رسالة إلى حسين عبد الرازق من السجن


فريدة النقاش
2018 / 9 / 14 - 00:56     


هذا يوم جديد بكل معني، يوم يخرج عن الايقاع العام، هذا الكا بوس الثقيل الأخير، اليوم زارني محمود سامي ومحمود المراغي، وعرفت خبر الافراج عنك، وكنت بالامس قد حدثتك طويلا فى المساء حين انقطع التيار الكهربائي، وكنت حينئذ على يقين من انك مازلت فى سجن « طرة» فتحت شباكي لعل الرسالة الصامتة تخرج خلسة، وفتحته ايضا لكي اسمع صوت الصراصير التي تتحلق فى دوائر ومربعات وطوابير، تخلق جوا كافكاويا حقيقيا، وقلت ولكني سوف أسمع وأري بتعمد لكي أشاركك وأشكر كل الأحباء المقيمين فى طرة، حيث القذارة والفئران والصراصير والروائح العفنة، ثم اقول هذا نزوع مازوكي، هذه نزوة نحن نكسب ولو قليلا لو تجنب أحدنا الآلام، والتفت لأطل على الحديقة المهملة، ولكنهم والحق يقال نظفوها بالامس، قلموا شجرتي وامطروا الحشائش بمياه غزيرة، كان مدير المنطقة يزورنا، وفجأة وضعت قطعا من الطوب الاحمر المطلي بالطباشير طلاء رديئا للغاية، وضعت حول الحشائش، ورفعت اكوم القمامة التي تراكمت منذ شهر، وطلبت الادارة من كل الزبائن بأدب وبسوء ادب ان ينظفوا اماكنهم، ولكني الان ادركت ان مشاركتي فى الاحتفال الصامت من شباكي لانك كنت سوف تخرج فى المساء، ولكن هذا كذب يا حبيبي فأنا فرحة للغاية لان حدسي لم يكن صادقا، بالامس نفسه، ذلك الامس الملئ بالاثارة، غفوت قليلا فى الرابعة، وبعدما يقل عن خمس دقائق قمت فزعة جدا على صوت صرخة عالية من جاسر، كان يبكي ويتألم وقد غاصت روحي ولكنني تشبثت بالهدوء وناديتك، والآن انا اعرف ان القلق يصنع الخيال المحموم ويبذر الآلام الموهومة فى روحنا.
والآن انت هناك وقد تراجعت لغة الغياب التي يتقنها الاولاد، سميتها انا لغة الغياب حين يستيقظ الاطفال فجأة ويكون عليهم ان ينادوا أشخاصًا آخرين غير أبيهم وأمهم، أشخاصا يحبونهم ولكنهم ليسوا الآباء والأمهات بالذات، وان يتكملوا عنهم بضمير الغائب، هل هذه ميلودراما لا أعرف ولكنها فى كل الحالات مؤلمة. الآن انت طليق تستطيع ان تحضن رشا وجاسر كيفما شئت وان تفكر بي والمدي امامك اوسع، ذلك رائع يا حبيبي الطيب الشجاع، الآن اطمأن قلبي وأعرف أن لهذا الاطمئنان ثمنا سوف تدفعه انت، سوف تكون مجهدا قلقا من اجلي تتخيلني كما كنت افعل انا- وحيدة ومهمومة من اجلكم تتوتر الي الداخل، وتذهب الي الحزب حيث يتراكم العمل وتتزايد المهام، ولكن صدقني، بماذا اقسم، بعالمي الصغير الجميل الذي يضم ثلاثتكم، الذي امنحه قلبي وعمري انني الآن سعيدة وانني لا هتم لو طال السجن.
اقرأ كثيرا واتذكر اكثر، واتأمل اشياء كانت زحمة الحياة والعمل قد عفرتها، من بين ما اخذت اتأمله فى الفراغ الطويل، فكرة بدأت جنينية واخذت تلح على تتبلور فى «الزمن الموحش» الحق ان لا علاقة لها بالسجن، وهي ان الانسان فى كل اشكال سعيه الي تحسين وجه العالم وخلق عالم اجمل وافضل، يقصد غريزيا وروحيا الي هزيمة الموت، فعلاقة الانسان بهذه الارض وما عليها ومن عليها، تصنع طموحاته وأمانيه حتي تلك التي تخص العالم الآخر، اليست هذه بعض مباهج الانفراد بالنفس، نحن نطرح أسئلة لا نجد الوقت ابدا لطرحها على وجهها الصحيح، وهكذا تري ان وطأة السجن تزول تدريجيا بالنسبة للسجين فى حين يتحملها الاحباء فى الخارج، انتم لا تجدون الوقت لتأمل شيء مترف كهذا قليلا، وليست لكم ذكريات حاضرة سوانا، اليس كذلك؟ اتأمل اشياء اشد جوهرية ولكنني احتاج الي كتبي حتي تتبلور افكاري بصورة افضل، تهزم البورجوازية الصغيرة الموت بالسعي المضني الي الجاه الاجتماعي، بالتحصيل المستمر والصعود المتصل فى السلم الاجتماعي، وتحقيق الوجاهة، هنا تستند الزوجة الي كتف المهندس العظيم او الطبيب الذائع التي فلا يتحقق امنها النفسي فى الحب فقط او الاطفال فقط وانما فى هذا الوجود المعنوي الذي يظللها ايضا، حين تتنازل للزوج كلية عن كيانها الخاص، اما الرجل فهو يستغرق نفسه فى خلق هذا الوجود، انهم جزر معزولة حتي فى هذه القضية يحلون مشكلاته مع العالم الآخر سرا، اما كبار البورجوازيين خصوصا الطفيليين الذين لا يتقنون شيئا سوي الفراغ فإنهم يهزمون الموت بفن المجون، الذي يجيدونه ويحسنونه مع الوقت وهم يخلقون لنا تلك الظواهر الشائْهة جدا الآن وتسمي فنانات، نساء يغنين ويرقصن ويمثلن ويجدن فى كل عمل على حدة فن المجون، ولا يعرف احد صلة اخري يمكن أن تربط هاته النساء بالفنون، المجون يرتبط ايضا باطيب الطعام والبخور والعطور بالنهم، والزمن شاسع وليس مطلوبا من احدهم ان يجتهد للتقدم او ان يعمل خلق شيء، فكل شيء قائم وجاهز دون معوقات، لا الشعب يعنيهم ولا المستقبل. أما الطبقات الشعبية فإنها تهزم الموت إذا ما تذكرته فى اوج شقائها- باحالته الي الاخرة التي يثقون فى انها قادمة هناك حيث الثواب والعقاب الرادعين، ولأنهم كثيرون ولأن الموت ضيف معتاد وأليف يخطف الكبار والاطفال بحرية، فإنهم يعقدون معه هذه الصلة القوية ويقيمون له الطقوس، ويلجأون الي هذا اليقين الكلي والكاسح الذي لا يناقش وهو قيام الموتي فى الاخرة حيث يهزم الموت من تلقاء نفسه الي الابد، يلتئم الشمل الذي بعثرته الحياة من جديد.
يقول نجيب محفوظ ان الشعب كثير العدد جدا، وهو يتكاثر بسرعة ومن اجل هذا هو يرشح البورجوازية الصغيرة باعتبارها اقل عددا واكثر ثقافة لقيادة العالم بصفة دائمة، ربما لأن الشعب كثير العدد تحصده الدبابات او المجاعات بحرية، لا يهم. أشعر الآن انه لابد لي من الخروج من هذه الدائرة المخيقة، ما الذي جعلني أبدا رسالة بهيجة وانهيها نهاية حزينة، ربما لأن جارتي سعاد الصغيرة المريضة الحلوة، قد فقدت ابنتها ذات الشهرين هذا الصباح، وهي لا تعرف عنوانا لوالد البنت المجند فى الجيش، وقد ظلت تبكي بحرقة يمكن ان تدمي قلوب البلدان جميعا فى هذا العالم.
وكانت سعد منذ اسبوع قد ظنت ان ابنتها ماتت وأقامت نفس المناحة، ولكن الدكتورة اكتشف ان البنت لاتزال حية وان كانت تعاني من نزلة معوية حادة وحالة جفاف، تماما كما اقرت هي نفسها- الدكتورة- ان ذراع البنت سامية ذات السبعة عشرة عاما لاتزال حية، سامية لا تقوي على تحريك ذراعها، لأن بوليس الاداب حين هاجم الشقة التي كانت تعمل بها خادمة وعشيقة القت بنفسها من النافذة فانكسرت ذراعها ولم يهتم احد، هذه بعض هموم العالم هنا تطل على ولا استطيع ان امنعها من التسلل الي قلبي احيانا مهما اقمت من المتاريس وتشبثت بالصلابة الروحية الضرورية او اقنعت نفسي بأن الهموم لا تأتي فرادي، وبأن ذلك شيء منطقي فى السجن، ان يموت الاطفال الصغار، وأن تعجز سامية عن إجراء عملية فى ذراعها ليستيقظ تماما. ومع ذلك اتوهج فرحا برجوعك، هذا اجمل رجوع لك منذ التقينا.
احبك لأنك رجع للاطفال وسوف اظل احبك حتي لو سجنت من جديد- وطبعا سوف تسجن- ماذا اقول؟!، الشجر كثير جدا هنا على حافة السور، وهناك اوراق تسرع فى النمو ليلا وخفية لتبشرنا من خلف عيون المخبرين السريين والسجانين العميان ان عالمنا يبزغ رغم كل شيء، وان رايتنا المنتصرة ترتفع فى مواقع كثيرة من العالم بتضحيات افضل الناس، وان احزاننا لا تعوقنا، لأنها بعض من فيض أحزان الشعب الذي ندين له بالولاء ونؤمن به ونتعلم منه، هذا ختام احبه لرسالة جاءت رغم انفى حزينة.