أمّ المجازر: الحرب القذرة


سلام عبود
2018 / 9 / 30 - 13:19     

لا يوجد تعبير ينطبق على حرب اليمن أكثر دقـّة من تعبير "أمّ المجازر".
والمجازر هنا لا تنحصر في هلاك البشر حسب، بل تشمل حتّى "استهداف" المقابر والأضرحة والمستشفيات والمدارس والأسواق والملاعب الرياضيّة والآبار وصوامع الحبوب، بما فيها مخازن الغلال التابعة للأمم المتـّحدة، وتشمل الأعراس والمآئم، والصغار والكبار، من دون رحمة، ومن دون هدف عسكريّ مباشر. أعمال "الاستهداف" ما انفكت تتوالى كما لو أنّها تصريح دوليّ بالقتل العلنيّ المشروع. قوّة التدمير وهمجيته في هذه الحرب تكتسب خصوصيّة مميّزة جدّاً، جعلتها تنتج صيغها التعبيريّة المحلـّيّة الخاصة بها، المستقاة من تعابير "قد ترقى" و"العنف المفرط" العالميّة، ولكن بصياغات جديدة، نابعة من طبيعة الحرب المهملة عالميّا. أبرز هذه العبارات: "الاستهداف (القتل) وفق المعايير الدوليّة"، والقتل "على ضوء المقاييس المعمول بها إنسانيّا"، و"مشروعيّة الهدف العسكريّ"، وغيرها من صيغ القتل المجانيّ. لقد أنشأت هذه الحرب قاموسا حربيّا خاصا، أبدلت فيه لغة جديدة مستقاة من طبيعة الحرب الإجراميّة باللغة القاموسيّة المتعارف عليها. القتل يسمى "استهداف"، والمجزرة تسمى "خطأ في التوقيت"، وتدمير المدن يسمى " أخطاء جانبيّة". إنّ الطبيعة الانتقاميّة لحرب اليمن، والصمت الدوليّ المحيط بها، جعلها تكون حرب المجازر الشرعيّة.
لقد كرّرت قوات ما يعرف بـ"التحالف العربي" الغازية "أخطاءها" الحربيّة حينما قصفت قاعة عزاء في صنعاء في الثامن من تشرين الأوّل 2016 وأنكرت فعل ذلك. وقد تسلسلت حججها الإنكاريّة على النحو التالي، كما أعلنتها قنوات العربيّة والجزيرة: 1- انكار قيام الطيران بطلعات جويّة في ذلك اليوم. 2- التفجير تصفية حسابات داخليّة بين أطراف الإنقلابيين. 3- المفجّر انتحاريّ يرتدي حزاما ناسفا، على الرغم من أنّ القذيفة نزلت من السقف. والطريف في الخبر أنّ الانتحاريّ المختلق له اسم وكنية ويحمل بطاقة شخصيّة: "أبو حذيفة الصنعانيّ"، يعرفها السعوديون وحدهم وتجهلها سلطات الأمن في صنعاء. 4- في نهاية المعركة الإعلاميّة تراجعت صيغ التبريرات تحت ضغط الأدلـّة الدامغة، واضطرت القوى المعتدية الى الاعتراف بأنّها تلقـّت معلومات خاطئة من حلفائها اليمنيين. 5- ثمّ أخيراً جرى الاعتراف بأنّ ما حدث تمّ وفق قواعد الاشتباك المنصوص عليها دوليّا!
لكنّ المتتبع لـ (قناة الجزيرة)، في مرحلة انخراط دولة قطر في التحالف السعوديّ الغازي، يعثر على الخيط الرئيس المسبب للمجزرة في مكان آخر، بعيد عن أرض المعركة. فلم تكن المجزرة عملية قتل جماعيّة خالصة حسب، بل كانت أيضا ساعة صفر سياسيّة، رسمت في الخارج، على ضوء أخيلة وأوهام الغزاة. ففي مساء السابع من تشرين الأوّل، أي قبل ساعات من المجزرة، دعت (قناة الجزيرة) سكان صنعاء للنزول الى الشوارع لحسم المعركة. قال النداء الذي بثـّته (قناة الجزيرة):إنّ السلطات في صنعاء مصابة بالذعر وهي تواجه نداء "أنا نازل"، الذي يعمّ "الآن" أرجاء المدينة، والذي يؤكـّد على أنّ المعركة ضد تحالف المخلوع صالح والحوثيين، قد حسمت من قبل الشعب".
المعلومات التي حصلت عليها قيادة القوّات المعتدية، عبر عناصر التجسّس في الداخل، تؤكـّد وجود أكبر عدد من القيادات السياسيّة والعسكريّة العليا في المأتم، وأن استثمار قتلهم يمنح أنصار السعوديّة في صنعاء فرصة جيّدة للتحرّك العلنيّ. وتؤكـّد المصادر اليمنيّة في صنعاء وجود ما يقرب من ثلاثة آلاف معز متوقع، في محيط مجلس العزاء لحظة وقوع القصف، بينهم عدد كبير من العسكريين والقياديين.
عملية ربط الحدثين ببعضهما تشي بما يلي: الطائرات المغيرة تقصف من الجوّ، وجماعات "أنا نازل" تسارع الى الشوارع تأييداً للقصف، وتحدّيا للسلطة في صنعاء، منتزعين القوّة والمبادرة من يدها.
بيد أنّ صنعاء شهدت أعظم نزول شعبيّ الى الشوارع في تاريخها. فعلى الرغم من القصف الجوّيّ نزل مئات الآلاف يندّدون بالمجزرة، ويتوعدون مرتكبيها، متوحدين تحت هتاف واحد :"الموت لآل سعود".
وفي 22 نيسان 2018 عادت هذه القوّات لتقصف حفل زفاف في حجة هذه المرّة. وعلى الرغم من إدانة الأمين العام للأمم المتّحدة المجزرة، كما صرّح ستيفان دوجاريك، الناطق باسم الأمين العام، إلا أنّ الإعلام المتحزّب للضربة الجوّيّة واصل تبرير الفعل، وأصرّ على صفته الشرعيّة والقانونيّة، باعتباره إجراءً مقبولاً في الأعراف الحربيّة الدوليّة.
في التاسع من أب 2018 قام الطيران السعوديّ بقصف حافلة نقل للأطفال في منطقة ضحيان في صعدة، فقتل وجرح عشرات الأطفال، يضاف اليهم عشرات آخرون من المدنيين. العقيد الركن تركي المالكي،الناطقُ العسكريّ باسم التحالف السعوديّ الإماراتيّ، لم يتردّد هذه المرّة كثيرا، فأعلن رسميّا تبني "قوّات التحالف العربي" القصف، الذي تمّ "طبقا للقواعد والمواثيق الدوليّة". وطبقا للمواثيق والمبادئ الدوليّة ذاتها،عاشت مدينة الحديّدة مجزرة يوم الخميس الثاني من آب 2018، عقب فشل القوات الغازية في اقتحام المدينة، كما وعد الوزير الإماراتيّ أنور قرقاش. كانت حصيلة القصف، كما نقلتها وكالة الشرق الأوسط :" قـُتل عشرون شخصاً على الأقل وأصيب عشرات الخميس في غارتين استهدفتا سوق السمك والبوابة الرئيسيّة لمستشفى الثورة". ويتضح من سياق القصف الجوّيّ الجنونيّ الطابع الانتقاميّ للأعمال العسكريّة. فعند كلّ إخفاق في تحقيق نصر عسكريّ موعود، وعقب كلّ زيارة يقوم بها هادي الى الجنوب لشراء أعداد جديدة من المقاتلين، يتصاعد الأذى الذي تلحقه القوّات الغازية بالمواطنين:
" قال مكتب منسّقة الشؤون الانسانيّة في اليمن، التابع للأمم المتّحدة، ليز غراندي في بيان الأربعاء الماضي، إنّ "غارات جوّيّة طاولت في 26و 27و 28 تموز مركزاً طبيّا ومختبراً عاما في الحديدة، وألحقت أضراراً بمرافق الصرف الصحيّ في زبيد، كما وبمحطة تزويع المياه في القسم الأكبر من مدينة الحديدة" (موقع الشرق الأوسط 2 أب2018)
الناطقة الرسميّة باسم الخارجيّة الأميركيّة هيذر نويرت أكدت "أنّ الولايات المتّحدة لا تملك معلومات عمّا حصل" في ضحيان. وما تعنيه نويرت، بنبرتها الاستهزائيّة، أنّهم لا يملكون مجاميع الخوذ البيض، أو عصابات بلاك ووتر في صعدة، لكي يتمكنوا من تحديد الفاعل، وتاليا توجيه الضربة العقابيّة المباشرة له! أما البيان الغاضب للأمم المتّحدة فقد طالب "أطراف النزاع" بوقف العنف المتبادل! لكنّه خضع لتعديل لفظيّ، بعد تقدّم دول محايدة بطلب الى مجلس الأمن للتحقيق في الحادث. على إثر ذلك جرى تعديل صيغة البيان الى "إجراء تحقيق شفـّاف وموثوق". ولم يُشر البيان الى كيفيّة جعل التحقيق شفـّافا وموثوقا إذا كان الطرف المهاجم نفسه يقف أمام شاشات التلفزيون ويقول: نحن من أطلق النار! لهذا السبب عاد الناطق العسكريّ السعوديّ وعدّل هو الآخر من صيغة تصريحه معلنا " قيام التحالف العربي بفتح تحقيق حول الحافلة، التي "تعرّضت الى أضرار جانبيّة".
وفي 12 أب أرسلت السعوديّة رسالة جوابيّة الى مجلس الأمن تنصّ على أنّ " الغارة عمل عسكريّ مشروع تمتّ وفق القانون الإنسانيّ" وأنّها ستواصل إجراء التحقيق اللازم.
في 15 آب ظهر تركي المالكي مجدّداً وأعلن من طرف واحد نتائج التحقيق، التي نصّت على: " إنّ قوّات التحالف العربيّ تستخدم أعلى معايير الاستهداف الدوليّة، المستخدمة في حلف الناتو". بهذه النتيجة الشفـّافة والموثوقة، جعل السعوديون قتل الأطفال مباراةً دوليّة في فن الرماية الحيّة. وبهذه الكلمات البشعة أقفل التحقق، وخرست الضمائر، وتبخرت معها جرعة الإنسانيّة الطارئة، التي أبدتها بعض الدول.
بيد أنّ أبشع صيغ الإعلام ما ورد على لسان مذيعة نشرة الأخبار المسائيّة في تلفزيون (يمن شباب)، المموّل من عبد ربه منصور هادي، التي قالت: إنّ قتل الإطفال عمل عسكريّ مشروع، لأنّ "الميليشيات الحوثيّة الإيرانيّة تستخدم الأطفال لأعمال التجسس". وقد تمّ تسميّة المجزرة بـ " تعرض حافلة لأضرار جانبيّة". وهي القناة ذاتها التي كذّبت انتشار مرض الكوليرا في اليمن، والتي كذّبت بيان للسلطة في صنعاء عن قصف التحالف لموقع أثريّ موضوع تحت الحماية الدوليّة. وقد أوضحت القناة زيف هذا الإدعاء، فالصرح التاريخيّ المذكور لم يُقبل بعد ضمن حماية اليونسكو! وبذلك اعتبرته القناة هدفا عسكريّا مشروعا، طبقا للأعراف السعوديّة الإماراتيّة! أما تكذيب انتشار الكوليرا فيمثل أبشع درجات القبائح الإعلاميّة وأكثرها رداءة من الناحيتين الأخلاقيّة والمهنيّة. فقد عرض تلفزيون هادي (يمن شباب) فيلماً تسجيليّا ينفي نفيا قاطقا "الإشاعات" التي تبثها"الميليشيات الحوثيّة الإيرانيّة"، واعتبرها مجرد "أكاذيب" لأغراض الدعاية السياسيّة. وقد أظهر الفيلم مذاخر المستشفيات مليئة بالأدوية، والمرضى محاطين بالأطباء والممرضين. هذه اللقطات تعكس أمرين: أوّلا، فظاعة السياسيين، الذين ينظرون الى المواطنين اليمنيين الذين يعيشون في مناطق لا تخضع لنفوذهم، على أنّهم أعداء يجب أن يعاقبوا، وأنّهم يستحقـّون أن يحرموا حتّى من الدواء! وثانيا، يثبت الفيلم وفرة الدواء في بعض المواقع الخاصة جدا، الواقعة تحت سيادتهم وتصرفهم، في الوقت الذي يموت فيه الآلاف من أبناء جلدتهم اليمنيين. بهذا الفيلم لم يكذّب تلفزيون هادي السلطة في صنعاء والشعبَ اليمنيّ حسب، بل كذّب أعلى المراجع الدوليّة أيضا. ففي تقرير ستيفان دوجاريك، الممثـّل الرسميّ للأمين العام للأمم المتّحدة (13. 10. 2017 ، نقلا عن موقع قناة الجزيرة) بلغ عدد الموتى بالكوليرا 2150، وعدد المصابين 820 ألف حالة، أرسل اليهم 43 طنا من الدواء، علما أنّ عدد من وصلتهم المساعدة لا يتجاوز 2،2 مليون شخص، ومن تلقـّوا العلاج 600 ألف شخص. ويزعم تقرير الأمم المتّحدة أنّ الكوليرا تغطّي مساحة 92 بالمئة من أرض اليمن. وفي 22 آب 2018، عاد دوجاريك في تقرير جديد ليؤكـّد أنّ الوباء حصد أرواح 2300 شخص، وأنّ مناطق جديدة مؤهـّلة للدخول في منطقة الوباء.
في العشرين من آب 2018 قامت القوات الجّويّة المغيرة بقتل 15 جنديا من قوات هادي في حجّة، وتمّ تبرير القتل بأنّه خطأ غير متعمّد، وأنّهم ضللوا نتيجة انسحاب "الأعداء" المفاجئ من منطقة القصف. ومهما كانت التبريرات فإنّ الاستهانة الكبيرة بالبشر، بمن فيهم "الحلفاء"، يدلّ دلالة قاطعة على استخفاف تامّ بأرواح ودماء اليمنيين عامـّة.
من هذا نخلص الى أنّ مبدأ القوّة هو الذي يصنع قوانين الحقّ، وهو الذي يفرض أساليب ووسائل إحقاق الحقّ المناسبة.
إنّ أوّل مبدأ في التحقيق الدوليّ "الشفـّاف" و"الموثوق" هو مثول الطيّارين المهاجمين - وهم مرتزقة من جنسيّات متنوعة- أمام القضاء، وثانيا مطابقة أقوالهم مع مصدر السلاح والإحداثيّات والرصد والغطاء الجويّ، وهو أميركيّ. والأمران يتطلـّبان إحضار الجانبين السعوديّ والأميركيّ أمام القضاء، ليس للحكم عليهما وإدانتهما، فهذا خط أحمر، ولكن للاستماع الى روايتهما في أضعف الأحوال!
لقد سبق للناطق الرسمي باسم قوّات تحالف الحرب على اليمن العقيد الركن تركي المالكي أن صرّح، عقب انتشار صور الضحايا من النساء والأطفال في قصف حفل زفاف حجة، قائلا: حتّى لو ثبت وقوع الحادث، فإنّه يعتبر فعلا شرعيّا في مقاييس الحروب والمعارك، التي تجيز نسبة معينة مسموحة دوليّا لحدوث الخطأ، أي نسبة "قد ترقى الى مرتبة جرائم حرب"، أو نسبة لا تتجاوز حدود"الاستخدام المفرط". وكلّها تعابير متشابهة المضمون قانونيّا، تعطي للقتلة الحقّ والشرعيّة في قتل البشر من دون إدانة أو عقاب.
في 23 آب، قبل انقضاء أسبوع العزاء على ضحايا مجزرة ضحيان، ارتكبت الطائرات المغيرة مجزرة جديدة في الدريهميّ، قتل فيها 31 يمنيّا، جلّهم من الأطفال والنساء. جاءت المجزرة، كما لو أنها تقول: هذه هي نتائج التحقيق الشفاف والموثوق، التي طلبتها الأمم المتحدة. هذا دليلنا.
في الحرب الانتقاميّة السعوديّة الإماراتيّة، تتناسل المجازر، مجزرة تلحس دماء سابقاتها. أمّا العالم الحرّ فيكتفي بالتحذير من "العنف المفرط"، وإطلاق تعابير "قد ترقى الى مستوى جريمة حرب" و"ضبط النفس". وقد تصل الأمور ، في حال صحوة ضمير مباغتة ومؤقتـّة، الى المناداة بـ"تحقيق شفـّاف وموثوق"، يلعب القاتل فيه دور المحقـّق والحاكم.
فجأة، ومن دون سبب معلوم، ومن دون وجود طلب من أحد، بادرت قيادة "قوات التحالف" الأميركيّ في العراق، بصحوة ذاتيّة مباغتة، الى إصدار إحصاء رسمي يؤكـّد أنّ عدد المدنيين العراقيين والسوريين، الذين سقطوا قتلى على يد قوّات التحالف يبلغ 1060 مدنيّا، وأنّهم قتلوا بطريقة "غير متعمدة". (الميادين- 31 آب 2018)
بعد يومين حسب، في الأوّل من أيلول، ظهر ناطق باسم الفريق المشترك لتقييم الحوادث في مجزرة ضحيان وأعلن اعتراف قواتهم بارتكاب المجزرة، وهو اعتراف لا معنى له، لأنّ تركي المالكي صرّح بارتكاب "الاستهداف" منذ اليوم الأول للمجزرة. وواصل البيان شرح تفاصيل الحدث بالمضون ذاته، الذي جاء في بيان المالكي في اليوم الأول لظهوره. "الاستهداف (المجزرة) أدى الى وقوع أضرار ( قتل عشرات الأطفال) جانبيّة (غير متعمدة، وغير ذات أهمية، وغير مبررة). ووعد بمحاسبة من يرتكبون "أخطاء بشكل رسمي"! وعلى إثر ذلك خرج الناطق العسكري الرسمي باسم التحالف السعودي الإماراتي في الثالث من أيلول ليعلن تأييده قرار لجنة التقييم في ما يتعلـّق بـ "مشروعيّة الهدف العسكريّ" مع وجود "خطأ في التوقيت". لو قدّر لنا تجاهل العبارة الأخيرة لخلوها التام من أيّ معنى، هل كان التصريح الأميركيّ المفاجئ عن قتل 1060 مدنيّا في العراق وسورية مثالا شرعيّا، وتغطية إعلاميّة منسّقة، تهدف الى تشجيع السعوديين، ومنحهم جرأة التصريح بقتل المدنيين علنا، من دون خوف!
في مناخ الصمت الدوليّ على جرائم الحرب السعوديّة الإمارتيّة على اليمن حتّى المنظمات الدوليّة المدافعة عن حقوق الإنسان أصيبت بعدوى الإعلام الدوليّ السائد. آخر تقارير منظمة "هيومن رايتس"، في 24 آب 2018 ، حول سلسلة المجازر في اليمن، كرّرت فيه المنظمة التعبير التضليليّ المعروف "قد ترقى الى مرتبة جرائم حرب"، ولكن بطريقتها الخاصة، حينما وصفت المشاركة الأميركيّة في الحرب، التي تشمل توريد السلاح، والدعم اللوجستيّ والأمنيّ الجوّيّ والبحريّ، وإدارة العمليّات والإحداثيّات والتخطيط والضغط السياسيّ بأنّها " ما قد يجعلها مشاركة في الدعم العسكريّ واللوجستيّ".
بهذا التقرير يكون مصير الشعب اليمنيّ قد وُضع بيد جلاديه، محروساً بالصمت العالميّ الشامل.
وربّما يكون أكثر التقارير الدوليّة المتعلـّقة باليمن إثارة لغويّا وعاطفيّا هو تقرير لجنة الخبراء التابعة للمفوضيّة السامية للأمم المتّحدة، المعلن في 28 آب 2018، الذي حوى كلمات بكائيّة وتوصيفات لعمليّات القتل الجماعيّ من قبل القوّات السعوديّة والإماراتيّة، لكنـّه خلص في النتيجة الى أمرين، الأوّل " بعض الغارات السعوديّة قد ترقى الى مرتبة جرائم حرب"، وثانيا، تدين اللجنة "جميع أطراف النزاع". ولم تتأخر الخارجية البريطانيّة كثيرا، فبادرت مندوبتها في اليوم نفسه الى دعوة "أطراف النزاع الى احترام القانون الإنسانيّ الدوليّ". إنّ المجازر، من وجهة نظر الأطراف الدوليّة، قضية لا تستدعي محاكمة القاتل أو محاسبته، بل هي وسيلة لاستمرار الحرب، بما أنّ مموليها العسكريين الرئيسيين ماضون في الاسهام المباشر بقبول تنفيذ المجازر "من دون إفراط" ، و"بالحد الأدنى"، وبطريقة " قد ترقى الى مصاف جرائم حرب". وبما أنّ القطب الروسيّ مستفيد ماليّا وعسكريّا وسياسيّا من انشغال السعوديّة والإمارات بحرب استنزاف، تخفـّف عنه الضغط على جبهات جنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط.
جرّاء هذا الواقع الدوليّ الظالم، وفي ظلّ إصرار التحالف السعوديّ الإماراتيّ على اللعب بالألفاظ، بغية كسب الوقت للخروج من الحصار القويّ الذي فرضته وقائع وأدلة المجازر المتتالية، أحسّت منظمة حقوق الإنسان الدوليّة بهشاشة موقفها. لذلك قامت المنظمة، بعد يوم من ظهور نتائج الفريق السعوديّ المشارك في التحقيق، بتعديل موقفها ليغدو "قصف حافلة الأطفال يبدو جريمة حرب". وهي خطوة أكثر تقدّما من "قد يرقى الى جريمة حرب". أمّا الخارجّية الأميركيّة فلم تتأخر هذه المرّة كثيراً، فقد بادرت على لسان الناطقة الرسميّة باسمها هيذر نويرت في الثاني من أيلول الى حسم الجدل، مطالبة "جميع الأطراف الالتزام بقانون النزاعات المسلـّحة". على إثر ذلك أوضح مندوب الأمم المتّحدة الى اليمن مارتن غريفين، بوضوح غير معهود، أنّ مباحثات جنيف لا تعني "أن وقف إطلاق النار ضروري، لأنّه يُعدّ شروطاً مسبقة". إنّ الدعوة الى مفاوضات تحت القصف، برعاية الأمم المتّحدة، ليست سوى انحياز مطلق وصريح للإحتلال الأجنبيّ. فمن الجائز لقوات عبد ربه منصور هادي أن تذهب الى المفاوضات من دون الالتزام بوقف إطلاق النار، لأنّه شرط مسبق في نظرها. ولكن، كيف يجوز لأطراف أجنبيّة معتدية، كالسعوديّة والإمارات، أن تعتبر غاراتها الحربيّة جزءاً من شروط مفاوضات السلام؟ بهذا التصريح تخون الأمم المتّحدة، كالعادة، واجبها الإنسانيّ والقانونيّ، وتضع نفسها في خدمة مشروع الحرب، وهو عين ما حدث في العراق ويحدث الآن في سوريّة أيضا.
في 13 ايلول 2018 ، احتدم الجدل الأميركيّ في ذكرى مجزرة 11 سبتمر، وتصاعدت موجة تجريم السعوديّة من قبل ذوي الضحايا وخصوم ترامب، وتمّ استغلال الحرب في اليمن وسيلة للضغط على الحكومة. أما الحكومة فقد قدّمت موقفها الحاسم على لسان وزير الدفاع جيمس ماتيس، الذي قال: " واشنطن تشيد بالإجراءات السعوديّة الإماراتيّة في التعامل مع المدنيين اليمنيين".
بعد هذا التصريح بيومين حسب، مضى الطيران الى الحدود الأبعد في "الاستهداف". فقد قام بقصف مخازن الحبوب التابعة للأمم المتـّحدة في الحديّدة. جاء هذا على لسان منسّقة الأمم المتـّحدة للشؤون الإنسانيّة في اليمن ليز غراندي، يوم الخميس 13 أيلول 2018. وكما فعلت قناة (يمن شباب)، التي برّرت قتل أطفال "ضحيان" بسبب كونهم جواسيس للحوثيين، فإن وزير إعلام هادي، معمر الإرياني، أعلن أنّ الحوثيين يستخدمون مباني الأمم المتـّحدة لأغراض عسكريّة وطالب بضربها. أمام هذا القدر من الجرأة اللاإنسانية، الاستثنائيّة، اضطر ممثل الأمم المتّحدة الى الانحناء مجدداً، وطالب" جميع الأطراف بعدم المساس بمواقع الأمم المتـّحدة". بهذا التصريح أعادت الأمم المتـّحدة التوازن من جديد الى نصابه: الاستمرار في منح القاتل عقداً مفتوحاً بالقتل الشرعيّ.
ورغم نبرة التباكي، التي تظهر من حين الى آخر، إلا أنّ الطريقة الشيطانيّة، التي تدار بها لعبة الحرب، في الواقع وفي الإعلام، ما انفكت ثابتة الأصول والمعايير: دورة عنف سابقة، تقود الى دورة عنف جديدة أعلى سقفاً، تحت غطاء الشرعيّة الدوليّة.
بعد مضي أقل من أربع وعشرين ساعة على تصريح ليز غراندي، في يوم الجمعة 14 ايلول 2018 ، أعلن المتحدث باسم برنامج الغذاء العالمي إرفيه فيروسيل، مستدركا وموضّحا بأنّ ما حدث بسبب"مجموعة مسلحة مجهولة الهوية". تصريحات ليز غراندي التي أثارت نقمة أنصار هادي جرى تعديلها فورا من قبل فيروسيل بما يكفل إعادة المعادلة الى بوصلتها المتفق عليها :" دعوة جميع أطراف النزاع الى تجنب القتال قرب مواقع تابعة للأمم المتّحدة"، التي تقع في الكيلو 16، مركز الهجوم الأساسي لقوات هادي، ومركز التكثيف الناريّ الجويّ والمدفعيّ! بهذا التصريح ترسم الأمم المتّحدة علنا خطوط التماس ومساحة الحركة في جبهات القتال واتجاهات سيرها.
إنّ إعادة تصفير العدّاد أضحت هي الحالة المؤكـّدة عقب كلّ بادرة إنسانيّة للتعاطف مع الشعب اليمنيّ، ولو كانت ضئيلة، أو مجرد تعبير لفظيّ. وفي ذروة كلّ هجوم يعود العدّاد الى نقطة الصفر: مساواة المهاجم بالمدافع، والمحاصَر بالمحاصِر، والغازي الأجنبي ومعه القادم من وراء الحدود بأصحاب الأرض، وفي النهاية مساواة القاتل والقتيل في الجريمة.
منذ أسابيع تتعرض صوامع الغلال في منطقة الكيلو 16 الى هجوم جوّيّ وصاروخيّ وبريّ مكثـّف في حملات متتالية. لكنّ ممثل الأمم المتـّحدة يصف القصف بأنه "مجهول الهويّة"، ثمّ ينهي بيانه بدعوة جميع "الأطراف المسلحة" الى عدم المساس بقوت الشعب اليمنيّ. إنّ تصفير الغضب رسميّا، كلـّما ارتفع فرديّا، أضحى قاعدة إعلاميّة ثابتة. بهذا التصريح، الذي يجهل هويّة القوى التي تهاجم الحديّدة، والذي يدعو من يدافع عن الحديّدة الى التخلي عن مهمة الدفاع عنها، فإنّه يعيد تصويب البوصلة مجددا لصالح استمرار الحرب.
بتاريخ 28 أيلول 2018 حدث أول اختراق لفظيّ في جبهة العدوان السعوديّ الإماراتيّ المتماسكة دوليّا. فللمرّة الأولى يصدر مجلس حقوق الإنسان قرارا لم يظهر فيه تعبير دعوة أو إدانة "جميع الأطراف"، بل تركـّزت الدعوة في طرف واحد هو الطرف المعتدي، الأجنبيّ. لقد حدث هذا الاختراق بسبب خمسة عوامل رئيسيّة: الأوّل، فشل آخر المراهنات العسكريّة وأخطرها لاحتلال الحديّدة. ثانيا، اشتعال نار الغضب الشعبيّ في الجنوب اليمنيّ المحتل ضد الاحتلال الإماراتيّ السعوديّ. ثالثا، ضعف التأثير الأميركيّ، بسبب خروج أميركا من مجلس حقوق الإنسان. رابعا، صمود ووحدة القيادة الشعبيّة في صنعاء، الذي أفشل المساومة غير العادلة التي قام بها مبعوث الأمم المتّحدة الى اليمن، مارتن غريفين، في جولته التي جاءت بالتزامن التام مع الهجوم الأخير على الحديّدة. رابعا، بتأثير طرف عربيّ وإقليمي ايجابيّ من داخل المجلس. بيد أنّ هذا القرار سيبقى حبرا على ورق إذا لم يُقرن بالأفعال، وإذا لم تـُترجم الإدانة الى إجراءات تنفيذيّة تجرّم منفدي المجازر، وتسهم في إيقاف الحرب. وكالعادة، فرحة تحقيق خرق في جدار الهيمنة الدوليّة لم تستمر سوى ساعات معدودات أيضا. فقد أثار القرار غضب مؤيدي استمرار الحرب، مما عجـّل بظهور ممثل لجنة التحقيق الدوليّة كمال الجندوبي في 29 أيلول ليضيف الى القرار العبارة السحريّة المفقودة" على جميع الأطراف"، معيدا البوصلة الى اتجاهها المرسوم: استمرار الحرب، وخلط الأوراق، ثم ّمنح المجرم "حق" النجاة من العقاب.