فلاديمير لينين-كلمات تنبؤية


عمرو عاشور
2018 / 9 / 10 - 03:38     

ترجمة: عمرو عاشور
مراجعة: أحمد البلتاجي
كلمات تنبؤية
فلاديمير لينين

لا أحد، شكرا لله، يصدق المعجزات اليوم. النبوءة الإعجازية هي قصة خرافية. ولكن النبؤة العلمية حقيقة. وفي تلك الأيام، إذ كثيراً ما نواجه يأسا مشينا وقنوطا حولنا، فمن المفيد استعادة نبوءة علمية واحدة قد تحققت.
امتلك فريدريك إنجلز الفرصة عام 1887 للكتابة عن الحرب العالمية المقبلة في مقدمة كتيب زِغيسمونت بورخايم، تخليداً لذكري الوطنيين الألمان العظام لعامي 1806-1807م.
(ذلك الكتاب هو الخامس والعشرون من مكتبة الاشتراكيين الديموقراطيين المنشور في غوتنغن-زيورخ عام 1888م)
هكذا تكلم فريدريك إنجلز منذ ثلاثين عاماً مضت قبل الحرب العالمية المستقبلية:-
"لا حرب ممكنة لبروسيا-ألمانيا باستثناء حرب عالمية، وفي الحقيقة هي حرب لم يُتخيل حتي اليوم ضخامتها وعنفها. سيقتل من ثمانية لعشرة ملايين جندي بعضهم البعض، وخلال ذلك ستُفترس أوروبا حتي يعرونها بشكلٍ يفوق ما يمكن أن يفعله أي سربٍ من الجراد. خراب حرب الثلاثين عاماً مركزةً في ثلاث أو أربع سنوات، وعلي امتداد القارة بأكملها، مجاعة ووباء وإضعاف عام للمعنويات عند كلٍّ من الجيوش وجماهير الشعب نتيجة المحنة الحادة، فوضي ميئوس منها لآليتنا الصناعية في التجارة والصناعة والائتمان، تُختتم بإفلاس عام وانهيار للدول القديمة مصحوبةً بحكمتها التقليدية إلى الحد الذي ستتدحرج فيه التيجان بالعشرات علي الرصيف ولن يكون هناك أحد ليلتقطها، يستحيل تمامًا التنبؤ بكيفية انتهاء كل هذا ومَن سيخرج مِن الصراع منتصرًا، نتيجة واحدة فقط محتومة بالتأكيد وهي إنهاك عام وإرساء لأوضاع النصر النهائي للطبقة العاملة."
"ذلك هو المرتقب حين يُؤخذ نظام المزايدة المتبادلة في التسلح إلي أقصي حد، ويُعطي ثماره المحتومة في النهاية. هذا أيها السادة والأمراء ورجال الدولة، ما فعلته حكمتكم بأوروبا القديمة. وحين لا يتبقي لكم شيء إضافي إلا الشروع برقصة الحرب الأخيرة التي ستعطينا جميعًا الحق. قد تدفعنا الحرب مؤقتًا إلى الخلفية، قد ينتزع منا العديد من المواقع التي سبق واكتسبناها. ولكن عندما تمتلك قواتًا غير مقيدة والتي لن تستطيع السيطرة عليها مرةً أخري، قد تسير الأمور كما يرغبون هم: ففي نهاية المأساة ستُدمَّر، وسيكون انتصار البروليتاريا قد تحقق بالفعل أو مُحتَّمًا حدوثه عند أي درجة."
فريدريك إنجلز،لندن
15 ديسمبر،1887

أي عبقريةٍ مطروحة في تلك النبوءة، غير معقولٍ ذلك الثراء اللانهائي في الأفكار بكل جملةٍ من ذلك التحليل الطبقي العلمي والمقتضب والواضح والمتقن، ما مقدار ما يمكن تعلمه من ذلك التحليل بواسطة من يستسلمون الأن بشكل مخزي للنقص في النظرية واليأس والقنوط. لو..لو أن الأشخاص المعتادين علي تملق البرجوازية، أو الذين يسمحون لأنفسهم بالخوف منهم، فكروا، لو استطاعوا فقط التفكير.
بعض من توقعات إنجلز قد تحقق بشكل مختلف؛ ولم يتوقع المرء أن يظل العالم والرأسمالية دون تغيير خلال ثلاثين عامًا من التطور الإمبريالي المسعور. ولكن الأكثر إدهاشًا هو تحقق العديد من تنبؤات إنجلز بدقة بالغة. لأن إنجلز وضع تحليلا طبقيا متقنا تمامًا، وظلت الطبقات والعلاقات بينها دون تغيير.
"قد تدفعنا الحرب مؤقتًا إلي الخلف"
جرت الوقائع وفق تلك المجريات تمامًا، بل ذهبت أبعد وأسوء أيضًا: بعض الذين "دُفعوا إلي الخلف" من الاشتراكيين الشوفينيين وأشباه خصومهم الحقراء من الكاوتسكيين، قد أشادوا بحركتهم الرجعية وأصبحوا خونةً مباشرين للإشتراكية.
"قد يُنتزع منا العديد من المواقع التي سبق واكتسبناها"
تم انتزاع العديد من المواقع "القانونية" من الطبقة العاملة، بيد أن التجارب قد صقلت الطبقة العاملة كالفولاذ، بالإضافة إلي تلقينها دروسًا قاسية ولكن مفيدة في التنظيم والكفاح غير القانوني وفي إعداد قواتها للهجوم الثوري.
"ستتدحرج التيجان بالعشرات"
سقط بالفعل العديد من التيجان. وواحدٌ منهم (التاج الأوتوقراطي لعموم روسيا نيقولا رومانوف) يساوي العشرات من الأخرين.
"يستحيل تماماً التنبؤ بكيفية انتهاء كل هذا"
بعد أربع سنوات من الحرب أصبحت الاستحالة التامة، لو أن هذا ممكنًا، أكثر تعقيداً وغموضاُ.
"فوضي ميئوس منها لآليتنا الصناعية في التجارة والصناعة والائتمان"
تم إثبات صحة هذا بالكامل في نهاية السنة الرابعة من الحرب في الحالة الروسية، حيث واحدة من أكبر وأكثر الدول الرجعية الغارقة في الحرب بواسطة رأسمالييها. ولكن ألا تُظهر المجاعة المتزايدة في ألمانيا والنمسا ونقص الكساء والمواد الخام وتلف وسائل الانتاج، أن وضعا مماثلا يداهم سريعًا الدول الأخرى كذلك؟
يصور إنجلز نتائج الحرب الخارجية فقط، ولا يتناول العوامل الداخلية، والحرب الأهلية، والتي بدونها استحال علي أي من الثورات العظيمة في التاريخ أن تحدث، والتي بدونها استحال علي أي ماركسي ملتزم تصور الانتقال من الرأسمالية للاشتراكية. وبينما يمكن لحرب خارجية أن تستمر لبعض الوقت دون التسبب في "فوضي ميئوس منها" في "الآلية الصناعية" للرأسمالية، فمن الواضح أنه لا يمكن تخيل حرب أهلية بدون تلك النتيجة.
أي غباءٍ وضعف (ولا أعني بذلك خدمات مأجورة للبرجوازية) ظاهر عند هؤلاء(مثل جماعة مجلة نوفايا جيزن والمناشفة ويمين الاشتراكيين الثوريين، إلخ) بينما يستمرون في تسمية أنفسهم بالاشتراكيين. يشيرون بعدائية لمظهر "الفوضي الميئوس منها" ويضعون كل شيءٍ على البروليتاريا الثورية والسلطة السوفيتيية وطوباوية الانتقال للاشتراكية. الفوضى أو "رازروجا" حتي نستخدم الكلمة الروسية الدقيقة، نتجت عن الحرب. لا توجد حرب بدون فوضى. لا توجد حرب أهلية (الشرط الضروري والملازم للثورة الاشتراكية) بدون فوضى. أن تفرّط في في الثورة والاشتراكية بسبب الفوضى، لا يعني سوي إظهار الفقر النظري للمرء، وعمليًا، معناه التنازل لصالح البرجوازية.
"مجاعة ووباء وإضعاف عام للمعنويات عند كلٍّ من الجيوش وجماهير الشعب نتيجة المحنة الحادة"
كيف ببساطة ووضوح يرسم إنجلز استنتاجه المفروغ منه، والذي لا بد وأن يكون بديهيًّا لكل فرد قادر علي التفكير في العواقب الفعلية للعديد من سنوات الحرب الشديدة والمأساوية. وكيف بالعديد من هؤلاء الحمقي بشكل مدهش من الإشتراكيين الديموقراطيين والمزيفين الذين لن يدركوا -أو غير قادرين علي إدراك- تلك الفكرة المفرطة في بساطتها.
هل من الوارد لحرب أن تستمر سنين عديدة دون التسبب في إحباط عام معنوي عند كلٍّ من الجيوش وجماهير الشعب؟ بالطبع لا. مثل تلك النتيجة لحرب طويلة محتومة تماماً علي فترة من سنوات عديدة، إن لم يكن علي مدار جيل كامل. و"رجالنا ذوي الشِيلان"، مفكرو البرجوازية المتباكين المدعوين زيفًا بالاشتراكيين الديمقراطيين والاشتراكيين، يأيدون البرجوازية في لوم الثورة علي مظاهر الإحباط المعنوي أو علي القسوة المحتّمة للإجراءات التي اتُخذت لمجابهة حالات الاحباط الشديد خصيصًا، بالرغم من أنه واضحٌ وضوح النهار أن حالة الإحباط تلك نتيجة للحرب الإمبريالية، ولا ثورة تستطيع تخليص نفسها من نتائج الحرب تلك بدون صراع طويل وبدون عدد من تدابير الردع الحازمة.
كُتّابنا المعسولون في نوفايا جيزن أو فبيريود أو دييلو نارودا مجهزون نظريًّا للإقرار بثورة البروليتاريا والطبقات الأخري المقموعة، شريطة ان تسقط الثورة من السماء دون أن تولد أو تتكاثر علي الأرض مخلوطةً بدماء أربع سنوات من القتل الإمبريالي للجماهير مع ملايين وملايين من الجماهير المُستنزفة والمُعذبة والمُحبطة نتيجة تلك المجزرة.
لقد سمعوا واعترفوا نظريًّا أن الثورة يجب أن تقارَن بفعل الولادة، ولكن عند تحقق الأمر، قد تملَّكهم الرعب، وأنينهم الجبان قد ردّد هجمة البرجوازية البغيضة ضد تمرد البروليتاريا. خذ بعين الاعتبار فعل الولادة مقدمًّا في الأدب، حيث يسعى المؤلفون لسرد صورة صادقة عن قساوة وألم وخوف المخاض، كما في بهجة الحياة لإميل زولا أو ملاحظات طبيب لفيريساييف. ففعل الولادة البشرية يحول المرأة إلي كومة من اللحم هامدة وملطخة بالدماء ومُعذَّبة ومتألمة ومُنساقة باضطرابٍ بواسطة الألم،ولكن هل يمكن اعتبار "الفرد" الذي يري هذا فقط في الحب وتتمتِه، في تحول المرأة إلي أم، إنساناً؟ من يتخلى عن الحب والإنجاب لهذا السبب؟
قد يكون المخاض ضئيلا أو أليما. مؤسسو الأشتراكية العلمية ماركس وإنجلز، دائمًا ما قالا بأن الانتقال من الرأسمالية للاشتراكية سيكون حتمًا مصحوبا بآلام ولادة مُطوّلة. وبتحليل نتائج حرب عالمية، يلخص إنجلز ببساطة ووضوح الحقيقة الواضحة والمفروغ منها أن الثورة التالية والمرتبطة بحرب(ولا يزال المزيد، فلنضف بدورنا، ثورة تندلع خلال الحرب، وتضطر إلي النمو والمحافظة علي نفسها في وسط حرب عالمية) هي بوجه خاص حالة ولادة شديدة.
مدركًا ذلك بوضوح، يتحدث إنجلز بحذر شديد عن اشتراكية تأتي للوجود بواسطة مجتمع رأسمالي يحتضر في حرب عالمية، فيقول "نتيجة واحدة فقط محتومة بالتأكيد (نتيجة الحرب العالمية) وهي إنهاك عام وإرساء لأوضاعا النصر النهائي للطبقة العاملة"
هذا الإستبصار مُعبَّر عنه بوضوحٍ أكثر في نهاية المقدمة التي نتفحصها.
"ففي نهاية المأساة سيُدَمَّر(الرأسماليون وملاك الأراضي والملوك ورجال الدولة البرجوازية) وسيكون انتصار البروليتاريا قد تحقق بالفعل أو مُحتَّمًا حدوثه عند أي درجة"
يزيد المخاض الشديد من خطر الموت أو الإصابة المُهلكة. ولكن بينما يمكن للأفراد أن يموتوا من جراء ذلك، فإن المجتمع الجديد الذي يولد من القديم لا يمكنه ذلك، فأقصي ما يمكن حدوثه ازدياد حدة الألم ومدته وبطء النمو والتطور.
لم تنته الحرب بعد. والإنهاك العام قد بدأ بالفعل. وفيما يتعلق بنتيجتيّ الحرب المباشرتين اللتان تنبأ بهما إنجلز شرطيًّا (إما أن انتصار الطبقة العاملة قد تحقق بالفعل، أو إرساء الأوضاع التي ستجعله محتومًا، رغم كل الصعوبات) بخصوص ذلك الظرفين، نجد الآن في منتصف عام 1918 أن كليهما قد تحقق.
في دولة واحدة، هي الأقل تطورًا من بين الدول الرأسمالية، نجد انتصار الطبقة العاملة قد تحقق بالفعل. في الدول الأخري، يتم إرساء الأوضاع التي ستجعل ذلك الانتصار "محتّمًا حدوثه عند أي درجة" بمجهود وألم لا نظير لهما.
دع "الاشتراكيين" المتباكين يصيحون، دع البرجوازية تغضب وتثور، ولكن فقط من يغلقون أعينهم حتي لا يروا، ويسدون أذانهم حتي لا يسمعوا، سيفشلون في ملاحظة أن مخاض ولادة المجتمع الاشتراكي من الرأسمالي قد بدأ حول العالم. بلدنا، والذي ارتقى مؤقتًا بفعل مسيرة الأحداث إلى طليعة الثورة الاشتراكية، يجتاز بصورة استثنائية آلام المرحلة الأولى الحادة من المخاض. لدينا كل سببٍ لنواجه المستقبل بثقة تامة واطمئنان كامل، حيث يُجهِّز لنا حلفاءَ جدد وانتصاراتٍ جديدة للثورة الاشتراكية في عدد من أكثر الدول تطورًا. من حقنا الافتخار واعتبار أنفسنا محظوظين ليكون من نصيبنا، أننا أول من انتظم في جزءٍ واحد من الكوكب، الذي أغرقه ذلك الوحش البري المعروف بالرأسمالية في الدماء وأنزل البشرية لمستوى الجوع والإحباط المعنوي، والذي بالتأكيد سيندثر قريبًا، مهما كانت بشاعة وبربرية جنونه أمام الموت.

رابط المقال: https://www.marxists.org/archive/lenin/works/1918/jun/29b.htm