المبنية على العدالة الاجتماعية والمساواة.

ومن بين أهم تبعات صعود هذا الحزب أن معادلة توزع القوى السياسية في كتل، التي شكلت ميسم الحياة السياسية منذ عقود، قد اخذت تتصدع. فقد تشكلت الحياة الحزبية والسياسية في السويد لعقود طويلة وفق معادلة وجود كتلتين رئيسيتين هما كتلة اليسار او (الحمراء - الخضراء) ( وتضم: الاشتراكي الديمقراطي وحزب اليسار (الشيوعي) وحزب البيئة) مقابل كتلة التحالف اليميني البرجوازي. ( وتضم : المحافظون، حزب الوسط (الفلاحين سابقا) والليبراليون ( حزب الشعب سابقا) والمسيحي الديمقراطي). وحدث ان اضطرت الكتلتان لعقد اتفاق فيما بينها في انتخابات 2014، بعد فوز كتلة اليسار، دون ان تستطيع تحقيق اغلبية مريحة تمكنها من تشكيل الحكومة، سمي (اتفاق ديسمبر) عُمل بموجبه ببرنامج احزاب اليمين لفترة زمنية محددة، وذلك لمنع الحزب العنصري من لعب دور في الحياة السياسية ومن التاثير في قرارات الحكومة. وقد تسبب هذا الاتفاق لاحزاب اليمين، كما ادعى (المحافظون والديمقراطي المسيحي) في تسرب ناخبيهم وتحولهم الى احضان الحزب العنصري.

( هكذا هو الامر دائما: حين يغازل اليمين التقليدي الاحزاب الفاشية ويتملقها بدوافع انتهازية نفعية للحفاظ على رصيده الانتخابي يخسر ناخبيه اكثر و اكثر لان الناخبين حينها يفضلون الاصل (الفاشي) على التقليد).

تاريخيا عرفت احزاب اليمين بمهادنتها ومحاباتها للاحزاب الفاشية والنازية في مواجهة اليسار، وشكلت قواعدها الحزبية والانتخابية رصيدا متحولا للفاشيين، وهكذا كان الامر في السويد، فقد أبدت زعيمة حزب المحافظين (آنا باترا) في مطلع عام 2017 استعدادها للتعاون مع الحزب العنصري بذريعة ضرورة الحوار والانفتاح والتعامل مع جميع الاحزاب السياسية في البرلمان، كما تقضي التقاليد الديمقراطية، وقد كلفها هذا الموقف موقعها، اذ قدمت استقالتها بعد تزايد الانتقادات وردود الفعل من داخل الحزب على مقترحها، وبعد تراجع رصيد حزبها الانتخابي في استطلاعات الراي. لكن (باترا) لم تتقدم باقتراحها هذا من فراغ. ففي وسط حزبها وكذلك الحزب الديمقراطي المسيحي ميول يمينية صريحة تدفع باتجاه الحوار والتعاون مع العنصريين. وقد جاء زعيم المحافظين الجديد، (اولف كريسترسون)، ليقود عملية التحول في الموقف بطريقة ديماغوجية وبتلاعبات سياسية من أجل أن يرضي جميع الميول داخل حزبه، لكنه اضطر، لكي يستعيد بعض الأصوات المتسربة من حزبه، ولكي يحافظ على تماسك تحالف اليمين، للتصريح أن حزبه لن يتعاون مع (ديمقراطيو السويد)، لكنه في الواقع ايد بطرق مختلفة الكثير من طروحات ومواقف العنصريين مادفعهم للتفكير بتشكيل حكومة مشتركة من حزبهم مع المسيحي الديمقراطي والمحافظين لانهم يشكلون ( كتلة محافظة متوازنة) بحسب تعبير زعيمهم ييمي اوكيسون.

توحي بعض المعطيات أن الحزبين اليمينيين، المحافظون والمسيحييون الديمقراطيون، يعيشان مازق داخلي، فهناك مايشبه الانقسام في الموقف من مسألة التعاون مع الحزب العنصري (ديمقراطيو السويد) وقيادة الحزب لاتريد ان تفرط بأي من طرفي النزاع لاسيما في عام الانتخابات، لهذا اضطرتا لمجاراة الخط العام في حزبيهما وفي التحالف الذي يضم الى جانبهما حزبي الوسط واللبراليين، باعلان رفضهما التعاون، لاسيما وان اللبراليين وحزب الوسط كانا متشددين في مسالة رفض التعاون مع العنصريين، وتجدر الاشارة هنا ان لحزب اللبراليين دافع اخر، عدا منطلقاته الايدلوجية والسياسية اللبرالية، لرفض هذا التعاون، يتعلق بخلفية الحزب الصهيونية، فاللبراليون حزب يتبنى كل اطروحات (اسرائيل) وتلفيقاتها ويدافع عنها، عدا أن هناك يهود كثر بين اعضائه وناخبيه، والعنصريون لايعتبرون اليهود سويديين، وهذه مسألة تثير حفيظة هذا الحزب كما تثير حفيظة كل ديمقراطيي المجتمع السويدي. وهكذا، ما ان انتهت الانتخابات حتى صرح مسؤولان كبيران لحزب المحافظين في مقاطعة سكونة، جنوب البلاد، (وهي معقل للفاشيين والعنصريين من عقود، وقد حقق العنصريون فيها أعلى نسبهم من الأصوات) بأنهما على استعداد للتعاون مع ديمقراطيي السويد في مقاطعتهما. وكذلك لم تتاخر زعيمة حزب المسيحيين الديمقراطيين باعلانها ضرورة تشكيل الحكومة من كتلة التحالف (اليميني) حتى وان كان ذلك بدعم من ديمقراطيي السويد.

في الحقيقة هناك مايثير الريبة وبعض العجب في دوافع المسيحيين الديمقراطيين للتعاون والانفتاح على الحزب العنصري. ففي حين ترفض الكنيسة السويدية التعامل مع ديمقراطيي السويد وتصفهم صراحة بالعنصريين، فيما تدعوا هي الى المساواة بين البشر، يميل هذا الحزب نحو اليمين والعنصرية في توجهاته رغم أنه يدعي تمثيل القيم المسيحية، الاجتماعية والروحية، وقد حصل على هذا الاساس دعما انتخابيا كبيرا من اللاجئين من ابناء الديانة المسيحية. وقد عبر هذا الحزب بشكل واضح عن ميوله الانتهازية حينما اعلنت زعيمة حزب المحافظين المستقيلة (باترا)، صاحبة مبادرة التعاون مع العنصريين عن مبادرتها، حينما تهافتت عندها زعيمة المسيحيين لاتباع خطواتها. عمليا كلف هذا الموقف الحزبين الكثير وتراجعت حظوظهما الانتخابية في استطلاعات الرأي، لكن حزب المحافظين بتغيير قيادته وتكتيكاته استعاد بعض أصواته ومكانته التي لها جذر تاريخي في السياسة السويدية، لكن استعادة المسيحيين الديمقراطيين لاصوات ناخبيهم وبما يفوق التوقع تثير (لدي على الاقل) بعض الشكوك في احتمال وجود نوع من التفاهم، إن لم يكن صفقة، مع ديمقراطيي السويد للتعاون والدعم المتبادل. فهناك ما يعرف في السياسة السويدية بالتصويت التكتيكي، اذ يتنازل احد الاحزاب عن حصة من مصوتيه بدفعهم للتصويت لحزب حليف له من اجل انقاذه وإبقائه داخل البرلمان إن تعرض لخطر عدم تحقيقه نسبة التصويت الضرورية للوصول الى البرلمان، وهذا ماحصل مع حزب البيئة في انتخابات هذا العام، اذ حصل على دعم الحزب الاشتراكي وكانت 20 % من اصواته الانتخابية هي اصوات دعم خارجي، وليس من المستبعد ان ذات الامر قد حصل مع المسيحيين الديمقراطيين، فقد تراجعت نسب هذا الحزب في استطلاعات الراي لما دون نسبة البقاء في البرلمان،(4%) لكنه استعاد بسرعة هائلة اصواته الانتخابية وحقق نسبة تصويت عالية بلغت (6,32) فيما تراجعت قليلا نسبة ديمقارطيو السويد عما كانت عليه في استطلاعات الراي. وسلوك زعيمة المسيحيين الديمقراطيين المتقلب بعد الانتخابات يشي بما يوحي بمثل هذا الافتراض.

من يدري، قد تكشف الايام خفايا هذا الأمر إن كان فيه حقا ما يريب.

والآن، تواجه القوى السياسية مشكلة تشكيل الحكومة. فبعد أن تواطأ اليمين مع عنصريي السويد لإسقاط حكومة الاشتراكي ( ستيفان لوفين) رغم حصول تحالفه على اغلبية بسيطة 144 مقابل 143 لليمين. وتم انتخاب رئيسا للبرلمان من حزب المحافظين بدعم من (ديمقراطيو السويد)، تمهيدا لتشكيل حكومة يمينية، لكن حظوظ هكذا حكومة تبدو صعبة، فقد بدأ رئيس البرلمان لقاءاته ومداولاته مع زعماء الاحزاب البرلمانية، لكن الامور ليست واضحة بعد ويكتنفها الكثير من الصعاب مايفتح الباب امام احتمال اعادة الانتخابات في حال فشل البرلمان، بحسب القانون، بالتصويت على اربع اقتراحات من رئيس البرلمان لتسمية رئيس للحكومة. وإعادة الانتخابات امر غير محبذ لأنه يفقد السياسيين السويديين ثقة الجمهور بهم كسياسيين اذكياء وكفوئين، كما يوصفون، قادرين على ابتكار حلولا ناجحة لاشكالات البلد السياسية.

ومن بين الاقتراحات والتوقعات لتشكيل الحكومة هو امكانية التقارب بين احزاب اليمين واليسار، من بينها حكومة تجمع حزبي الاشتراكي والبيئة والوسط واللبراليين الذين يجمعهم الاتفاق على ابعاد الحزب العنصري، لكن ايضا على ابعاد حزب اليسار الذي لا يريده اي من احزاب اليمين كشرط لأي تعاون محتمل مع تحالف اليسار (الاشتراكي والبيئة). وعلى العموم كان مكان حزب اليسار ودوره على الدوام موضع مساومة من قبل الحزب الاشتراكي منذ حكومة (يوران بيرشون) 1996-2006 حينما كان اليسار يحصل على نسب تصويت عالية بلغت اكثر من 10%، ورغم ذلك لم تشركه اي حكومة اشتراكية في الحكومة، ويكتفون عادة، مقابل تحالفه معهم ودعمه لهم في البرلمان، بتنفيذ بعض مطاليبه في سياستهم الاجتماعية والاقتصادية كمجانية العلاج والدواء لعض المسنين وللاطفال حتى سن 18، الذي طبق في السنوات الاخيرة، على سبيل المثال.

اذن فاحتمالات التقارب بين اليمين واليسار باتت اكثر واقعية وفق الواقع الجديد الذي افرزته الانتخابات والذي تخطى حدود الكتل القديم، و ايضا بعدما اعلن حزب (ديمقراطيو السويد) عدم تأييده لحكومة يمينية، رغم ترحيبه بها بعيد الانتخابات، مالم تضمن برنامجها الحكومي بعض سياساته وبالذات مايتعلق منها بسياسة الهجرة.

لهذا كله فالطريق مفتوحة الان للمساومات، لكن لا أحد يمكنه أن يجزم بامكانية إيجاد حلول مبتكرة تعالج الواقع المرتبك وتمنع تدهوره وتحوله الى أزمة سياسية ستكون بالضرورة تمهيدا لازمة اجتماعية تزداد اقترابا.