نحو إجابة عن السؤال: ماذا كان يفعل الإله قبل أن يخلق العالم؟


أشرف حسن منصور
2018 / 9 / 19 - 00:39     

كنت قد طرحت سؤالاً إشكالياً: ماذا كان يفعل الإله قبل أن يخلق العالم؟ واستفدت كثيرا من كل التعليقات المقدمة عليه، الإيجابية والسلبية. كان الهدف من السؤال هو رغبتي في معرفة مدى استعداد المتابعين لمناقشة مثل هذه الأسئلة الإشكالية. وشعرت أن البعض قد أخذ السؤال بحساسية دينية، إذ تعامل معه على أنه سؤال ديني، في حين أنه سؤال عقلي فلسفي. إنه يلمس الفكر الديني، لكن يتجاوزه، فليس في قدرة العقل الديني الإجابة عن هذا السؤال، والأسئلة الشبيهة به. وهو سؤال لا يمكن أن يطرأ على العقل الديني أصلاً. ولأن العقل الديني لا يستطيع الإجابة، فهو يرد بأن السؤال غير مشروع، أو يأخذ في سرد محفوظات. أما القول بأن السؤال يتجاوز قدرات العقل البشري، فيهدف التملص من الإجابة، أو التوقف عن التفكير في الإشكالية، مراعاة للسلامة. إن هذا السؤال لا يتجاوز قدرات العقل البشري بل بالأحرى يتجاوز قدرات العقل الديني، لأنه عقل مقيد ومحدود، أما العقل الفلسفي والعلمي فغير مقيد، ويمتلك قدرات كثيرة تفوق قدرات العقل الديني. وبخصوص كانط الذي اعتمد عليه البعض في القول بمحدودية العقل البشري في البحث في مثل هذه الأسئلة، فإن كانط في تقديمه لهذه الفكرة كان يتخفى، يمارس التقية، ولذلك للتعتيم على موقفه الحقيقي اللاأدري agnosticism. كان كانط على يقين من أن العقل البشري يستحيل عليه البرهنة على وجود الإله الشخصي، إله الأديان الإبراهيمية، أما موقفه من البرهنة على وجود الإله، فقد كان أمامه برهانان: برهان على وجود الإله المفارق، وهو البرهان الشهير عبر كل تاريخ الفلسفة، وبرهان على وجود الإله المحايث، إله مذهب وحدة الوجود. لم يصرح كانط في كتابه "نقد العقل الخالص" بوجود هذين البرهانين المنفصلين، وكل نقده لبراهين وجود الله هو نقد لبراهين الإله المفارق للعالم؛ أما براهين وجود الإله المحايث، إله وحدة الوجود Pantheism فلم يذكرها كانط أبداً وسكت عنها، وأشهر الفلاسفة السابقين على كانط والقائلين بالإله المحايث للعالم هو سبينوزا ومذهبه كان مذهب وحدة الوجود. لم يذكر كانط اسم سبينوزا في كتابه، كما لم يذكر مذهب وحدة الوجود، فكلمة Pantheism غير موجودة على الإطلاق في كتابه. لقد سكت عن قصد عن هذا المذهب. موقف كانط الحقيقي هو رفض براهين وجود الإله المفارق، أما براهين الإله المحايث فسكت عنها؛ هل الإله المحايث هو الذي يعتقد فيه كانط؟ إنني أميل إلى الإجابة بنعم.
إذا تصورنا الإله خارج العالم، أي مفارقاً للعالم منفصلاً عنه، فسوف يدفعنا ذلك التصور إلى القول بأنه خلق العالم في لحظة من الزمان، أما إذا تصورناه محايثاً للعالم (وحدة الوجود)، وإذا تصورنا أن قوانين الطبيعة هي قوة الإله نفسه وإرادته الأزلية والتجلي الأزلي لذاته، فسوف نقول إن خلق العالم أزلي، مستمر من الأزل إلى الأبد، ولم يبدأ في لحظة من الزمان كان قبلها متوقفاً عن الخلق. الإله لا يتوقف عن الخلق أبداً، فهو حسب التعبير القرآني "فعال لما يريد"، ولا يتأخر فعله عن إرادته، فإن إراد شيئاً يقول له كن فيكون، وهو "الخلاق"، أي الذي في خلق مستمر، لأن الخلق ماهيته وجوهره وفعله، وليس هناك انفصال بين ذاته وفعله. فطالما كان الإله موجوداً فهو في خلق مستمر، أزلي من جهة الماضي، أبدي من جهة المستقبل.