الحركات الاجتماعيّة والقوى المدنيّة والسياسيّة في تونس تكامل أم تنافر؟ حملة “فاش نستنّاو؟” نموذجا


مصطفى القلعي
2018 / 9 / 15 - 12:34     


مقدّمة:

يمتاز تاريخ تونس المعاصر بثراء كبير فيما يتعلّق بالحركات الاجتماعيّة (Les mouvements sociaux) أثناء الاستعمار وخلال دولة الاستقلال وبعد الثورة ابتداء من 18 جانفي 1952 تاريخ اندلاع الثورة التونسيّة المسلّحة ضدّ الاستعمار الفرنسي مرورا بأحداث الخميس الأسود 26 جانفي 1978 الدامية في تونس وأحداث الخبز ديسمبر 1983- جانفي 1984 وصولا إلى نشاطات «اتحاد المعطّلين عن العمل» UDC التي أربكت نظام بن علي سنة 2006 فأحداث الحوض المنجمي سنة 2008 انتهاء بأحداث الثورة ديسمبر 2010- جانفي 2011.

ولكنّ العدد الضخم من الحركات الاجتماعيّة بمختلف تنويعاتها الاحتجاجيّة (مظاهرات/ مسيرات/ تجمّعات أمام مراكز السلطة/ وقفات احتجاجيّة عابرة أو دوريّة/ إضرابات/ اعتصامات/ قطع طرقات…إلخ) ههنا نذكر على سبيل التمثيل لا الحصر « الوقفة الدوريّة شكون قتل بلعيد؟ شكون قتل البراهمي؟ » و « اعتصام الرحيل » صيف 2013 و « تمرّد تونس » قبله و « مانيش مسامح » واعتصامات مدن الحوض المنجمي في الرديّف والمظيلة وأم العرائس وحاجب العيون و »اعتصام الكامور » في تطاوين واعتصامات المجمع الكيمياوي في قابس والصخيرة وتحرّكات الناجحين في كاباس 2017 الذين التفّت الحكومة ووزارة التربية على حقّهم في الانتداب التزاما بتعهّداتهما لصندوق النقد الدولي في إيقاف الانتدابات في الوظيفة العموميّة لثلاث سنوات متتالية، واعتصام وزارة التشغيل…إلخ

لكن وجب التنويه بأنّ الحراك الاجتماعي شقّ تونس عموديّا وأفقيّا. وحتى المدن والقرى التي ليست فيها حركة عمّاليّة وافتقرت للتقاليد النقابيّة شهدت حركات احتجاجيّة. فمن المهمّ جدّا لدارس الحركات الاجتماعيّة الانتباه إلى أنّها لا تقوم فقط للمطالبة بحقوق اجتماعيّة واقتصاديّة نتيجة تضاعف الفشل الحكومي والعجز عن حلّ المشاكل بل أيضا بسبب اجتهاد الحكومات المتعاقبة في استفزاز المواطنين الآمنين والقرى المسالمة ودفعها دفعا إلى الاحتجاج وقطع الطرقات.

وهذا ما وقع في قرية الكساسبة الوديعة بمعتمدية السواسي من ولاية المهديّة والتي شهدت حركة احتجاجيّة تمثّلت في قطع الطريق السيّارة مساكن صفاقس بسبب استمرار القطع العشوائي للماء الصالح للشرب من طرف الحكومات المتعاقبة بعد الثورة. لكنّ صيف 2018 شهد حالة انقطاع إجراميّة استمرّت لخمسة أيّام متتالية في شهر جويلية حيث كانت الحرارة تناطح الخمسين درجة. وهو ما أصاب السكّان بالعطش ونفقت سوائمهم وأوشكت القرية على أن تصاب بوباء كارثي. وهذا ما استفزّ المواطنين المسالمين ودعاهم إلى ترك وداعتهم والتنمّر دفاعا عن حياتهم وحياة سوائمهم مصدر رزقهم. فقطعوا الطريق الوطنيّة صفاقس تونس. ولكن لا أحد التفت إليهم. فاضطرّوا إلى قطع الطريق السيّارة. حينها تحرّكت الجهات الرسميّة والسلط الجهويّة وعاد الماء بسرعة في حينها. ولكنّ الاستفزاز عاد من جديد ليستمرّ القطع المتقطّع للماء الصالح للشراب ممّا يثير حنق المواطنين على السلطة ويجعلهم يفكّرون في العودة للاحتجاج.

ومن الضروري الاهتمام بالحركات الاجتماعيّة بحثا وتنظيرا ونقاشا باعتبارها ظواهر اجتماعيّة وذلك لتأصيل الوعي بالحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة وللتصدّي لكلّ انحرافات السلطة وخياراتها اللااجتماعيّة. والحركات الاجتماعيّة باب معرفي ومجال بحثي واسع له منظّروه وأعلامه ومدارسه في الولايات المتّحدة وأوروبّا وأمريكا اللاتينيّة. وهناك اليوم على الأقلّ أربع مقاربات للحركات الاجتماعيّة هي: المقاربة الوظيفيّة والمقاربة الاستراتيجيّة والمقاربة الماركسيّة والمقاربة العمليّة. ولكنّ موضوع الحركات الاجتماعيّة ظلّ على الهامش إلى حدّ الآن في تونس تحاول المنظّمات المستقلّة لاسيما المرصد التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة الذي يستضيفنا اليوم والاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان مؤازرته ومساندته والدفاع عن مناضليه.

وفي ظلّ الرأسماليّة الاحتكاريّة للدولة (Capitalisme monopoliste d’Etat)، كان لينين قد أدرج الحركات الاجتماعيّة في الماركسيّة. ولكنّ الماركسيّة اللينينيّة لم تطوّر نظريّة ممارسة الحركات الاجتماعيّة إذ لم توجّه الأدوات النقديّة لنظريّتها نحو أيادي المجموعات التي تبنيها وتحرّكها. وفي سبعينيّات القرن الماضي، ألحّ تيّار النيوماركسيّة (néo-marxisme) على استقلاليّة الحركات الاجتماعيّة الجديدة وعلى خصوصيّاتها وأيضا على دورها في تحوّل الدولة وفي بناء الديمقراطيّة. من هذه الزاوية النيوماركسيّة، سنحاول مقاربة هذا الموضوع.

« فاش نستنّاو » حركة اجتماعيّة un mouvement social:
لماذا أتناول حملة « حملة فاش نستنّاو؟ »؟ ليس لأنّ الدولة تحتكر رأس المال، كما كان عليه الأمر زمن لينين خلال الثلث الأوّل من القرن العشرين، وليت الأمر كان كذلك فعندها ستكون مواجهتنا للدولة باعتبارها عدوّا طبقيّا سارقا للثروة مستحوذا على وسائل الإنتاج لا باعتبارها أداة تنفيذيّة عند الكومبرادور ترعى ثروته ومصالحه بفعل احتكارها للعنف، وإنّما لأسباب أخرى سأشرحها في النقاط الستّ التالية.

أوّلا، لأنّ « فاش نستنّاو؟ » « فعل جماعي مقصود له خصم (الحكومة) ومطلب (إسقاط قانون الماليّة 2018). وهو يتّسم بمشروع للتعبئة العامّة يقوده محرّكون متّحدون هم شباب الحملة. وهذا التحرّك الجماعي يتطوّر طبق منطق المطالبة والدفاع عن المصلحة أو القضية »، بتعريف إيريك نوفو[1]، مع الإشارة إلى أنّي سأتناول نقطة تطوّر حملة « فاش نستنّاو؟ » في عنصر التقييم.
ثانيا، لأنّ « فاش نستنّاو؟ » تحرّكت في عمق الإشكاليّة الأساسيّة للحركات الاجتماعيّة التي حدّدتها السوسيولوجيا العالِمة منذ عقود، خلافا لما عليه الأمر عندنا في تونس، أقصد إشكاليّة ما إذا كانت الحركات الاجتماعيّة حركات سياسيّة.[2] تبعا لذلك، فإنّ حملة « فاش نستنّاو؟ » حركة اجتماعيّة سياسيّة فعلا نابعة من التفاعل بين الخيارات السياسيّة والاقتصاديّة للسلطة القائمة وبين فئة نشيطة واعية من الشباب التونسي. فحملة « فاش نستنّاو » نشأت لتطالب بإسقاط قانون الماليّة 2018. ومطالبها موجّهة نحو الحكومة تطالبها بالعدول عن هذا القانون الذي أعدّته ومرّرته للتداول في مجلس نوّاب الشعب.
ثالثا، أنّ « فاش نستنّاو؟ » أتاحت للمجتمع فرصة لتجاوز عجزه ووهنه وقلّة حيلته أمام صلف الحكومة وغطرسة الائتلاف الحاكم، وبالتالي مواجهة السلطة القائمة. فبدت أنّها محرّك حقيقي للتغيير الاجتماعي والسياسي.
رابعا، أنّها حملة مكّنت من لا صوت لهم من المعطّلين عن العمل والمهمّشين والطلبة أبناء الفئات الشعبيّة ضحايا الكومبرادور من إسماع صوتهم. فالمنتسبون إلى هذه الحملة أصحاب حقوق ويواجهون مشاكل مع السلطة القائمة تتعلّق بحرمانهم وحرمان عائلاتهم من حقوقهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة. فالعبور الجماعي لعتبات الإحباط هو المفتاح الرئيسي لأيّ حركة اجتماعيّة.
خامسا، أنّ حملة « فاش نستنّاو؟ » فرضت إنتاج المعنى السياسي والاجتماعي والإعلامي في فترة صعبة على التونسيّين تميّزت بالغموض والرؤية الرماديّة. ولذلك هي جديرة بالدراسة.
سادسا، أنّ « فاش نستنّاو؟ » تصلح نموذجا لدراسة الإشكاليّة المطروحة هنا في علاقة بتعاطي القوى المدنيّة والسياسيّة مع الحركات الاجتماعيّة من خلال للقوى السياسيّة (الجبهة الشعبيّة) ونموذج للقوى المدنيّة (الاتحاد العام التونسي للشغل).
لقد تمّ إطلاق حملة « فاش نستنّاو؟ » يوم 3 جانفي 2018 ببيان تأسيسي بعد التصويت على قانون الماليّة لسنة 2018 من قبل الكتل النيابيّة للائتلاف الحاكم. وسرعان ما انتشرت المظاهرات والتحرّكات التي تنضوي تحت هذه الحملة لتشمل 18 ولاية تونسيّة من جملة 24. ومن أبرز تحرّكاتها تجمّع خطابي أمام المسرح البلدي يوم 7 جانفي تلاه تحرّك أمام وزارة الداخليّة. ويوم 12 جانفي تمّ إنجاز تحرّك أمام مقرّ ولاية تونس بالتزامن مع وقفة احتجاجيّة في اليوم نفسه أمام ولاية المنستير. ويوم الجمعة 26 جانفي نظّمت الحملة تحرّكا وطنيّا أمام مجلس نوّاب الشعب. وكلّ تحرّكات الحملة كانت تحمل شعارا واحدا هو إسقاط قانون الماليّة لسنة 2018. وقد جابهت السلطة حملة « فاش نستنّاو؟ » بأسلوبين تتقنهما جيّدا هما التشويه الإعلامي والعنف الأمني رغم أنّ المفروض أنّ المراقبة الاجتماعيّة لا يؤمّنها البوليس وإنّما تؤمّنها الدولة التي تشرعن المؤسّسات بطريقة وقائيّة تحمي فيها مصالحها. ولذلك تولي المراقبة الاجتماعيّة أهميّة قصوى للإعلام وللبيانات الثقافيّة والسياسيّة من أجل الذاكرة الجماعيّة.

ففي مستوى التشويه الإعلامي، عرفنا مؤخّرا أنّ الحكومة التونسيّة استثمرت هبة ماليّة ومساعدة لوجستيّة بريطانيّة لتشويه الاحتجاجات والمحتجّين. وجنّدت أذرعها الإعلاميّة في أحزاب الائتلاف الحاكم وفي كتلها البرلمانيّة، والأذرع المتكوّنة من الناطقين الرسميّين والوزراء (لاسيما القريبين من الحوض الإيديولوجي للحملة: سمير الطيّب وإياد الدهماني) والصحفيّين والقنوات الإذاعيّة والتلفزيّة (الإعلامي شاكر بالشيخ على الوطنيّة1، أحسن مثال) والصحف والمواقع الإلكترونيّة ومنصّات التواصل الاجتماعي وحتى المساجد لغاية واحدة هي إظهار هؤلاء الشباب في أسوإ صورة وكأنّهم أمراض اجتماعيّة (des pathologies sociales)، صورة من يضمر الشرّ لوطنه ولا يراعي المصلحة الوطنيّة والخارج عن القانون. وهو ما يبرّر تعنيف هؤلاء الشباب واعتقالهم والاعتداء على حرماتهم الجسديّة وإهانة كرامتهم.

ولم تبق من مواقع مساندة لحملة « فاش نستنّاو؟ » سوى موقع نواة وموقع أسطرلاب تي في وموقع صوت الشعب ومواقع قليلة أخرى غير مؤثّرة في الرأي العام.

أمّا في المستوى الأمني، فقد تمّ اعتقال أكثر من 800 ناشط في الحملة حسب إحصائيّات رسميّة قدّمتها وزارة الداخليّة منهم فاعلون في قيادة الحملة على غرار حمزة نصري وقصي بن فرج ووائل نوّار ويونس الرويسي وزياد المحضي وأسرار بن جويرة وأسامة الظاهري وأسامة الشعبوني ووردة عتيق ورغدة فحولة وأيّوب الجوّادي. وتجنّد عدد من المحامين المنتمين إلى الجبهة الشعبيّة ومن غير المنتمين إليها من الرافضين لخيارات السلطة ومن الحقوقيّين للدفاع عن هؤلاء الشباب أمام القضاء. كما فـقـدَ مواطن حياته دهسا في طبربة أثناء الاحتجاجات الليليّة التي دارت في هذه الفترة.

علاقة القوى المدنيّة والسياسيّة في تونس بحملة « فاش نستنّاو؟ »:
اتحاد أصحاب الشهائد العليا المعطّلين عن العمل UDC هو منظّمة مهيكلة لها وجود قانوني ولها مكتب وطني ومكاتب جهويّة. وقد أنجزت منذ يومين مؤتمرها الثاني وخطب فيه الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل في إشارة إلى الاعتراف الرسمي به والتضامن معه. وهو يتبنّى قضيّة « قدماء الاتحاد العام لطلبة تونس المفروزين أمنيّا » المنتمي أغلبهم (وليس كلّهم) إلى أحزاب الجبهة الشعبيّة لاسيّما حزب العمّال والوطد الموحّد والأحزاب القوميّة. فعلاقة الـ UDC بالجبهة الشعبيّة وبالاتحاد العام التونسي للشغل علاقة تكامل وتضافر وتضامن وتقاطع في المهام وتشارك في النضالات. وللتذكير فإنّ أغلب المسيرات الوطنيّة للـ UDC تنطلق من ساحة محمد علي. ويتبنّى اتحاد الشغل قضيّة المفروزين أمنيّا ويدافع عنها في مفاوضاته المباشرة مع الحكومة على أعلى مستوى. كما تعترف السلطة بالـ UDC وتدعوه للتفاوض وهو أحد مكوّنِي اللجنة الفنيّة التي أعدّت في رئاسة الحكومة لحلّ ملفّ المفروزين أمنيّا إلى جانب نوّاب من مجلس الشعب أغلبهم من كتلة الجبهة واتحاد الشغل والحكومة.

أمّا اعتصام الرحيل فليس منظّمة قانونيّة مهيكلة مثل اتحاد المعطّلين عن العمل ولم يكن كذلك حركة عفويّة اندفاعيّة مثل « فاش نستنّاو؟ » كما سنرى. بل هو حركة اجتماعيّة لها خصم (حكومة الترويكا) ومطلب (إسقاط هذه الحكومة ودستور جوان 2013). وكان وليد قرار سياسي اتخذته جبهة الإنقاذ في الأيّام العشرة الأخيرة من جويلية 2013 إثر اغتيال الشهيد محمد براهمي وظهور حاجة هذه القوّة السياسيّة إلى ذراع ميدانيّة قويّة لإرباك سلطة الترويكا المستبدّة وتعطيل المؤسّسة التشريعيّة التي تعدّ المرجعيّة التشريعيّة لحكم الترويكا.

ولم تكن سلطة الترويكا والقائمون عليها لاسيما من حركة النهضة ورئاسة الجمهوريّة التي كان على رأسها منصف المرزوقي يتحاورون مع المعتصمين وإنّما مع زعماء جبهة الإنقاذ سواء صلب الحوار الوطني أو في اللقاء الشهير الذي اصطلح على تسميته فيما بعد بلقاء باريس في أوت 2013 بين السبسي والغنوشي.

ورغم أنّ المبادرين بالفعل الشارعي في اعتصام الرحيل كانوا من شباب الجبهة الشعبيّة (وأنا كنت شاهد عيان على ذلك) ، فإنّ أوّل من نصب خيمة الاعتصام أمام قبّة المجلس التأسيسي بباردو وواجه قوّات البوليس وقنابل لاكريموجان بشكل مباشر كانوا نوّاب المعارضة الذين أعلنوا عن تعليق عضويّتهم في المجلس وشلّوا أنشطته التي سرعان ما أعلن رئيس المجلس مصطفى بن جعفر عن تعليقها. فيمكن اعتبار اعتصام الرحيل الذراع الشارعيّة لجبهة الإنقاذ. وكان مدعوما بشكل صريح وعملي من قبل قوى سياسيّة ومدنيّة لاسيما الاتحاد العام التونسي للشغل. وكان مقرّ الاعتصام ساحة ليليّة للخطب الجماهيريّة فخطب حمّه الهمّامي وزياد لخضر وسمير الشفّي وحتى الباجي قايد السبسي.

وفي حين كان للـ UDC هويّة اجتماعيّة متعلّقة مباشرة بمشكلة البطالة وبتشغيل المعطّلين عن العمل والدفاع عن مصالحهم وحقوقهم، وكان اعتصام الرحيل تجسيدا شارعيّا لقرار سياسي لقوّة المعارضة الرئيسيّة جبهة الإنقاذ وهويّته سياسيّة بالأساس، فإنّ هويّة حملة « فاش نستنّاو؟ » اقتصاديّة أساسا موجّهة مباشرة لإسقاط قانون الماليّة لسنة 2018. يعني أنّ ما أوجدها هو قانون الماليّة 2018.

إنّ « فاش نستنّاو؟ » خلافا للـ UDC واعتصام الرحيل، هي حركة عفويّة تلقائيّة اندفاعيّة غير مهيكلة. ومع ذلك نجحت في أن تكون لها راية خاصّة بها وشعار خاصّ بها شاركت بهما في إحياء ذكرى الثورة يوم 14 جانفي 2018، دون أن تخفى علامات قربها من الجبهة الشعبيّة باعتبار أنّ الكثير (وليس كلّهم) ممّن كانوا على رأسها يقودون تحرّكاتها ويتكلّمون باسمها في الإعلام هم من القيادات الشابّة للجبهة.

« فاش نستنّاو؟ » كانت أيضا ردّة فعل حركيّة شارعيّة على ما أصاب الاتحاد العام لطلبة تونس الذراع الطلاّبيّة للأحزاب اليساريّة الاجتماعيّة من صراع وتشرذم أدّى إلى هزيمتها التاريخيّة في انتخابات المجالس العلميّة الأخيرة أمام الاتحاد العام التونسي للطلبة الذراع الطلاّبيّة لحركة النهضة. فهذا الحضور الشارعي هو رسالة من الشباب التقدّمي الطلائعي مفادها: نحن هنا. وإذا كنّا ضعفنا في مستوى تمثيلنا في المجالس العلميّة، فإنّ قانون الماليّة 2018 دفع بنا إلى الساحة الشارعيّة رغم علمنا بأنّنا سنكون في مواجهة مباشرة مع السلطة بكلّ قوّتها الدعائيّة والعنفيّة.

وهنا تقاطعت « فاش نستنّاو؟ » مع الجبهة الشعبيّة. ولذلك كانت نضالاتهما في نفس الفترة دون أن يتمّ بينهما أيّ تنسيق أو تشبيك. وقد عملت السلطة على توظيف هذا التقاطع والتشهير بالحملة وبالجبهة معا. فضربت الحملة في العمق بتركيز الدعاية ضدّها على عنصر الاستقلاليّة. وضربت الجبهة باتهامها بتجنيد الشباب المعطّل والشباب الطلاّبي في معاركها السياسيّة. وعليه صارت كلّ من « فاش نستنّاو؟ » والجبهة تتحاشيان أيّ تقارب خشية تأكيد التهم ضدّهما. وتولّت الأذرع الإعلاميّة بقيّة المهمّة في إخماد لهيب تحرّكات الحملة والجبهة معا إذ وجدتا نفسيهما في موقع المتّهم المطالب بردّ التهم وتفنيدها. واستهلكت نضالاتهما في هذا. ونجحت السلطة في ضربهما معا.

كما تمّ في الوقت نفسه، وبالتزامن مع حركة « فاش نستنّاو؟ » وتحرّكات الجبهة الشعبيّة في الشارع وفي وسائل الإعلام، تأجيج أعمال تخريب وسرقة ليليّة للتشويش على الحملة الاحتجاجيّة للشباب التونسي. وعملت السلطة على التلبيس المتعمّد بين الأعمال التخريبيّة الليليّة وبين تحرّكات حملة شباب « فاش نستنّاو؟ » التي كانت تدور أغلبها في النهار. وتزامن ظهور الحملة أيضا مع دعوة الجبهة الشعبيّة للتظاهر لنفس الداعي الذي نشأت بسببه حملة « فاش نستنّاو؟ » ألا وهو قانون الماليّة لسنة 2018. وهو ما جعل الحكومة تربط بين الجبهة و »فاش نستنّاو؟ » وأعمال التخريب الليليّة في سياسة إعلاميّة ممنهجة لاشكّ في أنّها كانت تقوم على تمويلات هائلة لتنجح في خلخلة هذه التحرّكات المجتمعة وقطع الطريق أمامها قبل أن تصل إلى غايتها.

وفي الوقت الذي كانت فيه الحملة تتعرّض للتشويه الإعلامي وللمحاصرة والقمع الأمنيّين والمحاكمات الظالمة، كان الاتحاد العام التونسي للشغل صامتا في إطار التضامن بين مكوّنات اتفاق قرطاج مع نداء تونس وحركة النهضة واتحاد الصناعة والتجارة وبقيّة المكوّنات المعادية لمصالح الشعب التونسي برعاية رئيس الجمهوريّة. وللتذكير، فإنّ اتحاد الشغل كان قد قاد حملة وطنيّة لرفض قانون الماليّة لسنة 2017 وساندته كلّ الأطراف الاجتماعيّة منظّمات وأحزابا. وهدّد بالإضراب العام لأنّ قانون الماليّة حذف المفاوضات الاجتماعيّة على الزيادة في الأجور وعلّقها. ونجح الاتحاد في تعديل محتوى القانون وأعاد له نقطة المفاوضات الاجتماعيّة.

لكنّ قانون الماليّة لسنة 2018 كان أسوأ على الفئات الشعبيّة وأخطر وأفدح. ومع ذلك صمت الاتحاد. وانحاز للسلطة بشكل مريع لم يعرفه الاتحاد منذ 1978. وترك شباب « فاش نستنّاو؟ » ومناضلي الجبهة الشعبيّة في مواجهة مصيرهم أمام عنف السلطة رغم أنّ ما قاموا به هو دور الاتحاد الذي كان من المفروض أن يؤدّيه ولكنّه تخلّى عنه بداعي التضامن مع الحكومة ورئيسها والتزاما بشروط المشاركة في الحكم تحت راية اتفاق قرطاج، كما قلنا. وكان تخلّي الاتحاد عن هذه الحركة الاحتجاجيّة أسوأ ما حدث لها. وهنا كان التنافر الكامل بين اندفاع شباب حملة « فاش نستنّاو؟ » وبين ردّة اتحاد الشغل وانكماشه وسدّ أبوابه أمام المدّ الاحتجاجي على قانون الماليّة لسنة 2018.



تقييم تجربة حملة « فاش نستنّاو؟ »
لقد حقّق اعتصام الرحيل غايته في إسقاط حكومة الترويكا وإسقاط دستور 1 جوان 2013. ثمّ زال بزوال غايته. بينما الـ UDC تمأسس وتهيكل واستقرّ في المشهد المنظّماتي في تونس وله أنشطته التكوينيّة ومؤسّسات قراره المنتخبة التي تؤطّر تحرّكاته وتنظّمها. وقد حقّقت نضالاته جزءا من أهدافها لاسيما في تشغيل عدد من المفروزين أمنيّا ومازالت أجزاء أخرى كثيرة تنتظر. ووجوده سيستمرّ باستمرار أزمة البطالة والتعطيل عن العمل باعتبارها أزمة هيكليّة للدولة. وما الاعتراف به ومنحه التأشيرة من قبل السلطة النيوليبراليّة القائمة في تونس من بن علي إلى اليوم إلاّ إقرار بأزمتها الهيكليّة وبعجزها عن تقديم حلول آنيّة أو استشرافيّة لمحنة البطالة بسبب خياراتها التنمويّة المعادية للفئات الاجتماعيّة الهشّة وخياراتها الاقتصاديّة التابعة.

بينما « فاش نستنّاو؟ » أمر مختلف عنهما. فهي حملة مرتبطة بشيء بعينه هو قانون الماليّة 2018. ولكنّ قانون الماليّة لم يزل بينما « فاش نستنّاو؟ » زالت! وهذا أمر غريب إذا استثنينا الحملة الدعائيّة والأمنيّة ضدّها فإنّ الشروط الماديّة والجدليّة لاستمرارها مازالت مستمرّة. فلماذا زالت ولم تستمرّ رغم أنّ الأزمة الاقتصاديّة المنجرّة عن قانون الماليّة 2018 تتضخّم ورغم أنّ الواقع أثبت صحّة وجهة نظر الحملة ووجاهتها؟

إنّ تقييم تجربة « فاش نستنّاو؟ » يكون في سياقين؛ فردي وعام. في السياق الفردي، يبدو أنّ المشاركة في التحرّك الجماعي لـ « فاش نستنّاو؟ » لم تكن محسوبة بدقّة ولم تكن مدوزنة بشكل علمي لتقسيط مصادر الطاقات المستثمرة في التحرّكات التي تكثّفت في فترة قصيرة وتوزّعت أفقيّا على 18 ولاية من جملة 24. وإذا كان المشاركون في الحملة يتميّزون بدرجة عالية من العقلانيّة (Rationalité) لكان بإمكانهم قياس انتظاراتهم من الآخرين بشأن التعبئة العامّة ضدّ قانون الماليّة 2018 بالنظر إلى الأداء الكارثي والاشتراك في صفة التغيّب العام من الشأن العام عند عامّة الناس لاسيما في ظلّ الموقف السلبي لاتحاد الشغل. بمعنى آخرـ تعرّضت حملة « فاش نستنّاو؟ » للخذلان وحتى للخيانة.

بمعنى آخر، إنّ حملة « فاش نستنّاو؟ » تمّ الإجهاض عليها في المهد رغم ما حملته من شروط النجاح والاستمرار الجدليّة منها والتاريخيّة والموضوعيّة. ولكنّ الحركة الاجتماعيّة خصبة وولاّدة ولاشكّ في أنّ « فاش نستنّاو؟ » ستعود في تمظهرات وتشكّلات جديدة في نفس الإطار الاحتجاجي الاجتماعي الاقتصادي.

وفي السياق العام أي بوضع « فاش نستنّاو؟ » في سياق الحركات الاجتماعيّة في تونس، وعندما نقارب الموضوع من هذه الزاوية، لا يمكن لنا بأيّ معنى من المعاني أن نغفل مناقشة ما بلغه بعض الباحثين لاسيما ياسين النابلي من حديث عن أزمة شاملة في الحركات الاجتماعيّة، أزمة ذات معضلتين؛ الأولى هيكليّة تتمثّل في « حضورها المتشتت وتحركّها كجماعات وكيانات غير متجانسة في تركيبتها »، والثانية سياسيّة مفادها « هيمنة الطابع المطلبي والخصوصي الذي أعاق إمكانيّة اندماج منظومة الاحتجاج الاجتماعي ضمن برنامج سياسي شامل، وفي بعض الأحيان توفّر النزعات ”الشعبويّة“ و ”الجهويّة“ ».[3]

إنّ المسألة من زاوية نظر ياسين النابلي تجعل هذا الباحث أمام حرج جدلي في المقاربة. فما يدافع عنه ويعتبر أنّه مسلك للخلاص من أزمة الحكم الهيكليّة يقرّ بأنّه هو أيضا يعاني من أزمة هيكليّة. فكيف نعالج أزمة هيكليّة بسلاح يشكو أزمة هيكليّة؟ ولهذا أعتقد أنّ ياسين لم يحسن هنا التحكّم في أدواته التحليليّة والنقديّة.

كما أنّ كلام ياسين النابلي الوارد في مقاله المؤرّخ في 29 سبتمبر 2017 أي قبل انبثاق حملة « فاش نستنّاو » بثلاثة أشهر تقريبا يستدعي النقاش أيضا. يقول: « هذا الواقع الجديد الذي انفتحت عليه حركة المجتمع بشكل عام، شهد تُخمة كميّة في الاحتجاج دون أن يترك تأثيرا كيفيّا في السياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الرسميّة. »[4] فما أخشاه أن يكون هذا الكلام عدميّا بمعنى عدم الاعتراف للحركات الاجتماعيّة في تونس بأيّ إنجاز. ومع ذلك أتّفق مع ياسين في أنّ هذه الحركات الاجتماعيّة لم تغيّر السياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الرسميّة حتى وإن نجحت مرّتين في إسقاط النظام السياسي سنتي 2011 و2013. وما أثبته نضال الحركات الاجتماعيّة في تونس أنّ إسقاط نظام سياسي أسهل بكثير من إسقاط نظام اقتصادي.

والخلاصة أنّ السلطة متى نجحت في قطع الاتصال بين مثلث النضال الاجتماعي المتكوّن من الحركات الاجتماعيّة والأحزاب اليساريّة والمعارضة عموما (أساسا الجبهة الشعبيّة/ التيّار الديمقراطي/ حركة الشعب) والقوى المدنيّة الاجتماعيّة (الاتحاد العام التونسي للشغل) فإنّ النضالات الاجتماعيّة ستظلّ مبتورة مشلولة ولن تحقّق مطالبها التي تحرّكت من أجلها. والأمثلة المؤكّدة لهذه النتيجة كثيرة، منها نضال « فاش نستنّاو؟ » ونضالات شباب الحوض المنجمي في المظيلّة والرديّف وأم العرائس ونضال شباب المناطق التي تتواجد فيها الثروات النفطيّة والمجامع الكيمياويّة ونضال الشباب المعطّل المفقّر في الجهات المظلومة (ظلمتها الدولة طبعا) في القصرين وسيدي بوزيد والقيروان وسليانة والكاف وجندوبة وأرياف بنزرت كجومين وسجنان.

ولتأكيد النتيجة أكثر، نأخذ مثالا معاكسا (contre-exemple)؛ اتحاد أصحاب الشهائد المعطّلين عن العمل عندما تبنّى إحدى قضاياه، وهي قضيّة قدماء الاتحاد العام لطلبة تونس المفروزين أمنيّا، نوّابُ الجبهة الشعبيّة والاتحاد العام التونسي للشغل، حقّق نجاحا في هذا الملفّ فاق الـ 50% بعد أن وقع الضغط المتضافر على الحكومة وتشكّلت لجنة في رئاسة الحكومة ضمّت هذه الأطراف الثلاثة إلى جانب الطرف الحكومي. وتمّ، تبعا لذلك، تشغيل عدد مهمّ من المفروزين أمنيّا منذ 2015.

الهوامش

[1] إيريك نوفو (Erik Neveu) هو باحث فرنسي في علم الاجتماع وعلم السياسة وأستاذ العلوم السياسيّة والاجتماعيّة بجامعة ران. (1952- …) يقول معرّفا الحركة الاجتماعيّة:

«Un mouvement social est un agir ensemble intentionnel, marqué par le projet des protagonistes de se mobiliser de concert. Cet agir ensemble se développe dans une logique de revendicatif et de défense d’intérêt ou d’une cause.» Erik Neveu, Sociologie des mouvements sociaux, La découverte, 2000.

[2] يقول إيريك نوفو حول هذه الإشكاليّة:

«Un mouvement social est-il nécessairement politique? Cela passe par une délimitation du politique : prend une charge politique, tout mouvement qui fait appel aux autorités politique pour apporter la réponse à une revendication mais qui impute aussi aux autorités une responsabilité dans le problème qui est à l’origine de la mobilisation.» Ibid.

[3] ياسين النابلي: الحركات الاجتماعيّة والإصلاحات الاقتصاديّة: الشتاء قادم، موقع نواة، 29 سبتمبر 2017

[4] انظر ياسين النابلي: أحداث 26 جانفي 78: ذاكرة مهرّبة من دفاتر النظام، موقع نواة 26 جانفي 2016